مأساة مسلمى الروهينجا

 

ثلاثية التطرف
Sameh Eledwy

ثلاثية التطرف

     يُعتبر النص الديني ثريًّا ومرنًا وحَمّالَ أَوْجُهٍ؛ كما يقول السادة العلماء ــ في غالب أحواله ــ فهل هذه الميزة هي ما جعلت النصَّ مُستَغَلًّا من قِبَل الجماعات المتطرفة قديمًا وحديثًا؟ أو أن القضية تكمن في طبيعة المتطرف المتلونة التي تسعى بجهدٍ جهيد لاستغلال كل ما يستطيع استغلاله، حتى وإن كان نصًّا مُقَدَّسًا؟
الحقيقة أن القضية متشابكة ولا يمكن الفصل والقطع فيها بسبب دون الآخر؛ بل هناك تداخل وتلاحم بين الأسباب والدوافع المتغايرة المختلفة التي تُشَكِّل في النهاية عقلية ووِجدان المتطرف وتدفعه، بل تسوقه سوقًا نحو المصير الأسود الذي نعرفه جميعًا.
وإذا كانت القضية جدّ شائكة، فلابد أن نتحسَّس أطرافها خيطًا خيطًا حتى نفكَّ هذه الإشكالية بما يساعد على فهم هذه العملية المعقدة التي قد تدفع أحدًا نحو التطرف والإرهاب، ونسهم في الوقاية التي نطلبها لمجتمعاتنا.
بدايةً؛ فإن النصوص الدينية غنيَّة وثريَّة، وأحيانًا يُستغل هذا الغَناء وذاك الثراء ممن تُسَوِّل له نفسه العبث بتلك النصوص والتلاعب بها؛ حيث يُحَمِّلها من المعاني ما يخدم مصالحَه وقناعاتِه، وليست هذه هي المشكلة الوحيدة؛ بل الإشكالية الكبرى تكمن في المُتعامِل مع النص الديني وكيف يَتعاطى النص؟ وهل يعرف الآليات العلمية المنهجية المُتَّبَعة في دراسة وتفسير النص واستنباط الأحكام منه؟ وهل هو مُلِمٌّ بعلوم اللغة العربية وغيرها من علوم الآلة إلمامًا كافيًا، يجعله يدرك ما تحتمله الكلمة من أَوْجُه وما الذي يُرَجِّح وجهًا على وجه؟
كل هذه الشروط العلمية - وغيرها الكثير- تعمل كـ"ضابط مرور" يحافظ على أمن وسلامة المواطنين، ولا يمكننا قّطُّ أن نعتبر تفسيرَ أحدٍ وترويجَه لفكرةٍ ما صحيحًا، قبل أن يمرّ بهذه الآليّة العلمية المنهجية؛ دراسةً وبحثًا وتوثيقًا.
ولعل مشكلة المتطرف تكمن في أكثر من جانب؛ منها ما يتعلق بطبيعته وشخصيته، وآخَر يتعلق بفهمه وتناوله للنص المُقَدَّس نفسه، ومنها ما يتعلق بفقدان الشعور بالهُوِيَّة؛ فطبيعة المتطرف دومًا تميل إلى الجمود والتحجُّر، أو ما يمكن أن نضعه تحت مصطلح "التعصُّب"، كما يميل إلى نبذ التطور؛ مما يجعله دائم البحث عن العودة إلى الماضي، أو ما يمكننا أن نطلق عليه "نوستالجيا"، والتي كانت تُعَدّ حالةً مرضيّةً نفسية من حالات الاكتئاب فيما مضى، لكنها انزلقت في عصر "الرومانتيكية" والحداثة للتعبير عن معانٍ إيجابية، المتطرفُ شخصٌ مريض بالماضي يرفض أن يخلع عباءته ولا يستطيع التأقلم مع عالمه الزماني والمكاني، ما يجعله يستدعي شخصيات الماضي وبعض أحداثه ليطبّقها في زماننا الحاليّ، رُغم اختلاف المقاييس اختلافًا يكاد يكون كليًّا، هذه العملية المَرَضيّة تنتج شخصًا مشوَّهًا ينتمي إلى حقبة تاريخية انتهت ومضت.
هذا الشخص يبحث دومًا في النصوص المقدسة عمَّا يغذّي شعوره برضا الماضي عنه، فنجد المتطرف يرفض الحداثة "بشكلٍ مَرَضيّ"؛ فيبدأ بمهاجمة بيئته ومحاولة جَرّها إلى ساحة الماضي العتيق التي يحيا فيها، فإذا ما نبذته بيئتُه ورفضت ميوله، شرع في تكفيرها ونبذها ورفض التعايش معها، ثم يبحث عن بيئة حاضنة تستقبل تطرفه هذا على أنه الصواب والحق الذي لا لَبْسَ فيه، ثم تبدأ آليّة انتقاء النصوص المقدسة التي تغذّي شعوره بالانتماء للماضي السحيق؛ فيأخذ حديثًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كـ:"طوبى للغرباء"، فيتشدّق به مفتخرًا بغربته ظانًّا أنه المقصود، ولسنا في حاجة إلى بيان أنَّ شرح الحديث لا ينطبق بحال من الأحوال على آحاد المتطرفين ولا جماعاتهم!.
وفيما أشرنا إليه سابقًا؛ أن النصَّ في لغته حمّالُ أوجه، فلفظة "الغرباء" في اللغة يمكن أن تنطبق  على كل من يراه الناس غريبًا، لكن الضابط العلمي والمنهجي الذي ذكرناه سابقًا هو ما يجعل هذا اللفظ صالحًا لنمط معين دون غيره، بما يستبعد المتطرف تمامًا، لكن المتطرف في هذه المرحلة ينتقي من النصوص ما يدعم موقفه وينشره ويُدَلِّس على الناس، فيجتزئ الكلام ويُحَرِّف أحيانًا في العبارات؛ بل ويستدل بأحاديثَ ضعيفةٍ على عكس منهجيته التي أعلنها لأتباعه من رفضه الاستدلالَ بالحديث الضعيف!
المتشدد هنا لم يدرس ولم يتعامل بمنهجية منضبطة مع النص، وإنما استغلَّه استغلالًا سيئًا لأجل مصالحه الشخصية ولإرضاء غروره وأمراضه الخفية.
وبالعودة إلى فقدان الشعور بالهُوِيَّة، فإن الشخص المتطرف شخصٌ فقَد بوصلة هُوِيَّته، فضاع في صحراء الفراغ القاتل فتلقفته يد الإرهاب ورَوَت عطشه، وغذّته بالهُوِيَّة تغذيةً دينية بالدرجة الأولى، تحمل في طيّاتها النسبةَ الفخرية إلى عالم الحق سبحانه وتعالى، فالمتطرف يشعر بذاته ويعتزّ بها تمامًا؛ كما قالت اليهود: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، هذا الشعور يجعله فوق الناس، فيكتسب به لنفسه حقَّ تكفير الناس واستحلال دمائهم وأموالهم.
هذه الثلاثية (طبيعة المتطرف الشخصية - التناول الخاطئ للنص المقدس - فقدان الهُوِيَّة)، حين تتداخل وتتشابك تنتج شخصًا مشوَّهًا لا يقبل حاضره ولا هُوِيَّة له، ولا يستطيع فهْم تراثه وماضيه بشكل دقيق.
ولا يخفى على أحد أن الدراساتِ النفسيّةَ والاجتماعية تُجمِع على أن مقاتلي "داعش" - على سبيل المثال - جماعةٌ من المَرْضى النفسيين.
السؤال الأهم في هذا المقال والذي يطرح نفسه بقوة؛ هل التطرف دينيٌّ فقط؟ هل التطرف ينتج عن التعصب والتحجُّر في تطبيق النص الديني بالحرف دون دراسة روحه؟ أو أنَّ هناك تطرُّفًا آخَرَ ينتج عن رفض النص الديني ونبْذه بالكُلّيّة، دون الرجوع إلى المنهجية العلمية أيضًا؟!

يُتبع....

 

الموضوع السابق الإمام الأكبر خلال برنامج "الإمام الطيب": اللغة العربية مستحيل أن تندثر لكنها تضعف بضعف أهلها والمتحدثين بها
الموضوع التالي تقرير مرصد الأزهر - مايو 2018
طباعة
2041

أخبار متعلقة