نظرية الحرب في الإسلام
/ الأبواب: إصدارات المركز

نظرية الحرب في الإسلام

الشيخ/ محمد أبو زهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رحمة الله للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به وسار على نهجه.. وبعد؛

فإن من الصعب – إن لم يكن من المستحيل-أن نعرِّف في هذه السطور المحدودة بعَلَم شامخ من أعلام الإسلام في عصرنا الحاضر، مثل أستاذنا الإمام محمد أبو زهرة -رحمه الله-، ذلك الذي حلَّق في آفاق الثقافة الإسلامية، وغاص في أعماق بحارها، واستجلى غوامضها، وانكشفت له أسرارها وخافياتها، حتى صار إمامًا في فنونها وعلومها: النقلية والعقلية، يشار إليه بالبنان من علماء عصره فضلًا عن تلاميذه ومريديه..

لقد كان الشيخ العلَّامة "أبو زهرة" رحمه الله، حجة-بل بحرًا لا ساحل له – في الفقه، والتشريع، والدفاع عن الشريعة والمقارنة بينها وبين القوانين الحديثة، وكان أستاذًا مرموقًا في أصول الفقه، وفي السيرة، وفي مقارنة الأديان وعلم الجدل، كما كان مؤرخًا متميزًا للأديان القديمة، والتيارات العقدية الحديثة، وله سلسلة ذهبية في تراجم أئمة الفقه المجتهدين في عصور الإسلام المختلفة كالأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وكابن حزم والإمام الصادق والإمام زيد وابن تيمية وغيرهم.

وقد سعدتُ –بل شَرُفت-في حياتي الجامعية في الأزهر الشريف بالتلمذة على يدي هذا الشيخ الإمام المهيب عامين دراسيين[1]، درَّس لنا فيهما مادتي: الأحوال الشخصية، أو فقه الزواج والطلاق والرضاع والنسب والميراث والوصية، ومادة أصول الفقه.. ولا زلت محتفظًا بكتاب الأحوال الشخصية حتى يومنا هذا، أعود إليه كلما مست الحاجة إلى تتبع فقه المذاهب في مسألة من مسائل الأحوال الشخصية فأجد فيه ما يسعفني من الإجابة الميسرة والمعمقة.

وأذكر أن الشيخ كان مهيب الطلعة، أنيق المظهر مستنير الوجه، وكان يُلقى في قلوبنا مزيجًا غامضًا من مشاعر الهيبة والمحبة والإعجاب اللامحدود بتألقه العلمي، وتمكنه من علوم التراث، وقدرته على الاجتهاد المعاصر وعلى الجمع بين أكثر من تخصص علمي، وكان يذكرنا بأعلامنا الموسوعيين كابن سينا والغزالي وابن خلدون.

وكنا حين نطرح أسئلتنا نحسب لإجابته ألف حساب، فقد كان يغضبه أشد الغضب التي يتعالم بها بعض المغررين والمتعالمين من الطلاب، وكان يردّهم بسخريته القاتلة إلى حجمهم الطبيعي وإلى أقل منه، وقد تعلَّمنا منه كيف نفكر جيدًا قبل أن نسأل، وكيف أن القراءة المتأنية والاستماع الجيد يُوفِّران على طالب العِلم كثيرًا من تبعات السؤال الملقى على عواهنه..

وقد تميز هذا الإمام بمقدرة خارقة على التقريب بين أحكام الشريعة ونوازل تطورات العصر، وكان أنموذجًا للإمام المجتهد الذي لا يتوقف نشاطه العقلي عند حدود فهم النصوص وتدريسها وتلقينها، بل كان يتعامل مع النصوص بأنظار بالغة الدقة تُفجِّر ما بطن فيها من قابليات متجددة وصالحة للتطبيق على متغيرات الزمان والمكان.. ويُعرف للشيخ أنه كانت له أنظار اجتهادية لم يكتشفها كثيرون ممن جاؤوا بعد عصره وكتبوا عنه.. وأشير هنا إلى رأيه في مسألة «الرجم»، وهو رأي لم يدونه في كتبه في أغلب الظن، وإنما يعرفه له تلامذته المقربون منه، فقد كان –رحمه الله- يرى أن الرجم كان معروفًا عند اليهود وكان أمرًا مستقرًا في شريعتهم، لكن القرآن أبطله بآية «الجلد» في سورة النور، وله استدلالات على رأيه هذا، وكان يرى أن رجم الزاني والزانية بالحجارة حتى الموت أمر مُشكل إذا نُظر إليه في إطار الغاية التي بُعث من أجلها نبي الإسلام وهي: «الرحمة العامة» للكون كله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ {الأنبياء: 107}، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»([2]).

..              ..              ..

وهذا الكتاب عن نظرية الحرب في الإسلام، والذي نقدمه للقراء من غير المسلمين، أنموذج واضح يكشف عن قدرة هذا العلامة الكبير على رصد مركزية «الرحمة» في تشريعات الإسلام، حتى في الحرب مع الأعداء، وسوف يدرك القارئ المنصف لهذا الكتاب كيف أن الإسلام لا يُبيح للمسلمين أن يحملوا أسلحتهم إلَّا في حالة الدفاع عن أنفسهم، وأن الإسلام ليس دين سيف ولا قتل، كما يُشاع عنه ظلمًا وزورًا، وأن الحرب في الإسلام لها من أخلاقيات الرحمة والرفق بالناس ما لا يَعرفه نظام آخر لا قديمًا ولا حديثًا، وأنها ليست مطلبًا ولا وسيلة للتوسع أو التسلط أو الهيمنة، وإنما هي في الإسلام ضرورة واستثناء وجهاد في سبيل الله، ومن أجل تأمين حق الحياة، وحق حرية الاعتقاد للمسلمين وغير المسلمين.. إلى قضايا أخرى وشبهات عديدة سوف يبددها قلم هذا العَلم العملاق الذي افتقده الشرق الإسلامي، وافتقد معه منارة طالما سلطت الأضواء على سماحة هذا الدين ويسره ورحمته للناس أجمعين.

           رحم الله شيخنا الكبير وشكر الله للقارئ الكريم سعيه لتلقي العلم الصحيح، والبحث عن الحق عند العلماء الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله.  

تحريرًا في مشيخة الأزهر:

      24 من ربيع الآخر ســـنة 1438ﻫ

  المـــــــوافــق:   22 من ينـايـر  ســنة 2017 م                                                      شـــيخ الأزهــر

  أحمـــد الطـيب

 

 

 

[1]- كان ذلك عامي 1966م و1967م، حين كنت طالبًا بكلية أصول الدين بالقاهرة.

([2]) أخرجه الإمام الترمذي في "العلل الكبير" (ترتيب العلل: ح685) والإمام البزار في مسنده (9205) والإمام الطبراني في معجمه الأوسط (2981) والإمام الحاكم في مستدركه (1/35) من حديث أبي هريرةt، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرطهما..."ووافقه الذهبي.

الموضوع السابق الإنسان والقيم في التصور الإسلامي
الموضوع التالي كلمات الإمام في التسامح والسلام
طباعة
7521 Rate this article:
3.8