شارك فضيلة الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف، فى الملتقى المسيحى الإسلامى الذى نظمته جامعة سيدة اللويزة بلبنان على مدار يومين والذى يتلاقى مع المؤتمر الدولى الذى عقده الأزهر الشريف مؤخرا تحت عنوان «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل».
وخلال كلمته فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر استعرض وكيل الأزهر العلاقة التاريخية بين الإسلام والمسيحية، ثم تحدث عن بعض جهود الأزهر الشريف فى إطار الحوار الإسلامى المسيحى، وعلاقة الأزهر بالكنائس الشرقية والغربية ومساعيه لتعزيز التعايش فى ضوء المشتركات الإنسانية وتبنى ثقافة الحوار والتسامح بديلا عن استخدام القوة وفرض الوصاية على الشعوب.
وقال وكيل الأزهر إن علاقة الإسلام بالمسيحية تبدو جلية من خلال عدة محاور: الأول: رسول المسيحية بشَّر برسول الإسلام؛ حيث يسجل كتاب الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن سيدنا عيسى عليه السلام بشَّر أتباعه بأن رسولا يأتى من بعده برسالة جديدة، فيقول الله تعالى على لسان سيدنا عيسى: «وإذ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ».
والثانى: المسلم لا يكون مسلما ولا يقبل الله إسلامه إلا إذا آمن بالرسالات السماوية السابقة على رسالة الإسلام وبالرسل التى نزلت بها؛ حيث يقول تعالى: «قولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِى مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِى النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
أما الثالث: المسيحيون أقرب أتباع الديانات إلينا نحن المسلمين؛ حيث يقول تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ».
والرابع: البر بإخواننا شركاء الأوطان مطلوب شرعاً؛ حيث يقول تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
وأوضح الدكتور شومان أن العلاقة بين الإسلام والمسيحية توطدت عمليا من خلال بعض المواقف التى أظهرت مدى التعايش السلمى بين المسلمين والمسيحيين واعتراف كل منهما بالآخر واحترامه لمعتقده، ومن ذلك: أن المسيحية كانت الحاضنة الأولى للإسلام والمسلمين؛ حيث أذن النبى - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين اشتد عليهم الإيذاء فى بداية الدعوة بالهجرة إلى الحبشة، ذلك البلد المسيحى الذى يحكمه ملك مسيحى، قائلا لهم: «إن به ملكا لا يُظلم أحد عنده». وقد كان النجاشى ملك الحبشة عند حسن ظن رسولنا به؛ حيث استقبل المسلمين الذين وفدوا إليه ووفر لهم الحماية والأمان ولم يلق بالا للمحاولات المتكررة من بعض المتربصين الذين أرادوا الوقيعة بينه وبين المسلمين.
وتابع بقوله: استقبل النبى صلى الله عليه وسلم وفودا مسيحية منها وفد نجران، وروى أنه أذن لهم بالصلاة فى مسجده. وتزوج النبى صلى الله عليه وسلم بالسيدة مارية القبطية، وصارت إحدى أمهات المؤمنين، وظلت تعرف بهذا الاسم إلى يومنا هذا، ولم يطلب منها نبينا الكريم ولا من أحد من أصحابه أن يناديها باسم آخر غير هذا الاسم.
مضيفاً: أوصى رسولنا الكريم المسلمين بالأقباط خيرا، خاصة أقباط مصر، قائلا: «إِذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْراً فَاسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْراً، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً»، وقال أيضاً: «اللهَ اللهَ فِى قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً وَأَعْوَاناً فِى سَبِيلِ اللهِ».
وزار سيدنا عمر القدس ورفض أن يصلى فى كنيستها مخافة أن يطالب بها المسلمون.
وفتح سيدنا عمرو بن العاص مصر ولم يتعرض للمسيحيين ولا لكنائسهم، بل أنصفهم من ظلم البيزنطيين وأعاد لهم حقوقهم المسلوبة.
وتطرق وكيل الأزهر لجهود الأزهر الشريف فى إطار الحوار الإسلامى المسيحى ومساعيه لترسيخ قيم المواطنة والعيش المشترك وقبول الآخر، قائلا: نتيجة لما سبق ترسخ فى الفكر الأزهرى حتمية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وأن اختلاف المعتقد لا ينبغى أن يكون مانعا أو عائقا يحول دون التعايش السلمى، فدرج شيوخ الأزهر منذ نشأته وحتى يوم الناس هذا على التواصل والعمل مع شركاء الوطن فى ضوء المشتركات الإنسانية التى لا تختلف بين الديانتين فى شىء، وهى كثيرة جدا إذا ما قورنت بالمختلف فيه.
وتابع وكيل الأزهر: وفى عصرنا الحاضر ومن خلال جهود فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، ونظرا للأحداث التى كادت توقع فتنة بين نسيج الوطن الواحد نتيجة انحرافات بعض الجماعات التى دلست بعض المفاهيم لتوغر صدور شباب المسلمين تجاه إخوانهم المسيحيين وخططت لاستهداف كنائسهم، كان هناك تحرك عاجل من الأزهر الشريف، حيث اتخذ جملة من الإجراءات لوأد الفتن والإبقاء على اللحمة بين شركاء الوطن صلبة وقوية، ومن ذلك:
تأسيس بيت العائلة المصرية بدعوة من شيخ الأزهر عقب الاعتداء على كنيسة القديسين بالإسكندرية وكنائس أخرى فى عام ٢٠١١م، وقد استجابت لهذه الدعوة الكنائس المصرية، فأنشئ بيت العائلة المصرية فى قلب مشيخة الأزهر، ويتناوب على رئاسته شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسية باعتبارها الأكبر من حيث العدد فى مصر، مع وجود تمثيل لباقى الكنائس المصرية. وقد حقق بيت العائلة نجاحات مذهلة وأصبح محط أنظار العالم، حيث أسهم فى وأد كثير من بوادر الفتن فى مصر وخارجها، ومن أهم إنجازاته خارج حدود مصر تمكن الوفد الذى أرسله شيخ الأزهر استجابة لطلب من رئيسة أفريقيا الوسطى السابقة من تحقيق مصالحة تاريخية بين الفرقاء هناك، كما جمع الأزهر الشريف تحت مظلته وبالتنسيق مع مجلس حكماء المسلمين الفرقاء فى ميانمار من المسيحيين والبوذيين والمسلمين لأول مرة فى القاهرة، وقد اتفق المجتمعون على مواصلة الجهود حتى تحقيق المصالحة بإذن الله على غرار مصالحة فرقاء أفريقيا الوسطى.
فضلا عن إصدار الأزهر الشريف فى السنوات الأخيرة عددا من الوثائق التاريخية ومنها فى 2012م وثيقته الشهيرة الخاصة بالحريات التى أكدت على ضرورة احترام حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين فى الواجبات والحقوق باعتبار ذلك حجر الأساس لبناء مجتمع قوى ومتماسك.
كما عقد الأزهر الشريف فى 2014 مؤتمرا عالميا لمجابهة التطرف والإرهاب، وقد صحح المؤتمر كثيرا من المفاهيم المغلوطة التى لبَّستها بعض الجماعات على الناس، ومنها الخلافة والجهاد والدولة الإسلامية وغيرها من المفاهيم. وعرف المؤتمر الدولة بأنها الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وأنه لا يعترف بما يسمى الدولة الدينية، وهو ما يعنى أن الدولة الحديثة تتسع لمواطنيها مهما اختلفت عقائدهم.
وأضاف د.شومان: عقد الأزهر الشريف فى 2017 مؤتمرا عالميا تحت عنوان «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل»، وقد شارك فيه عدد كبير من ممثلى الكنائس الشرقية والغربية وعدد من المفكرين والسياسيين والشخصيات العامة من عدد كبير من دول العالم، وقد خرج المؤتمر بتوصيات غاية فى الأهمية، منها مطالبة الإخوة المسيحيين بالتجذر فى أوطانهم وعدم الرضوخ لمحاولات بعض المتشددين لتهجيرهم، لأننا نحن المسلمين لا نتصور بلاد العرب من دونهم. وتبنى مصطلح المواطنة الكاملة بديلا عن مصطلح الأقليات الذى يشعر بالدونية والطبقية ويصاحبه غالبا تهميش وهضم للحقوق، وهو ما يرفضه الإسلام رفضا قاطعا انطلاقا من ميثاق المدينة المنورة ودستورها الذى أسس لأول دولة مدنية عصرية فى التاريخ.
وتابع بقوله: أقام الأزهر الشريف عددا من الجلسات الحوارية بين أتباع الديانات من خلال مركز الأزهر لحوار الأديان، ومنها جلسات حوارية بين الأزهر والفاتيكان، وأخرى بين الأزهر ومجلس الكنائس العالمى، وبين الأزهر وكنائس اليونان وأستراليا ونيوزيلندا. وكان نتيجة ذلك مؤتمر السلام العالمى الذى عقده الأزهر الشريف مؤخرا بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين والذى حضره البابا فرانسيس بابا الفاتيكان.
كما تعددت جولات شيخ الأزهر إلى عدد من الكنائس؛ حيث زار الفاتيكان وكإنتربرى وتجمعات مسيحية دولية كفرنسا وألمانيا.
وختم وكيل الأزهر كلمته قائلا: وإننى إذا أشكر لجامعة سيدة اللويزة وقداسة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعى عقد هذا المؤتمر الذى يتلاقى مع مؤتمر الأزهر للمواطنة والحريات والعيش المشترك، أقترح على المؤتمرين تبنى فكرة إنشاء «بيت العائلة اللبنانية» على غرار «بيت العائلة المصرية» لتتعدد التجربة حتى نرى بيت العائلة العربية والشرق أوسطية وربما القارية والعالمية، فما أحوجنا لتبنى ثقافة الحوار والعيش المشترك بديلا عن ثقافة القهر وغطرسة القوة وضجيج السلاح التى لا تنتج سلاما ولا استقرارا وإنما الخراب والدمار، ولننطلق نحو تعزيز العمل المشترك لتنمية مجتمعاتنا واستعادة أمنها وسلامها، وكفى ما سُفك من دماء وما دُمِّر من ممتلكات وما يُتِّم من أطفال ورُمِّل من نساء، وعلى صناع القرار العالمى الكف عن التلاعب بمصائر الشعوب وفرض الوصاية على المجتمعات واتخاذها حقلا لتجارب الأسلحة وأسواقا رائجة لتجارتها، ولتعلم هذه الدول أن رعايتها للسلام والعيش المشترك وتبنيها لثقافة الحوار والتسامح سيعود عليها بنفع أكبر من ثمن السلاح، بل إن ذلك سيجعلها فى مأمن من غضبة المضطهدين ومن لم يعد لهم ما يبكون عليه بعد دمار أوطانهم وقتل أهلهم أو تشريدهم وهتك أعراضهم وتدنيس مقدساتهم.