نشرت قناة العربية الفضائية الخميس 15 فبراير ٢٠٢٤م، لقاءً مهمًّا مع "أسماء محمد" زوجة "أبو بكر البغدادي" زعيم تنظيم داعش الإرهابي الذي قُتل في عام 2019م في سوريا إثر عملية إنزال جوي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعل "البغدادي" يفجر الحزام الناسف الذي كان يرتديه مما أدى إلى مقتله. ونرى أن أهم ما ورد في هذا اللقاء المهم هو:
أولًا: ذكرت "أسماء محمد" أن زوجها "أبو بكر البغدادي" كان شخصًا عاديًّا ولم يكن متشددًا إلى أن اعتقلته القوات الأمريكية في عام 2004م، وظل في السجن لمدة عام، حيث بدأت ملامح التغيير تبدو عليه بعد خروجه من السجن، فأصبح أكثر غموضًا، وصار يتغيب عن البيت أوقاتًا طويلة.
وهذا الأمر قد أكده أيضًا "عبد الباري عطوان" في كتابه "الدولة الإسلامية"، حيث أكد أنه التقى مع أحد من رافقوا "البغدادي" في السجن، والذي أكد له أن البغدادي كان شخصًا عاديًّا، وهادئًا للغاية، ومتمالكًا لنفسه.
ومما يثبت صحة هذه الرواية أن "البغدادي" لم يلفت النظر لنفسه حين كان سجينًا، وإلا ما أفرجت القوات الأمريكية عنه. وقد ذهب "البغدادي" يوم خروجه من السجن إلى الضابط الذي كان مسئولًا عنه وقال له "سنلتقي يومًا ما في نيويورك"، وهو ما لم يلتفت له أحد بل لم يتذكره أحد إلا بعد ظهور "البغدادي" على منبر مسجد النوري الكبير في عام ٢٠١٤م.
وفي سجن "بوكا" العراقي اندمج "البغدادي" مع أعضاء من تنظيم القاعدة ومتشددين عراقيين آخرين وضباط من الجيش العراقي، وبدأ رحلته إلى التشدد. وكان هذا من أهم الخدمات التي قدمها الاحتلال الأمريكي عن جهلٍ لتنظيم داعش، حيث وضع أشخاص متطرفون مع ضباط جيش مقاتلين في سجن واحد، فامتزجت العقول المتطرفة فكريًّا مع عقول قتالية احترافية ناقمة، فنتج عن ذلك مقاتلون شرسون، كانوا سببًا في أن أصبح تنظيم داعش أقوى تنظيم إرهابي في العصر الحالي.
ثانيًا: ذكرت "أسماء محمد" أن أهم شيء عند "البغدادي" هو أمنه الخاص، ولو كان ذلك على حساب بعض الأمور الدينية، حتى إنها في فترة ما كانت لا تخرج من البيت أبدًا، وإن دعت الضرورة إلى الخروج كالذهاب إلى الطبيب مثلًا كانت تخرج من المنزل وهي مربوطة العينين حتى لا تعرف المكان الذي تعيش فيه، وكان المنزل به مخابئ سرية لا تعرف عنها شيئًا.
وهذا الأمر قد ثبتت صحته عند قيادات التنظيمات الإرهابية، الذين أفرطوا في أمنهم الشخصي، ونستطيع أن نعرف ذلك من الأماكن التي قُتل فيها هؤلاء، فالبغدادي ــ على سبيل المثال ــ قُتل في منزل في قرية "باريشا" إحدى قرى "إدلب" شمال غرب سوريا، كذلك قُتل "أبو إبراهيم القرشي" في بلدة "أطمه" شمالي إدلب أيضًا، وهي مناطق تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" بقيادة "أبو محمد الجولاني" العدو اللدود لداعش، والذي سبق وهدد بأنه سينقل المعركة إلى "الموصل" وسيقاتل الدواعش في عقر دارهم، ومن ثم فإن اختباء قادة داعش في مناطق يسيطر عليها "الجولاني" كان من أجل تأمين أنفسهم، حيث من غير المتوقع أن يظن أحد أنهم يختبؤون فيها، خصوصًا وأنهم يصفون هذه الأراضي بديار الكفر، التي ينبغي الهجرة منها. الأمر ذاته حدث مع "أيمن الظواهري" الذي قُتل في منطقة لم يتوقع أحد أنه موجود بها، حيث قتل في بيت في الحي الدبلوماسي في العاصمة "كابل" في حين كان العالم يعتقد أنه يعيش في الجبال. وهذه مفارقة غريبة، حيث يعيش قادة التنظيمات في بيوت آمنة، ويتركون أعضاء التنظيم في الجبال والبوادي والقرى المهجورة.
ثالثًا: ذكرت زوجة البغدادي أن أسرتها كانت دائمًة التنقل من مكان لمكان ومن مدينة إلى أخرى، بل ومن دولة إلى أخرى، حتى انتهى بها المقام في تركيا.
وهذا نراه مرتبطًا بالنقطة السابقة، حيث كان قادة التنظيم حريصين على أمنهم وأمن ذويهم أيضًا ــ خصوصًا بعد مرحلة الضعف التي بدأت في عام ٢٠١٦م، وهذا جعلهم ينقلون أسرهم من مكان إلى آخر، في وقتٍ كانت نساء التنظيم يشعرن بالخوف ويريدن الهرب والرجوع إلى بلادهن. لكن التنظيم تصدى لهذا إعلاميًّا وإفتائيًّا وعسكريًّا، فأصدر فتوى بقتل كل من ينوي الهروب أو يخطط له، معللًّا ذلك بأن من ينوي الكفر كافر. كما نشر عدة مقالات في جريدته الأسبوعية، من أهمها مقال بعنوان: "الولاء والبراء يا معشر النساء" نشره في العدد 62 من الصحيفة، وحذر فيه نساء التنظيم من مجرد إضمار المحبة والمودة تجاه أقاربهن الذين لم ينضموا إلى التنظيم، وحثهن على عدم التواصل معهم على مواقع التواصل، واصفًا ذلك بمساعدة الكافرين والمعادين للدولة، وطلب منهن مسح أرقام الأهل والأصدقاء من هواتفهن الشخصية. ولا شك أن الهدف من هذا المقال كان حث نساء التنظيم على البقاء في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وعدم العودة إلى بلادهن وحياتهن السابقة.
رابعًا: ذكرت زوجة البغدادي أن قادة التنظيم أصابهم الغرور بعد احتلالهم المدن، وأصبح البغدادي مغرورًا لا يهمه سوى التوسع وأمنه الشخصي.
وهذا الأمر قد ثبتت صحته أيضًا، خصوصًا في عامي ٢٠١٤م و ٢٠١٥م، الذي يعتبرهما قادة التنظيم "مرحلة التمكين"، وخصوصًا عام 2015م الذي بلغ التنظيم فيه أوج قوته، واستولى على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي في العراق وسوريا، وقامت عدة مجموعات إرهابية في مناطق مختلفة بالانضمام إلى التنظيم عن طريق مبايعة "البغدادي". وكان التنظيم في هذه الفترة قويًّا من الناحية العسكرية، حيث كان يمتلك ثلاثة جيوش "جيش العسرة" و"جيش الخلافة" و"جيش دابق"، وكان لديه آلاف المقاتلين من كل أنحاء العالم، إضافة إلى المقاتلين العراقيين المحترفيين الذين اقتحموا السجون وأخرجوا منها مقاتلين أشد شراسة.
كذلك كان التنظيم في تلك الفترة قويًّا من الناحية الاقتصادية، حيث سيطر على آبار بترولٍ في أماكن سيطرته، وكان يبيع منها 60 ألف برميلٍ يوميًّا وفقًا لبعض التقارير. وقد أدرت هذه الآبار على التنظيم ملايين من الدولارات، إضافة إلى أموال بعض البنوك التي استولى عليها، حيث استولى على 100 مليون دولار من بنك الموصل، بخلاف الضرائب التي كان يفرضها على السكان، والفدية التي يطلبها من الدول التي أسر صحفيين وأفرادًا منها.. وغير ذلك من الموارد الاقتصادية التي جعلت منه أقوى تنظيمٍ إرهابي في العالم.
وإعلاميًّا كان التنظيم قويًّا للغاية في تلك الفترة، وكان يمتلك ما يشبه مدينة إنتاج إعلامي في مدينة "الرقة" السورية، واستطاع من خلال إعلامه نشر فكره واستقطاب مزيد من الشباب، بل استطاع من خلال هذا الإعلام نقل المعركة من الشرق إلى الغرب، ونفذ عمليات إرهابية في قلب أوروبا بواسطة ذئابه المنفردة، حيث شجع "أبو محمد العدناني" (المتحدث باسم التنظيم والذي قتل في أغسطس 2016)، في تسجيل صوتي عام 2014م محبي التنظيم على القيام بعمليات "ذئابٍ منفردة" دون أخذ موافقة من التنظيم، مؤكدًا على أن التنظيم سيعترف ويتبنى أي هجوم ولو كان صغيرًا. وكان هذا النداء بمثابة آلية جديدة للتحريض على الإرهاب والقيام بعمليات إرهابية عن طريق المؤيدين والمتعاطفين. والشرط الوحيد الذي اشترطه "العدناني" من أجل تبني التنظيم للعمليات التي يقوم بها المؤيدون له هو أن يعلنوا ولاءهم للتنظيم بشكل واضح أمام الرأي العام.
كل هذا أصاب التنظيم بالغرور، واعتقد قادته أنهم بالفعل دولة، وأنهم يمتلكون مقومات الدولة كافة. ولم يفيقوا من وهمهم إلا مع تحرير مدينة "الفلوجة" منهم في عام 2016م، والتي كانت أول خطوة على طريق إضعاف التنظيم والقضاء عليه، وحينها قال "العدناني": إنه يجب عليهم أن يعودوا ويبدؤوا من جديد.
خامسًا: ذكرت زوجة البغدادي أن قادة التنظيم كان لديهم هوس بالنساء بصورة أخرجتهم من الإنسانية وجعلت الدولة دولة النساء.
وهذا نراه مرتبطًا بالعنصر السابق، حيث غرور القوة والسلطة والمال، إضافة إلى أسر مزيد من الأزيديات واستقطاب فتيات من دول أجنبية بأعدادٍ كبيرة، وهو ما أدى إلى كثرة النساء في التنظيم. وكل هذا جعل قادة التنظيم يسرفون في متعهم الخاصة بهذا الشكل الوحشي الخارج عن حدود الإنسانية. حفظ الله شبابنا وفتياتنا من كل سوء.
وحدة رصد اللغة التركية