فتاوى معاصرة

07 أغسطس, 2018

فتاوى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في الحج (1)

الجزء الأول

الحج من أفضل الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله -تعالى- وقد وضّح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سُئِل عن أفضل الأعمال؛ فقد أخرج الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ».

وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد رغب الشرع الحنيف في أداء فريضة الحج ترغيبًا أكيدًا، ومن هذا الباب جوز الحج عن الغير؛ وقرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألته امرأة عن ذلك؛ فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَشْعَمَ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ.

والحج المقبول الذي لا يخالطه شيء من الإثم والذي لا رياء فيه، والذي وُفِّيت أحكامُه ووقع من المُكَلَّفِ على الوجه الأكمل دون أن يعصي الله تعالى فيه أثناء أدائه هو كممحاة للذنوب، فقد أخرج الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

بل إن ثوابه يعدل الجهاد في سبيل الله لما فيه من جهاد النفس؛ فحينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما أخرجه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ ؟ ، قَالَ : لَا ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ "
وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة في رمضان تعدل حجة، وهذا من حيث الأجر والثواب لا من حيث الإجزاء، وعليه فحجة الفريضة لم تسقط عنه؛ فقد ورد أن امرأةً أرسلت مع زوجها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يعدل ثواب حجة معه؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِئْهَا السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللهِ، وَأَخْبِرْهَا أَنَّهُ يَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ " المعجم الكبير للطبراني.
وهناك مواقيتَ مكانيةً ينبغي لقاصد الحج ألا يتجاوزها إلا وهو محرم، وقد نقل هذا البيان عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه، عن زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ، وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَله مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: «فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ»، وعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال (وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفةِ، ولأهلِ الشامِ الجُحْفَةَ، ولأهلِ نجْدٍ قرنَ المنازلِ، ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ. قال: فهُنَّ لهنَّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ والعمرةَ، فمن كان دونهنَّ فمن أَهلِه، وكذا فكذلك، حتى أهلُ مكةَ يُهلِّون منها) مُتفق عليه.
ويُستحب لمن خرج قاصدًا للحج أن يتخلى عن التجارة ونحوها في طريقه، فإن خرج بنية الحج والتجارة فحج واتجر صح حجه وسقط عنه فرض الحج، لكن ثوابه دون ثواب المتخلي عن التجارة كما بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استفتي في ذلك؛ فقد أخرج أبو داود عن أبي أمامة التيمي، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا أُكَرِّي- أي أؤجر الدواب- فِي هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ نَاسٌ يَقُولُونَ لِي إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ حَجٌّ فَلَقِيتُ ابْنَ عُمَرَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَجُلٌ أُكَرِّي فِي هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ لِي: إِنَّهُ لَيْسَ لَكَ حَجٌّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَلَيْسَ تُحْرِمُ وَتُلَبِّي وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَتُفِيضُ مِنْ عَرَفَاتٍ وَتَرْمِي الْجِمَارَ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ لَكَ حَجًّا، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: «لَكَ حَجٌّ».
وهناك أمور لابد لمن أحرم بالحج أن يمتنع عنها، فإن فعلها متعمدًا فعليه الفدية، ومنها حلق شعر الرأس، واستعمال الطيب، ولبس المخيط، وتقليم الأظافر، ومن المحظورات الخاصة بالرجال لبس القميص والبرانس والسراويل والعمائم والخفاف، ويحظر على المرأة لبس النقاب، كما يحرم على المحرم لبس القفازين وغير ذلك من المحظورات؛ فقد أخرج الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ- جمع قميص، وهو كناية عن الثوب-، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ- جمع سروال، وهو ما يسمى باللباس كالبنطلون والكلسون -، وَلَا الْبَرَانِسَ- جمع برنس وهو : كل لباس خيط به غطاء للرأس؛ لأن البرنس معه مثل المثلث يغطى به الرأس، وهو مخيط من عند رقبة اللباس، والبرنس شبيه بالعباية والجبة ونحوها، ولكن غطاء الرأس مخيط فيه -، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ».
ولابد لمن أحرم بالحج أن يستكمل نُسُكه، إلا إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه فله التحلل، والإحصار في الحج هو المنع من إتمام النسك، فإذا اشترط المحرم عند إحرامه أن له أن يتحلل من إحرامه إذا حبسه حابس فيجوز له أن يحل متى وُجد الحابس والمانع، ولا شيء عليه من هدي ولا قضاء ولا غيرهما، لأنه اشترط قبل العبادة؛ ولذلك شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحرم دعاءً يقوله حينما سألته امرأة في مثل هذا السؤال، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ الحَجَّ، أَفَأَشْتَرِطُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: «قُولِي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ مَحِلِّي مِنَ الأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي».

ونسأل الله- تعالى- أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.


كلمات دالة:

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.