دروس من خطبة الوداع (1)
خطبة الوداع.. خطبة جامعة من جوامع كلم سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم، جمعت بين الوعظ وتقرير الأحكام، وترسيخ القيم والأخلاق، خطبة ودَّع فيها صلى الله عليه وسلم أمته فكانت بمثابة اللمسات الأخيرة علي المشروع الحضاري الذي شيَّد صرحه الإسلام، وأرسى دعائمه النبي صلى الله عليه وسلم طوال سنين دعوته.
قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ..). أخرجه البخاري.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ..) أي أن الوقت الذي حج فيه صلى الله عليه وسلم حجة وداعه كان ذو الحجة في موضعه، وكانت حجته في الوقت الذي أمر الله عز وجل به، والذي سيستمر فيه الحج كل عام، بعد أن أبطل الإسلام التلاعب بالأشهر ومواقيتها؛ فقد كان العرب في الجاهلية يؤخرون الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده، ويلغون الشهر الذى أخروه لتصير السنة ثلاثة عشر شهرًا تتبدل، فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيرها، إلى أن أبطل الله تعالي ذلك بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37].
ثم حدد النبي صلى الله عليه وسلم الأشهر الحرم وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة ورجب.
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ». مُتفق عليه.
حرم النبي صلى الله عليه وسلم الدماء والأموال والأعراض، وشدَّد علي هذه الحرمة، وشبهها بحرمة يوم عرفة وشهر ذي الحجة والبلد الحرام؛ لما كان عند العرب من تعظيم لهذه الأزمنة والأمكنة، فلا يسفك فيها دم، أو يقتل حيوان أو تقطع شجرة، وفي امتثال هذا الهدي إرساء لقواعد الأمن بين أفراد المجتمع؛ فإن أمن الإنسان علي نفسه وعرضه وماله في مُجتمعه أدى دوره ونفع غيره.
ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم من جريمتن كانتا من سمات أهل الجاهلية وهما القتل والتقاتل، وبيَّن أن الرجوع إليهما من الضلال الذي بعد الهداية؛ فقد أبطلهما الله عز وجل وألف بين قلوب عباده المؤمنين.
وفي نهاية هذه الوصايا الغالية أمر أصحابه بالبلاغ، وهو أمر للأمة في الحقيقة، وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الأهم من السماع هو العمل بما سُمع من أوامر وتعاليم، ثم ختم بقوله (ألا هل بلغت؟!)
يريد بذلك إقامة الحجة على من بُلِّغ، كما يريد تعظيم ما بَلَّغَ في نفوس السامعين ليمتثلوه.
قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «..أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا إِنَّ المُسْلِمَ أَخُو المُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ.. ». أخرجه الترمذي.
وفي تنفيذ هذا المبدأ سدٌ لثغرات البناء الاجتماعي، فالأخوَّة تقتضي المحبة والود والمناصرة والعطف وهي ليست للدم فقط، ولكن أخوة دينٍ أيضًا، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، وبطريق أحله الله سبحانه وتعالي كالبيع والشراء لا سيما و أن أكل أموال الناس بالباطل يغرس الحقد في القلوب، ويزرع التباغض في النفوس، حتى إذا شاعت الكراهية انهار المجتمع، وهو ما لا يرضاه الإسلام ولا رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
كما يحذر صلى الله عليه وسلم من أن يجني المرء على نفسه أو ولده أو والده بأن يترك خلفه أعباء وتبعات من قصاص أو إثم مما لا يطيقه مَن خلفه.
كما يؤكد بكلماته صلى الله عليه وسلم ما أكده الله عز وجل في قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}. [الأنعام: 164].