الصوم وحفظ الجوارح

  • | السبت, 9 يونيو, 2018
الصوم وحفظ الجوارح

الصوم يربي الإنسان على حفظ الجوارح من الآثام، والابتعاد عن ما يُغضب الله تعالى؛ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: «إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وَبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً» أخرجه البيهقي في فضائل الأوقات.

فمن أعظم حِكَمِ الصوم تحقيقُ التقوى التي هي دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلانية، والتي هي فعلُ الأوامرِ وتركُ النَّواهي؛ تعظيمًا لله عز وجل، وخوفًا منه، ورغبةً فيما عنده، ومحبةً صادقةً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فحقيقةُ الصومِ الذي يريده الله منا ليس الإمساك عن الطعام والشراب فحسْب، وإن كان هذا عنوانَه فإن موضوعَهُ أعمقُ وأجَـلُّ.

فالصوم -إذن- ليس مجرَّدَ إمساكٍ عن المباحات، بل هو تربية للجوارح على الإمساك عن كل ما لا يحبه الله ولا يرضاه، فليس المقصود من الصوم أن يَمتـنِعَ المسلِمُ عنِ الطَّعامِ والشَّرابِ فَقطْ، بل حقيقة الصيام حفظُ الجوارحِ عن الآثامِ واللسانِ عن فضول القول والخصام، وقصر العين عن التطاول إلى الحرام؛ ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه البخاري.

قال الإمامُ ابنُ بطَّالٍ رحمه الله في شرح الحديث: (ودَلَّ قولُه صلى الله عليه وسلم: «فلَيْسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يَدَعَ طَعامَه وشَرابَه» على أن الزورَ يُحبِطُ أَجْرَ الصَّائمِ، وأن من نطق به في صيامه كالآكل الشارب عند الله تعالى في الإثم، فينبغي تَجَنُّبُهُ والحذرُ منه؛ لإحباطه للصيام الذى أخبر النبي عليه السلام عن الله تعالى أنه قال فيه: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». فما ظنُّك بسيئة غطَّتْ على هذا الفضل الجسيم والثواب العظيم؟!)اهــ من شرحه على صحيح البخاري.

وصدق الشَّاعِرُ الأندَلُسيُّ حينَ قال:

إِذَا لَمْ  يَكُنْ  فِي  السَّمْعِ  مِنِّي  تَصَامُمٌ ** وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ، وَفِي مَنْطِقِي  صَمْتُ

فَحَظِّي –إِذنْ- مِنْ صَوْمِيَ  الجُوعُ  وَالظَّمَا ** وَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي صُمْتُ يَوْمًا، فَمَا صُمْتُ

فحقيقةُ الصَّوْمِ هو كَسْرُ شَّهوةِ النفسِ، والتخَلُّصُ مِنْ أَشَرِهَا وبطرها وكبريائها وغرورها، وتَطويعُها على مرادات الله سبحانه وتعالى، فَيمتنِعُ الصائمُ عنْ كُلِّ إِثْمٍ وشَرٍّ حتَّى تَتحقَّقَ فائدَةُ الصَّومِ من تَهذيبِ النَّفسِ وصَلاحِها واستقامتها.

فإذا كُسِرتْ شهوةُ النفسِ صفا الباطن، وتنوَّر بأنوار الطاعات؛ فإن معاصيَ الجوارحِ مانعةٌ من حصول الأنوار الربانية، والفيوضات الإلهية على قلب المؤمن، وامتنع تحقيقُ المقصَدِ الأسنى من الصوم وهو التقوى، قال المُلَّا علي القاري رحمه الله في شرحه لمشكاة المصابيح لوليِّ الدين التبريزي: (وَهَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، شَرَعَهُ - سُبْحَانَهُ - لِفَوَائِدَ، أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَاشِئٌ عَنِ الْآخَرِ؛ سُكُونُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَسْرُ شَهْوَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ، مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا جَاعَتِ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا، وَالنَّاشِئُ عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ عَنِ الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ، وَبَاقِيهِمَا، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ،…)اهــ.

فعليك –أخي الصائم- حفظَ جوارحِكَ، والامتثالَ لأمرِ مولاك سبحانه وتعالى؛ حتى يكونَ صوْمُكَ مقبولًا، وعملُك مأجورًا، واعمل بقولِ الناصحِ الأمينِ حين قال:

حَصِّنْ صِيَامَكَ بِالسُّكُوتِ عَنِ الخَنَا ** أَطْبِقْ   عَلَى    عَيْنَيْكَ    بِالأَجْفَانِ

لا تَمْشِ ذَا وَجْهَيْنِ مِنْ بَيْنِ  الوَرَى ** شَرُّ    البَرِيَّةِ    مَنْ    لَهُ    وَجْهَانِ

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
2.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.