فتاوى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في الحج (2)

الجزء الثاني

  • | الخميس, 9 أغسطس, 2018
فتاوى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في الحج (2)

الوقوف بعرفة هو الركنُ الأعظمُ للحج، ولا ينجبر تركه بدم، ولا يغني عنه غيره كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» وإذا لم يقف الحاج في عرفة وقت الوقوف فلا حج له كما أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أحمد في مسنده عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَعْمَرَ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ فَقَالَ: " الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلًا خَلْفَهُ، فَجَعَلَ يُنَادِي بِهِنَّ "، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ، فَقُلْتُ: جِئْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئٍ، أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبَلٍ- وهو كثيب الرمل المرتفع- إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ- يعني صلاة الفجر -، وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ ".
ويوم الحج الأكبر هو اليوم العاشر من ذي الحجة، وقد سُمِّي يوم النحر بيوم الحج الأكبر؛ لما في ليلته من الوقوف بعرفة، والمبيت بالمشعر الحرام، والرمي في نهاره والنحر والحلق والطواف والسعي من أعمال الحج وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، روى الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْمِ الحَجِّ الأَكْبَرِ فَقَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ. وروى أبو داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ، فَقَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ».
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه
لا طوافَ بالبيت الحرام للمرأة الحائض ؛ وذلك لأن الطواف كالصلاة يشترطُ فيه الطهارة كما أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: «أَنَفِسْتِ؟» - يَعْنِي الْحَيْضَةَ - قَالَتْ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي» قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ» صحيح مسلم.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحجر من الكعبة حينما سألته السيدة عائشة رضي الله عنها، أخرج الإمام النسائي في السنن الكبرى عن عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَدْخَلُ الْبَيْتَ؟ قَالَ: «ادْخُلِي الْحِجْرَ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ»، ولذلك يعتبر من صلى فيه مُصلِّيًا في الكعبة ، والصلاة في الكعبة جائزة في النفل، وفي جوازها في الفرض خلاف بين الفقهاء.
ومن أفضل الأعمال التي يقوم بها الحاج رفع الصوت بالتلبية وإسالة دماء الهدي؛ فقد أخرج الترمذي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «العَجُّ وَالثَّجُّ»،والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج إسالة دماء الهدي.
ولذلك إذا مات المحرم، فإنه يُغَسَّل وَلا يُطَيَّب ولا يُغطى وجهه ولا رأسه ويكفن في إحرامه ولا يلبس قميصًا ولا عمامة ولا غير ذلك؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» أخرجه مسلم.
ومعلوم نهى الإسلام عن قتل الدواب في الحرم، إلا أن هناك من الدواب ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصيد حينما سُئل عن ذلك، فقد روى أحمد في مسنده عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ؟، قَالَ: " خَمْسٌ لَا جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ،  وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ "                                                                                              والحكمة في إباحة قتلها، أنها مؤذية، ولذلك يُلحقُ بِها ما اشترك معها في العِلّة؛ لأن الْحُكم يدور مع عِلّته وُجودا وعَدَمًا، وعليه فالمُؤذي طَبعًا يُقتَل شَرْعًا.
والمتأمل في مناسك الحج –وغيره من تشريعات الإسلام- يتبين له جليًا أن اليسر ورفع الحرج من مقاصد الشريعة الإسلامية، قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة/185]، وورد في فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته ما يدل على يُسر هذه الشريعة ومرونتها، وقصدها رفع الحرج عن العباد. وصدق الله إذ يقول:{وما جعل عليكم في الدين من حرج} (الحج:87).
ولذلك ففي الحج رُخَّص لمن عجز عن أداء النسك ماشيًا أن يؤديها راكبًا ؛ فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي قَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: «اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ» فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: «ارْمِ وَلاَ حَرَجَ» فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: «افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ».
ومسُّ الطيب في البدن والثوب من محظورات الإحرام، لكن؛ لا بأس بما بقى من أثر الطِّيب الذي فعله المحرم قبل إحرامه في بدنه، أما في ثوبه فلابد من غسله؛ روى الإمام مسلم عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ - وهي الثياب المخيطة وفي التقطيع معنى التفصيل أي التي فصلت على البدن أولا ثم خيطت ولا كذلك الإزار والرداء- وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ- متلوث به مكثر منه-، فَقَالَ: إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيَّ هَذَا، وَأَنَا مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ؟» قَالَ: أَنْزِعُ عَنِّي هَذِهِ الثِّيَابَ، وَأَغْسِلُ عَنِّي هَذَا الْخَلُوقَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ، فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ».                                        
وكذلك إزالة شيء من الشعر من محظورات الإحرام، لكن إن سقط شيء منه بدون قصدٍ أو إن أخذ المحرِمُ شيئًا من شعره لضرورةٍ فلا حرج في ذلك؛ فقد روى البخاري عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً». قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ» فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهْيَ لَكُمْ عَامَّةً.

نسأل المولى -عز وجل- أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
5.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.