الإسلام والغرب
نظم الأزهر الشريف بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين ندوة عالمية على مدار ثلاثة أيام للتباحث حول موضوع مهم، وهو العلاقة بين الإسلام والغرب، وقد حمل عنوان الندوة ما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة، وهو التنوع والتكامل.
وتأتي هذه الندوة العالمية (الإسلام والغرب: تنوع وتكامل) في إطار حرص الأزهر الشريف على التحاور بين المسلمين والغرب بدياناته وثقافاته المختلفة، بهدف إبراز القيم المشتركة والمبادئ الإنسانية العامة - وهي كثيرة جدًّا مقارنةً بالمختلف فيه - والبحث عن حلول للمشكلات العالقة بين المسلمين والغرب، وذلك من خلال المكاشفة والحوار الهادئ والمواجهة العقلانية، وليس المجاملة والبعد عن إثارة ما يمكن أن يأخذه كل طرف على الآخر، فإذا خلا بأتباع دينه أو ثقافته أفاض في هذه المآخذ بما يسيء للآخر ويوغر صدره.
وهذا النهج القائم على المكاشفة والحوار الهادئ والمواجهة العقلانية هو ما يتبناه الأزهر الشريف في مؤتمراته وندواته جميعًا؛ فدائمًا ما نرى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر يبدي ملحوظاته أولًا على بعض أتباع ديننا الذين يشوهون صورة الإسلام النقية في الداخل والخارج، ثم يواجه الآخر بما يراه من ملحوظات عليه. وأرى أن حوارًا لا يقوم على هذا النهج يكون مجرد استهلاك للوقت، وإهدار للأموال، وبعثرة للجهود في ما لا طائل من ورائه سوى كلام منمق، واجتماعات بروتوكولية جوفاء تنعقد وتنفض، وتبقى المشكلات تراوح مكانها دون حل، بل تزيد وتتفاقم لتخرج عن حد السيطرة.
وقد شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات الحوارية داخل مصر وخارجها، ولاحظت فيها أمرين: الأول إيجابي، والثاني سلبي جدًّا: أما الإيجابي، فهو أن كل متحدث في هذه اللقاءات - مهما كان الدين الذي ينتمي إليه أو الثقافة التي يمثلها - يجتهد في إثبات أن دينه أو ثقافته ليست ضد الآخر، وأن جميع المظاهر السلبية من تطرف أو إرهاب أو ظلم أو قهر أو تمييز بين الناس على أساس الدين أو المعتقد أو العِرق، وغيرها من المظاهر السلبية، لا مجال ولا وجود لها في دينه أو ثقافته، وأن التعايش بين البشر مهما اختلفت عقائدهم وثقافاتهم ضرورة حياة، وغير ذلك من المبادئ العامة التي لا يجهلها أحد من الناس، والتي لا تحتاج إلى تنظيم مؤتمرات لبيانها، ولكن لا بأس من التأكيد عليها وتذكير الناس بها.
وأما الأمر السلبي، فهو أن المشاركين في هذه اللقاءات الحوارية يتجنبون الحديث عما قد يدور في النفس من أمور يأخذها كل طرف على الآخر، لكنهم متى خلوا إلى أتباع دينهم أو قوميتهم أو ثقافتهم أفاضوا فيها الحديث. وهذه المآخذ التي تجول في صدر هذا الطرف أو ذاك قد تكون غير صحيحة مطلقًا، أو مفهومة فهمًا مغلوطًا، أو أنها من الأمور النادرة أو الشاذة التي يفعلها بعض المنتمين إلى طرفٍ ما، ومن ذلك ما نأخذه نحن الشرقيين على الغرب من المبالغة في ظاهرة (الإسلاموفوبيا)، وتضخيم بعض الجماعات الغربية المتطرفة لها، وتصوير الإسلام وكأنه يأمر أتباعه بالتهام الغربيين المخالفين في الدين! ومنها ما نردده في جلساتنا من تحمل الدول الغربية الكبرى مسئولية تنامي ظاهرة التطرف والإرهاب بعدم تصديها للظاهرة بشكل جدي على أقل تقدير؛ حيث يصل اليقين عند بعضنا إلى وقوف أجهزة استخبارات لدول كبرى وراء صناعة الجماعات الإرهابية التي تعيث في الأرض فسادًا! ومنها أيضًا ما يعتقده كثير من المسلمين من ازدواجية المعايير لدى بعض دول الغرب الكبرى، وكَيلها بأكثر من مكيال في معالجتها للقضايا الدولية، ويقوي هذا الاعتقاد تجاهل القضية الفلسطينية، واستمرار مأساة الروهينجا، ومواصلة الدمار في ليبيا وسوريا واليمن، وغيرها من الدول في منطقتنا المنكوبة، في حين أن هذه الدول الغربية تقيم الدنيا ولا تقعدها حين يتعلق الأمر بفئة من غير المسلمين في أي بقعة حول العالم! وليس انتهاء بأن الدول الغربية الكبرى تستخدم منطق القوة والغطرسة لتفرض ما تشاء على مَن تشاء، وأنها تجعل من شعوبنا العربية والمسلمة حقل تجارب وسوقًا رائجة لبيع ما تنتجه مصانعها من سلاح!
ولا شك أن للغرب أيضًا مآخذ علينا نحن الشرقيين وخاصة المسلمين، وربما تكون أكثر وأكبر من مآخذنا عليه؛ فهو يتهم ديننا ومناهجنا التعليمية بالوقوف وراء صناعة الإرهاب، وأننا شعوب رجعية متخلفة لتمسكنا بثوابتنا الدينية وخصوصياتنا الثقافية، وأننا نمارس الاضطهاد والتهميش ضد المسيحيين في بلادنا، وغير ذلك مما يجول في صدور كثير من الغربيين ولا تنطق به ألسنتهم في أثناء المؤتمرات لاعتبارات بروتوكولية أو غيرها.
ومن المهم في هذا الإطار، أن يعترف كل طرف بجوانب القصور عنده حتى يكون الحوار أكثر شفافيةً وإقناعًا، كاعترافنا بأن بعض بني جلدتنا يسيئون إلى ديننا وشريعتنا بممارساتهم الشاذة، ولا سيما في تعاملهم مع غير المسلمين، لكن من المنطقي ألا يؤخذ الكل بجريرة البعض.
ومما يجب أن يعترف به الغرب أيضًا أنهم يظلمون الإسلام كثيرًا حين يتحدثون عنه حديثًا يبدو منه أن الإسلام لا يعترف بغير المسلمين، وكأنه صاغ مبادئه وأحكامه لتكون لأتباعه ضمانة لسعادة الدارين ولو كانت على حساب الآخرين الرافضين له، بل ربما يذهب بعضهم إلى أن الإسلام يحرض على الرافضين لهذا الدين، فيحل لأتباعه أموال الآخرين ودماءهم! وهذا إنكار لمعلوم بنصوص قرآنية لا تقبل التأويل، وجحد لهدي نبوي راقٍ نظريًّا وعمليًّا، وظلم لسيرة سلف تُكتب بأحرف من نور؛ فها هو كتاب الله يأمر رسول الإسلام بدعوة الناس بالموعظة لا بالقتال، يقول تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، ويبين الله لنبيه أن سر نجاح دعوته يكمن في الترفق بالناس واللين في مخاطبتهم؛ حيث يقول: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»، ويذكِّره بأنه مرسل لإنقاذ البشرية جميعًا، فيقول له: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ». ويرفض الإسلام إكراه الناس على اعتناق الإسلام دينًا، فيقول الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، ويترك للناس اختيار الإسلام أو الكفر عقيدةً، فيقول عز وجل: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، ويؤسس لعلاقات وطيدة مع المخالفين في الدين تقوم على السلام والتعايش لا العداء والتقاتل، فيقول سبحانه: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، ويعلِّم أتباعه أنه لا حرج في التعامل مع المخالفين في الدين في أمور المعيشة والعلاقات الإنسانية من بيع وشراء وتزاور وغير ذلك، فيقول الله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
ومن ثم، فإنه من الضروري طرح هذه القضايا التي يأخذها كل طرف على الآخر على طاولة الحوار في مثل هذه اللقاءات؛ لا لإحداث صدام أو عراك حاشا لله، وإنما لتوضيح الحقائق، وتصحيح المفاهيم، والبناء على المشتركات، والبحث عن حلول واقعية للمختلف فيه، أو ترك جذوته تخمد شيئًا فشيئًا دون النفخ فيها وتصديرها عند كل محاولة للتقارب بين الحضارات والثقافات، وعندئذ تتحقق التنمية الوطنية، والسلام العالمي، والتعايش المجتمعي المنشود بين المختلفين دينًا أو ثقافةً أو عِرقًا.
12654