إفريقيا الوسطى أو جمهورية الصراعات المشتعلة كما يمكن أن نطلق عليها، بلد إفريقي عانى كثيرًا من الاضطرابات جرَّاء صراعٍ دام وحربٍ طاحنةٍ بين جماعات تلوّنت بألوان كثيرة، فمنها ما اصطبغ بالصبغة الدينية ورفع شعار الدفاع عن المعتقد وحماية الهوية الدينية من الطرف الآخر، وقد تمثّل هذا في جماعة سيليكا المسلمة ومليشيات أنتي بالاكا المسيحية المتشددة؛ حيث تسبب الصراع بين هاتين الجماعتين في إغراق البلاد في شلال من الدماء وترديها بين حطام المنازل والطرقات التي طالتها أيادي التخريب إبان ذلك الصراع، كما لم تسلم إفريقيا الوسطى من صراعات أخرى عرقية وسياسية فضلاً عن الصراع المعتاد في مثل هذه البلدان الفقيرة في مواردها إلى حد ما على الموارد بين القبائل والطوائف المختلفة، فالجميع يريد الانفراد بالسلطة والاستحواذ على الموارد التي يمتلكها ذلك البلد. ولطالما شغلت قضية الصراع الدائر في إفريقيا الوسطى مساحة من تقارير ومتابعات وحدة رصد اللغات الإفريقية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرّف عملًا على تحقيق الرسالة التي أنشئ المرصد من أجلها وهي أن يكون عين الأزهر الناظرة على العالم بالرصد والتحليل والمتابعة والرد، فحازت تلك القضية اهتمام المرصد وأعد بعض التقارير والمتابعات بشأنها ليوضّح للقارئ حقيقة الأوضاع في إفريقيا الوسطى، ولم يكتف الأزهر بذلك فحسب، بل أخذ على عاتقه مبادرات لإحلال السلام وإقرار مصالحة بين الأطراف المتنازعة في البلاد حقنًا للدماء وحفظًا للبلاد من خطر محدق وكارثة كبرى، فكانت قافلة السلام لإفريقيا الوسطى ثم وفد رفيع المستوى قام بدور الوساطة لحل النزاع والتوصل لاتفاق سلام بين الأطراف المتناحرة.
الأزهر ومحاولات رأب الصدع وإحياء السلام وعقد المصالحة بإفريقيا الوسطى
ورغم جهود المصالحة ومبادرات إحلال السلام ظلت إفريقيا الوسطى في معاناتها جراء الصراع المتجدّد بين الحين والآخر، وتكبّدت جراء ذلك الصراع مئات الضحايا وآلاف بل مئات الألوف من النازحين والمشرّدين، وقد استرعت الأزمة في إفريقيا الوسطى اهتمام المجتمع الدولي فبادرت الأمم المتحدة بإرسال قوات متعددة الجنسيات بهدف حفظ السلام والحيلولة دون تردي الأوضاع أكثر مما هي عليه، ولكنّ ذلك لم يمنع استمرار الأزمة، بل وتفاقمها حتى أن قوات حفظ السلام ذاتها صارت مستهدفة من قبل مليشيا مسلّحة صارت تقتّل هنا وهناك دون أن ترعى حقًّا لوطن ولا إنسانية، بل وجّهت نيران أسلحتها صوب قوات حفظ السلام كما حدث، عندما أقدمت على قتل ثلاثة جنود مغاربة من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بعد أسرهم من قبل مليشيا أنتي بالاكا في مدينة بانجاسو والتي تبعد ما يقرب من 700 كيلو مترًا تقريبًا عن العاصمة بانجي.
جانب من حفل تأبين الجنود المغاربة ضحايا هجوم أنتي بالاكا
وأفادت تقارير أممية أن هذه هي العملية الثانية من نوعها التي تقوم بها هذه الجماعة خلال أسبوع، مما دفع مجلس الأمن الدولي لمطالبة سلطات إفريقيا الوسطى بالتحقيق في مقتل الجنود المغاربة الثلاثة وتقديم الجناة للعدالة. وأفاد بيان أصدره المجلس، بأن «أعضاء مجلس الأمن يدينون بأشد العبارات الهجوم ضد المينوسكا في بانغاسو من قبل أفراد مشتبه بهم من مجموعة أنتي بالاكا، والذي أسفر عن مقتل جنديين مغربيين من القبعات الزرق وإصابة آخر، بعد يومين من الهجوم الذي قتل فيه جندي مغربي آخر من قوات حفظ السلام.
مقتل الجنود المغاربة إنذار بمواجهات غير مسبوقة بين قوات حفظ السلام وجماعات مسلّحة بإفريقيا الوسطى
فيما وصف "جان بيير لاكروا"، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام في إفريقيا الوسطى الوضع في البلاد، بـ"الخطير" مع احتمالية التراجع، وذلك عشية اندلاع معارك عنيفة شمال غرب البلاد. كما شدّد لا كروا على ضرورة مضاعفة الجهود من أجل فرض السلام وإعادة الأمن للبلاد.
المسلمون أول ضحايا العنف في إفريقيا الوسطى
في كل موجة عنف تجتاح إفريقيا الوسطى تطالعنا التقارير والإحصائيات بأرقام مفزعة لأعداد الضحايا إما جراء الحصار أو القتل والتنكيل بشتى ألوان التعذيب أو التشريد، ولا يجد من يطالع تلك التقارير والإحصائيات عناءً في الخروج بنتيجة واضحة وضوح الشمس وهي أن مسلمي إفريقيا الوسطى هم أكبر المتضررين جراء أعمال العنف والأزمات الطاحنة التي تتعرّض لها البلاد، ففي أعقاب كل كارثة تحيق بالبلاد ابحث عن المسلمين تجدهم تحت الأنقاض وخلف الركام وبين الحطام، ثم توجّه إليهم أصابع الاتهام بالمسئولية عن العنف والإرهاب!!!
صورة تظهر مسلمين محاصرين داخل إحدى الكنائس ببلدة بانجاسو
فقد تجدد استهداف قرى المسلمين وإجبارهم على النزوح واللجوء إلى دور العبادة من مساجد وكنائس، بحثًا عن ملاذ آمن، مما يعيد إلى الأذهان كابوس الإبادة الذي تعرض له المسلمون هناك قبل سنوات على أيدي مليشيات مسيحية؛ حيث قامت مليشيا أنتي بالاكا المسيحية المتشددة بمحاصرة حوالي 2000 مسلم كانوا قد احتموا بكنيسة ببلدة بانجاسو Bangassou، التي تبعد نحو 700 كيلو مترًا شرقي العاصمة بانغي Bangui. من جانبها ذكرت مصادر أممية أن هجمات أنتي بالاكا ضد المسلمين أدت إلى مقتل ثلاثين شخصاً على الأقل، في جرائم أقل ما توصف به أنها جرائم حرب بحق الإنسانية لا المسلمين فحسب، فضلاً عما تمثّله من تهديد للاستقرار والسلام في البلاد ودول الجوار. يأتي هذا فيما حمّل تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية مليشيا أنتي بالاكا المسيحية مسؤولية ما يجري في البلاد واصفًا ما تقوم به هذه الحركة بالاستهداف الديني للمسلمين، كما أشار التقرير إلى أن مجموعة أنتي بالاكا المسيحية تمارس عنفًا ممنهجًا وإجرامًا وحشيًا بحق المسلمين فتقوم بمنعهم من الصلاة وارتداء الملابس المميزة للمسلمين وتمنعهم من ممارسة حياتهم اليومية .يذكر أن أعمال العنف في جمهورية إفريقيا الوسطى أدت إلى تهجير حوالي 503.600 شخص داخل البلاد بينهم أكثر من 100.000 عام2017 وتم تسجيل أكثر من 484.000 شخص كلاجئين في البلدان المجاورة (الكاميرون وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد)، فيما فرّ حوالي 21.500 شخص عبر الحدود إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية في الأسابيع الأخيرة فقط.
وإن مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف إذ يتابع هذه التطورات الخطيرة فإنه يأسف لما آلت إليه الأمور في إفريقيا الوسطى التي باتت مرتعًا لجماعات العنف وعصابات لا ترقب في وطن ولا مواطنين إلًا ولا ذمة، بل تسعى لتحقيق مصالح وأهواء غير عابئة بتبعات ممارساتها وعاقبة جرائمها، كما يدعو المرصد المجتمع الدولي للتحرك بشكل عاجل لوقف الانتهاكات الجارية على الأرض، فبأي ذنب يُقتل أشخاص مسالمون أو يحاصروا أو يحال بينهم وبين أبسط حقوقهم كمواطنين وأبسط حقوقهم كبشر. وينادي المرصد أيضًا بمساندة ودعم كافة مبادرات المصالحة الجادة التي تسعى لإيجاد حل جذري للقضية ووقف فوري لكافة أشكال العنف. أما في حالة الركون إلى حلول مؤقتة وأنصاف حلول فلا يعتقد أن تغييرًا كبيرًا سيحدث، بل ستبقى الإجابة عن التساؤل: الصراع في إفريقيا الوسطى .. إلى أين؟ مجهولة.
وحدة رصد اللغات الإفريقية