القضية الفلسطينية

 

12 سبتمبر, 2018

الاستيطان الصهيوني سرطانٌ يَنهَش أراضيَ الضفة الغربية (2)

     تدور في مدينة القدس العديد من الانتهاكات والإجراءات الصهيونية التي تستهدف تهويد المدينة، وطرد سكانها، وتزوير طابعها العربي الإسلامي المُمَيَّز، وهدم المسجد الأقصى المبارك لإقامة هيكلهم الثالث المزعوم، ولعل أغلب هذه الانتهاكات والاجراءات ظاهرةٌ للعِيان، ولكن على نفس الجبهة يدير الكِيان الصهيوني حربًا ضروسًا ربما تكون بعيدةً عن الأنظار قليلًا، ألَا وهي الحرب الاستيطانية الصهيونية على التجمُّعات البدوية في مدينة القدس.

وينتهج الكِيان الصهيوني منذ احتلاله للأراضي الفلسطينية سنة 1948م، سياساتٍ عنصريّةً فاشيّةً في حربه التهويدية على التجمعات البدوية في مدينة القدس، قائمةً على معادلة خبيثة أساسها وضع اليد على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، التي يقطنها عددٌ ضئيلٌ من الفلسطنينيين؛ ليَحلَّ محلَّهم غالبيةٌ من المستوطنين اليهود، ولإقامة ما يُسَمّى: "القدس الكبرى"، ولتحقيق هذه المعادلة الخبيثة؛ يلجأ الكِيان الصهيوني إلى سياسة التطهير العِرْقي، وهدم البيوت، والتهجير القسري، ويُمارِس هذه السياساتِ العنصريّةَ كافّةً بحق التجمعات البدوية في مدينة القدس.

وتنبغي الإشارة إلى أن هذه السياساتِ الصهيونيةَ ليست وليدة الصدفة؛ بل تعود إلى مؤسس الصهيونية، "تيودر هرتسل"، عندما قال: "يجب اجتثاث كافّة الآثار غير اليهودية وهدمها وحرقها، حالَ تَمَكُّن اليهود من السيطرة على القدس"، وهو ما يحدث تدريجيًّا الآنَ، في مدينة القدس، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، الساعيةِ إلى وأد قضية القدس وفلسطين برُمَّتها؛ من خلال ما يُطلِق عليه الإعلامُ "صفقةَ القَرْن"، وإن شئتَ فقل: "صفعة" القرن.

ينحدر أبناء التجمعات البدوية من بئر السبع وتل عراد في صحراء النقب، الذين سكنوا ضواحيَ القدس في الخمسينيات، إثر تهجيرهم القسري من قِبَل الكِيان الصيهوني. ويعتمدون في معيشتهم على رعي الأغنام والزراعة، ويعاني أبناء هذه التجمعات من نقص شديد في مصادر المعيشة وخِدمات الصحة ومرافق الكهرباء والصرف الصحي والشوارع المُعَبَّدة، وتقع أغلب هذه التجمعات البدوية في منطقةٍ تُسَمّى (E1)، وَفْقَ المُسَمّى الصهيوني، وهي المنطقة الواقعة بين بلدة القدس القديمة غربًا، وبين مستوطنة "مَعاليه أَدوميم" في الضفة الغربية شرقًا، هذه المنطقة تُعرف جغرافيًّا وتاريخيًّا بصحراء القدس، ويعيش أكثر من 12 ألف نسمة في هذه التجمعات البدوية، بَيْدَ أن الكِيان الصهيوني يسعى  إلى تهجيرهم قسريًّا للمرة الثانية إلى مناطقَ أخرى؛ مثل: منطقة خلة الراهب في "أبو ديس" شرقي القدس، والعيزرية، عَبْرَ وضعهم في "كانتونات مغلقة وبؤر صغيرة".

ويبلغ عدد التجمعات البدوية في ضواحي القدس 24 تجمعًا؛ من بينها: تجمُّع الخان الأحمر، الذي يقع في موقعٍ إستراتيجي؛ حيث يفصل بين مستوطنتَي "معاليه أدوميم" و"كفار أدوميم" في الضفة الغربية، فضلًا عن أن الخان الأحمر أحد المناطق الفلسطينية القليلة الحسّاسة في منطقة E1 التي تربط شمال وجنوب الضفة الغربية، وينتمي أبناء الخان الأحمر إلى عشيرة "أبو داهوك"، وهي من كبرى عائلات عشيرة "الجهالين" البدوية، وقد تعرضوا للتطهير العِرْقي من قَبلُ، وذلك عندما أُجبروا بالقوة بعد عام 1948 على مغادرة أراضيهم في النقب، وتجمعوا منذ ذلك الحين في منطقة الخان الأحمر، وصمدوا في فلسطين رغم المعاناة والتنكيل والملاحقة المستمرة.

وقد منعهم الاحتلال منذ سنوات من بناء البيوت والمدارس والعيادات، وحتى المرافق الصحية؛ ليعيشوا شَظَفَ العَيش في أكواخٍ من الصفيح والطين، والتي يقطنها نحو 190 فلسطينيًّا، محرومين من الكهرباء والمياه، ومع ذلك يُصِرُّون على الصمود والبقاء، كما سدّ الاحتلال كل المنافذ لقريتهم التي عاشوا فيها، فصار الدخول إليها والخروج منها مغامرة يومية صعبة تُعَرِّضهم للغرامات المتكررة من شرطة الاحتلال، حتى يُضطروا إلى ترك أرضهم والقَبول بالمُخَطَّط الصهيوني، كما يُضطر صغارهم إلى ارتياد مؤسسات تربوية بعيدة، السفر إليها محفوفٌ بمخاطرَ تهدد سلامتهم؛ إذ منَعهم الاحتلال من بناء مدرسة بمواد البناء الطبيعية، فتَفَتّقت أذهانهم عن فكرة بناء مدرسة بإطارات السيارات المستعملة، وذلك بدعمٍ  من جمعيةٍ إيطالية تُدعى (Terra Di Vento) في 2009، حتى عُرفت بمدرسة الإطارات، ثم استعملوا الطاقة الشمسية لتزويدها بالكهرباء؛ فأصبحت تخدم 170 طالبًا وطالبةً من ثمانية تجمعات بدوية، كما أقاموا خيمةً بسيطة تُستعمل مسجدًا للصلاة، ومستشفى لفريق الإغاثة الطبية الذي يزورهم بانتظام.

خاض سكان الخان الأحمر معاركَ قضائيةً واسعة، واحدةً تِلْوَ الأخرى، حتى صدر قرار محكمة الاحتلال العليا في 24-5-2018، بهدم كافّة المساكن في التجمع وإجلاء سكانه من المنطقة، ثم صدر أمرٌ من الحاكم العسكري في الضفة الغربية بمصادرة الأرض لأغراضٍ عسكريةٍ، وأعطاهم مهلة لمدة شهرٍ واحد لإخلاء مساكنهم؛ وذلك للشروع في اقتلاعها وتشريدهم للمرة الثانية، وطَوال الفترة الماضية خاضوا معركةَ مقاومةٍ شعبيّةٍ باسلة لإلغاء هذا القرار ومنع تنفيذه، حتى استطاعوا إرجاء تنفيذ الهدم.

وقد تحوّلت قضيتهم إلى قضيةٍ عالمية، شدّت انتباه الدول وأصحاب الضمير ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ومرصد الأزهر الشريف لمكافحة التطرف، الذي يسلط الضوء على انتهاكات الكِيان الصهيوني للمعايير والاتفاقيات القانونية الدولية، التي فشلت في حماية مجموعة من المواطنين الذين لم يتمّ حرمانهم من الكهرباء والمياه العذبة فحسب، لكنهم على وَشْك الطرد من أرضهم التي أقاموا بها إقامةً كئيبةً لعُقود، كما وجّهت خمس دول أوروبية كبرى (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا) تحذيرًا إلى الكِيان الصهيوني بشأن تنفيذ قرار محكمته بهدم قرية الخان الأحمر، مطالبين إياه بتجميد قرار الهدم نهائيًّا، لكن الكِيان الصهيوني لم يأبه بهذا التحذير، ولم يَعُدْ يلتفت إلى الرأي العام العالمي، وبشكلٍ خاصٍّ بعد نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكة إلى مدينة القدس المحتلة، وكما يبدو؛ فإنّ الإدارة الأمريكيّة قد أطلقت يد الكِيان الصهيوني في الأراضي المحتلة، لتصادرَ وتستوطن وتقتل وتُشَرِّد كيفما تشاء؛ لدرجة أن الكِيان الصهيوني تَمادى في غَيّه، وأعلن أن عملية هدم الخان الأحمر ستُنَفَّذ كما هو مُخَطَّطٌ لها، عاجلًا أم آجِلًا؛ من أجل الوصل بين مستوطنتَي "معاليه أدوميم" و"كفار أدوميم"، وربطهما بمستوطنة "جوش عِتْصيون"، بالقرب من مدينة الخليل.

يتضح لنا مما سبق أن الكِيان الصهيوني يُثبِت يوميًّا أنه كلما اقترب الفلسطينيون -بوساطةٍ مصرية- مترًا من السلام، ابتعد الكِيان الصهيوني عنه ميلًا، كما أن الكِيان الصهيوني يستغل الوضع جيّدًا لفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض، ويسارع في تهويد القدس بشكلٍ جنونيٍّ، كما يسارع بعمل غلافٍ استيطاني لها للإجهاز نهائيًّا على عملية السلام، و هدم إمكانية التعايش السلمي بين الجانبين.

 

وأخيرًا؛ حالَ نجاح الكِيان الصهيوني في مُخَطَّطه الخبيث، فإنه سيُحَقِّق نتائجَ كارثيّةً، من بينها:

   -  البدء في حملة استيطانية صهيونية موسّعة لتصفية 24 تجمُّعًا بدويًّا في محيط ضواحي مدينة القدس؛ من أجل تطويق المدينة بالمستوطنات وفصلها بصورةٍ كاملةٍ عن باقي أراضي الضفة الغربية.
   -   فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها عَبْرَ قطع التواصل الجغرافي الممتد بينهما، المُتَمَثِّل في الخان الأحمر، وبالتالي استحالة قيام دولة فلسطينية بالضفة الغربية؛ لأنها لن تكون متصلة جغرافيًّا.
   -   في حال نجاح تصفية التجمعات البدوية في محيط القدس؛ ستتمّ إقامة "القدس الكبرى"، التي ستبلغ مساحتها أكثرَ من 600 كم مربّع؛ وستمتد من جنوب رام الله إلى الجنوب، حيث التجمع الاستيطاني "جوش عتصيون"، الواقع بين بيت لحم والخليل، وشرقًا إلى البحر الميت، وغربًا إلى غربي القدس، أو ما يُطلِق عليه الاحتلالُ غابةَ "بيت شيمش".
   -   تفريغ صحراء فلسطين من سكانها البدو الأصليين، ومصادرة أراضيهم؛ وذلك بهدف إقامة المزيد من المستوطنات اليهودية.
   -  تدمير نمط الحياة البدوية والتواصل القَبَليّ فيما بينهم؛ عَبْرَ تهجيرهم القسري.
  -    وقوع كارثةٍ اقتصادية على البدو؛ وذلك بحرمانهم من حرفتهم الرئيسة، وهي رعي الأغنام وتربية المواشي ومنعهم من المراعي الطبيعية؛ ممّا يؤدّي إلى خسارةٍ فادحة في الثروة الحيوانية بالضفة الغربية.

     إن قضية الخان الأحمر لا تدور فقط من أجل إنقاذ الخان الأحمر بكل ما يحمله ذلك من معانٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ، بل تدور أيضًا حول مستقبل القدس وفلسطين بكاملها، وهدف الاحتلال جَليٌّ كالشمس، من الخان الأحمر، إلى سيلوان، إلى القدس، ثم إلى الأغوار؛ إنه تدميرٌ لإمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتكريسٌ لنظام "الأبارتهايد"، ومحاولةٌ لتهجيرِ أكبرِ عددٍ ممكن من الفلسطينيين، وحشْر مَن يَتَبَقّى منهم في "جيتوهات" محكومةٍ بنظام "الأبارتهايد" العنصري.

     ويؤكّد "مرصد الأزهر" أن الخان الأحمر أصبح رمزًا للقرى البدوية في الضفة الغربية، وأن ما يقوم به الكِيان الصهيوني المُغتصِب من قهرٍ وإذلالٍ للفلسطينيين، وتشريدهم مرّةً تِلْوَ الأخرى، وتهجيرهم ‏ومُصادَرة أراضيهم، وبناء مستوطنات على أنقاضها، وكلُّ ذلك مُخالفٌ للقيَم الإنسانية، ولكل القوانينِ والمواثيق الدولية.

     كما يَشُدُّ "مرصد الأزهر الشريف" على أيادي الفلسطينيين الشرفاء، البواسل، القابضين على الجَمْر؛ من رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ، من أهالي الخان الأحمر، وكلِّ التجمعات البدوية الباسلة، الصامدة في وجه جبروت الظلم والطغيان.


‏وحدة رصد اللغة العبرية