في مقال جديد نشرته "الجارديان" البريطانية، طرح تساؤل حول إمكانية وصول عدد شهداء غزة إلى 186 ألفًا حتى مع توقف العدوان الصهيوني على القطاع، مستعرضًا الصعوبات التي تواجه عملية التقييم مع عدم قدرة المسؤولين داخل غزة على مواكبة عمليات القصف والقتل الجارية بوتيرة متسارعة، ووجود نحو 10 آلاف مفقود تحت الأنقاض.
وتحت عنوان: "لماذا يخشى الباحثون أن يصل عدد القتلى في غزة إلى 186 ألفًا؟" ذكرت الغارديان أنه في حال إقرار الوقف الدائم لإطلاق النار فإن عدد القتلى لن يتوقف عند الحد المعلن حتى اللحظة؛ لأن الحرب لا تقتل الناس فقط من خلال العنف المباشر، فوفق الأبحاث التي أجراها علماء الأوبئة في السنوات الأخيرة حول انتشار الأمراض في أثناء الصراعات المسلحة فيما يطلقون عليه "الخسائر غير المباشرة للحرب" فإن الوفيات في أثناء الحروب والصراعات تنجم عن عوامل إضافية مثل: سوء التغذية، ونقص الأدوية، وظروف المعيشة غير الصحية، والتي تأتي نتيجة واضحة لتداعيات الحرب.
وبحسب ما ذكره هؤلاء العلماء فإن كثيرًا ما يتجاوز عدد الضحايا غير المباشرين الخسائر المباشرة إلى حد كبير، ضاربين مثالًا بما حدث في تيمور الشرقية التي قُتل أو اختفى بها نحو 19 ألف شخص بين عامي 1974 و1999 معظمهم في أثناء التدخل الإندونيسي، ولكن هذا الإحصاء لا يقترب من إحصاء التكلفة البشرية الكاملة؛ إذ تشير التقديرات إلى أن 84 ألف شخص إضافي لقوا حتفهم في نهاية المطاف نتيجة النزوح الجماعي والتجويع ما يعني وقوع أربع وفيات غير مباشرة لكل حالة وفاة مباشرة.
وقياسًا على ذلك، توقع مدير معهد أبحاث صحة السكان في جامعة ماكماستر في كندا، حدوث أربعة وفيات غير مباشرة لكل وفاة مباشرة في قطاع غزة، إلا أن الأوضاع شديدة التدهور دفعته وزملاؤه لتوقع تسجيل نسب أعلى بكثير، حيث وجدوا أن نسبة أربعة إلى واحد قد تعني 186 ألف حالة وفاة إجمالية في غزة.
وبناء على ما رصده الباحثون فإن ما أعلن يعد نتيجة "صادمة" فهي تمثل 8% من سكان غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، إلا أنها تعد تقديرات تقريبية للغاية خاصة مع انهيار منظومة الرعاية الصحية، وقبلها انهيار أنظمة المعلومات وانعكاس ذلك على مدى موثوقية أرقام الوفيات الناتجة عن الحرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ونخلص من هذا بأن الحروب والصراعات المباشرة ليست وحدها السبب الرئيس في عدد الوفيات بل هناك أسباب غير مباشرة ناتجة عنها تؤدي إلى ارتفاع حصيلة الضحايا، وفي حالة غزة ساهم تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية بشكل متعمد خلال الحرب الأخيرة في رفع إجمالي عدد الشهداء.
لكننا نشير في الوقت نفسه إلى مدة ما قبل الحرب، فالتقرير الصادر عن منظمة حقوق الإنسان داخل الكيان الصهيوني "بتسيلم" بتاريخ أبريل 2023 أي قبل العدوان الأخير بأشهر قليلة أكد أن الحصار المفروض لأكثر من 15 عامًا على القطاع تسبب في نقص مستمر في الأدوية والمعدات الطبية، وبالتالي وقوع البنية التحتية الطبية هناك تحت ضغط تلبية احتياجات سكان القطاع حتى قبل العدوان.
وانتقالًا إلى السبب الثاني غير المباشر، في المدة بين عامي 1999 و2005 ساهم النقص الشديد في الغذاء والمياه النظيفة في جنوب السودان جراء الحرب في تسجيل نسب وفيات غير مباشرة إلى وفيات مباشرة بنحو تسعة إلى واحد.
وفي غزة حاليًا، دمرت القوات الصهيونية المزارع وأوقفت الشاحنات المحملة بالإمدادات الإنسانية على الحدود، كما حجبت العديد من دول العالم تمويل "الأونروا" ، الأمر الذي رفع مستويات انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات غير مسبوقة، ومثالًا على ذلك كان أكثر من 90٪ من سكان غزة يواجهون مستويات أزمة من الجوع وندرة في المياه النظيفة في ديسمبر الماضي.
أما السبب الثالث هو "النزوح" الذي يسبب صدمات وعواقب جسدية خطيرة جزء منها يعود إلى الحالة النفسية والآخر لوضع المخيمات المكتظة بالنازحين وسط ظروف صحية وإنسانية متدهورة يفاقمها القصف المتواصل، ومثالًا على ذلك سيراليون التي نزح ما يقرب من نصف سكانها خلال الحرب التي استمرت 11 عامًا، لتسجل نسبة الوفيات غير المباشرة إلى المباشرة نتائج صادمة قدرت بـ 16 إلى واحد.
وفي غـ.زة حاليًا، ما لا يقل عن 1.9 مليون شخص بما يمثل 80% من السكان فروا من منازلهم ليحاصروا في مساحات ضيقة في قطاع غزة، مما تسبب في ظهور حالات عديدة من أمراض معدية بين النازحين خاصة الأطفال.
ومع استمرار العدوان الوحشي الصهيوني على قطاع غزة، وبعد ما أشارت إليه "الجارديان" من تفاصيل وأمثلة وقعت قبل سنوات، نحذر من ارتفاع عدد الشـهـداء سواء بفعل الآلة العسكرية الغاشمة أو بفعل الأوبئة والأمراض والجوع وندرة المياه النظيفة ليسجل عدد الشهداء أرقامًا "مفزعة" قد تكون الأعلى في التاريخ الحديث.