الروهينجا

من أسباب الإرهاب (8)- "الانفصال عن الواقع"

من أسباب الإرهاب (8)- "الانفصال عن الواقع"

الإرهاب ظاهرة عالمية ليست حديثة النشأة، تأثّر بها العالَم شرقًا وغربًا، وعانى بسببها الكثير من الأبرياء. ولمحاربة هذا الوباء لابد من معرفة أسبابه والقضاء عليها، وتتعدد تلك الأسباب ما بين نفسية واجتماعية وسياسية ومادية ودينية وغيرها، ولعل من بين الأسباب التي تؤدّي إلى التطرف والإرهاب: الانفصال عن الواقع والعالَم المعاصر، وعدم مراعاة السياق الزمني والتاريخي والاجتماعي للأحداث الماضية.
فالفكر المتطرف يحمل صاحبه على الانفصال التام عن الواقع الحاليّ ومتغيراته وعن العالَم بأنظمته ومستجدّاته، ليعيشَ فقط في لحظات معينة يختارها من بطولات الماضي ويقيس عليها الحاضر ويبني عليها أفعاله ويبحث عمّا يُسَوِّغ به أعماله، فيُطَبِّق ما حدث في حالة الحرب على حالات السلم، ويخلط ما كان مقبولًا في الأعراف والقوانين السابقة، بما صار محظورًا في عالمنا اليوم.
فهؤلاء ينفصلون عن الزمان والمكان وليس لهم هَمٌّ إلا البحث عن مظاهرَ لبطولاتٍ مُتَوَهَّمة ليس لها وجود في الواقع المعاصر، حيث لا يَرَوْنَ في الواقع ما يُشبع طموحهم ويُلبّي أحلامهم، بل يشعرون بالضعف والهوان وانعدام الوزن بين الدول، فلا هم يفهمون الماضيَ ولا هم يعملون للحاضر ولا للمستقبل؛ بل يكتفون بأن ينتقوا من الماضي ما يَرَوْنَ فيه نموذجًا للبطولة دون اعتبار للأحداث، فيتطلعون إلى حُلْم الخلافة وحكم البلاد ورفع شعارات الانتصار في الحرب، ويضيفون إلى ذلك مزيجًا من السلطوية وحب السيطرة، فيَرَوْنَ كلمتهم هي العليا ويأمرون وينهَوْنَ عن جهلٍ، ويقتلون الناس ويحكمون بالباطل فيما لا يملكون، مستندين في كل ذلك إلى آياتٍ أخرجوها من سياقاتها وأحاديثَ اجتزءوها من إطارها، فيشوّهون الماضيَ ويُفسدون الحاضر، ويصدرون عن الإسلام صورةً هو منها بَراء.
 فمن يعطلون عقولهم عن العمل ويقيسون الحاضر على الماضي من وجهة نظرهم فحسب دون وعي أو فهم، تتوقف نظرتهم للآيات القرآنية عند الكلمة التي يختارونها، وتتوقف الأحداث التاريخية عند اللحظة التي وقعت فيها، فينقلون هذه اللحظة وحدها إلى الحاضر ولا ينظرون إلى ما قبلها ولا إلى سياقها، ولا يقرءون التاريخ ولا يضعون أحداثه في الاعتبار.
وهؤلاء لا حُجّةَ لهم ولا يُعذرون بجهلهم؛ إنما تحكمهم أهواؤهم وأهواء قادتهم الذين يوجّهونهم حيث أرادوا، فهُم مسلوبو العقل ومُشَوَّهو الفهم، ولو شاءوا لرجعوا إلى الفطرة السليمة التي تأبى سفك الدماء ونشر الذعر، لكنهم لا يكتفون بهذا، بل يَسعَوْنَ إلى جذب المزيد من الشباب إلى شِباك أفكارهم المغلوطة.
وتَوَقُّفهم عند زمنٍ معيّن دون السياق المكاني والتاريخي يمتد إلى تفسيرهم للآيات القرآنية وتعاطيهم معها، فيستدلون ببعض الآيات لتسويغ اعتداءاتهم على الأبرياء وارتكابهم للأعمال الإرهابية، فعلى سبيل المثال: يستشهدون بقول الله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة"، على استباحة دماء كل من يخالف عقيدة المسلمين، ولا يُكملون الآية الكريمة: "كما يقاتلونكم كافة"، فالآيةُ واضحةٌ؛ "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة"، في تفصيل أن الأمر بقتال المشركين بمثل ما يقاتلون المسلمين، أي: أنه ردٌّ للعدوان وليس بدءَ اعتداء، كما أنه لا يجوز قتال المسالمين منهم؛ ولا يُفهم منها مطلقًا الأمر بقتال غير المسلمين أينما كانوا، كما تدّعي الجماعات المتطرفة.
ومن أمثلة ما أخرجه الذين يتبنَّوْنَ الأفكار المتطرفة أو ينتمون لجماعات إرهابية عن سياقها الزمني وما حوله من وقائعَ: حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ......"، فقد أخذوا منه الألفاظ مجردة دون فهم، وألغَوْا كل ما يحيط بها من زمان ومكان وأحداث؛ فهذا الحديث ورَد لسبب مخصوص، وهو أن أهل مكةَ كانوا يحاربون النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه ويعذبونهم ويضيّقون عليهم بكل ما أوتوا من قوة حتى اضطروهم إلى الهجرة مرتين، مرة إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة المنورة، فشدّد الله عليهم وأمر النبي بقتالهم، ولكن عند فتح مكة وضمان كَفّ أذاهم عن المسلمين بادرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمقولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فهذا الحديث خاصٌّ بأحداثٍ معيّنة وبأناسٍ مُحَدَّدة ولا يُحمل على العموم، ولفظ "الناس" الوارد في الحديث يُقصد به أناسٌ بعينهم؛ وهم مشركو مكةَ الذين كانوا يحاربون النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه.
والأمثلة كثيرة تختلف في تفاصيلها، لكن ما يجمع بينها: أن أصحاب الفكر المتطرف الذي يقود إلى الإرهاب يجتزءون النصوص، ويُوقفون العقول عن الفهم، ويُعَطِّلون السياقَ الزمني والمكاني، وينفصلون عن الواقع بأحداثه ومعطياته، ولا يبحثون عن سبيل لفهمٍ صحيح أو علمٍ نافع ينسجم مع فطرة الله التي فطَر الناسَ عليها؛ فيُعَطِّلون نعمةَ الله التي وهبهم إياها، وينشرون في الأرض الفساد.

 

الموضوع السابق التصوف الإسلامي في إسبانيا بين الماضي والحاضر
الموضوع التالي الأعياد في الإسلام: نموذج الإنسانية والتسامح
طباعة
2425