تطور أساليب التطرف وأدواته: إسبانيا بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم
Sameh Eledwy

تطور أساليب التطرف وأدواته: إسبانيا بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم

تعد هجمات مدريد التي وقعت في ١١ من مارس ٢٠٠٤م من أبرز الأحداث الإرهابية التي شهدتها إسبانيا في تاريخها. وبعد مرور عقدين من الزمن على تلك الهجمات، يمكننا تأمل التطور الذي طرأ على مسار التطرف في إسبانيا وفهم الفوارق بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم؛ فبعد هجمات مدريد، شهد العالم تطورًا كبيرًا في مجال مكافحة الإرهاب على مستوى سبل المكافحة والتعاون المحلي والدولي. وقد تأثرت إسبانيا بتلك التغييرات، وشهدت تعزيزًا للتعاون الأمني الدولي وتبادل المعلومات لمكافحة التطرف. كما نهضت وسائل التواصل الاجتماعي بدور مهم في تطور أساليب التطرف في إسبانيا؛ فقد سهلت هذه الوسائل انتشار الأفكار المتطرفة وتجنيد الأفراد، وأصبحت وسيلة للتواصل والتنسيق بين التنظيمات المتطرفة. وعلى الجانب الآخر، استخدمت الوسائل نفسها في مكافحة الأفكار المضللة ودحضها وتفنيدها. ولا يمكن إغفال تأثير الهجمات الإرهابية العالمية التي تلت هجمات مدريد، خصوصًا في العواصم الأوروبية.

  • سمات الشخصية المتطرفة... بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم في إسبانيا

كان المتطرفون الذين ينشطون في أوروبا منذ عقدين من الزمن فتيانًا أوروبيين تتراوح أعمارهم بين ١٧ و٣٥ ‏عامًا، من أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين، تنحدر أصول عائلاتهم من شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط. لكنهم لم يسافروا ‏قط إلى تلك البلدان، واضطروا إلى تعلم لغة آبائهم. ويشعرون بأنهم لا ينتمون إلى أية ثقافة؛ فهم غرباء عن ‏ثقافة آبائهم كما أنهم غرباء عن ثقافة أقرانهم في المجتمع الغربي.‏

وقد تظهر سمات شخصية معينة للمتطرف، مثل عدم النضج والنرجسية والأنانية والتمركز حول الذات، والقدرة الوجدانية والعدوانية، ما يؤدي إلى تعزيز القدرة الإجرامية لدى هؤلاء الشباب وتجردهم من القيم الإنسانية.

وقد أشارت صحيفة "٢٠ مينوتوس" الإسبانية، في ٧ من مارس ٢٠٢٤م، إلى الصورة الجديدة للإرهابي. فغالبًا ‏ما تظهر صورة الرجل ذي اللحية السوداء الكثيفة، الذي لا يتحدث الإسبانية، على أنه مختل عقليًّا ‏وشرير مدعوم بشبكة دقيقة صاغتها نخب تنظيم إرهابي كبير. ‏أما الآن فالمتطرف يمكن أن يكون شابًا عشرينيًّا بلا لحية، يتحدث باللكنة الإسبانية ويحمل الجنسية الأوروبية، ‏ويستمع إلى الأغاني نفسها، ويرتدي أحدث الأحذية الرياضية ويدمن شبكات التواصل ‏الاجتماعي. وكأي مراهق، يخرج لتناول المشروبات ويحضر الحفلات. فما الذي يدفع ‏طفلًا يبدو عاديًا إلى أن يصبح إرهابيًّا؟ ‏

لقد رحل الإرهابيون -الذين تم تجنيدهم وتلقينهم عقائديًّا وتدريبهم عسكريًّا في الصالات ونوادي الملاكمة- إلى الغرب بهدف تنفيذ هجمات. أما الآن فهم إنغماسيون يعيشون بالفعل على الأراضي الأوروبية، وليست لديهم أية معرفة محددة، ومهمتهم إحداث أكبر قدر ممكن من الضرر. ولتحقيق ذلك، فإنهم مستعدون للفرار من مسرح الجريمة بهدف وحيد، هو مواصلة القتل بالسكين.

إن تنظيمي "القاعدة" و"داعش" هما وجهان لعملة واحدة. وُلد التنظيم الأول في أواخر الثمانينيات على يد أسامة بن لادن، وظهر داعش في عام ٢٠١٤م مع البغدادي. وكان هذا هو الفرع العراقي لتنظيم القاعدة. ونشأ تنظيم داعش عندما كان البغدادي مسجونًا في سجن معسكر بوكا العراقي، وقد وصفه عدد من المحللين بأنه جامعة الإرهابيين؛ ففيه التقى بأولئك الذين أصبحوا في ما بعد قادة التنظيم الجديد. وفجأة، ظهر الانقسام: كان لتنظيم القاعدة خط عملياتي أكثر تقليدية، بينما كانت تكتيكات البغدادي أكثر قسوة ووحشية؛ فبلغت من القسوة أن تنظيمَ القاعدة اعتبر داعش انحرافًا طائفيًّا عن الإسلام، وهو ما شوه صورة التنظيم. وكما ورد في بعض الكتابات، سعت القاعدة إلى "غزو القلوب والعقول" من أجل كسب المتعاطفين. وقد حوَّل تنظيم داعش هذه الرومانسية إلى سفك للدماء دون تمييز، حتى دماء المسلمين أنفسهم.

وأصبح منفذو الهجمات يستخدمون أدوات بدائية، ومعيبة غالبًا، كما كان الحال -مثلاً- مع إرهابيي برشلونة وكامبريلس، الذين فجروا الجهاز الذي كانوا يعتزمون استخدامه بعد أيام عن طريق الخطأ، وهو ما كان ينذر بوقوع الهجمات. وعليه أصبح الإرهاب الآن عابرًا للحدود ورقميًّا وغير منظم. والجناة شباب لا جذور معروفة لهم داخل التنظيمات، بل جاء انضمامهم من خلال وسائل وأدوات إعلامية ودعائية للتنظيمات. وهذا هو سبب أهمية الروايات المضادة ومحاولة السيطرة على المحتوى الإلكتروني.

  • عشرون عامًا على هجمات مدريد‏: كيف نُعرِّف ملف التطرف في إسبانيا؟  

‏بعد مرور ٢٠ عامًا على هجمات مدريد (مارس ٢٠٠٤م)، تطورت ملامح المتطرفين الذين اعتقلوا أو قتلوا في إسبانيا بتهمة ما يسمى بـ"التطرف الجهادي" في السنوات العشرين التي تلت هجمات ١١ من مارس في مدريد، إذ أشار معهد "إلكانو" الملكي الإسباني في دراسة له إلى أن معظم المتطرفين المعتقلين هم من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٣٥ عامًا. وتشكل النساء الآن ما يقرب من ١٢٪ من المتطرفين الذين تبلغ نسبة المتحولين إلى الإسلام حديثًا منهم ١٠٪. وأشارت الدراسة إلى أن نصفهم من المغاربة. لكن المتطرفين من السكان الأصليين أو الإسبان في ازدياد بسبب تزايد أعداد الجيل الثاني.

وقد حللت هذه الدراسة بيانات تخص ١٩٥ متطرفًا أُدينوا في الفترة ما بين عامي ٢٠١٢م و٢٠٢٣م في إسبانيا فضلًا عن العشرة الذين لقوا حتفهم في العمليات – وهم الأعضاء الثمانية في خلية ريبول التي ارتكبت الهجمات في برشلونة وكامبريلس، ومرتكبي الهجمات في كورنيلا (برشلونة) وتوري باتشيكو (مرسية). ومع ذلك، في حين لم توجد حالة نسائية واحد بين عامي ٢٠٠١م و٢٠١١م، فإن النساء يمثلن الآن ١١.٧٪ من المعتقلين أو القتلى. وتوضح الدراسة أن هذا التغيير يمكن تفسيره "في جانب كبير منه من خلال حملة محددة لتعبئتهن، طورها تنظيم داعش الإرهابي بوجه خاص في أثناء استمرار خلافته المزعومة في سوريا والعراق. تناول التحليل ٢٠٥ حالة من بينهم ٢٤ امرأة جميعهن أصبحن متطرفات -باستثناء واحدة- في خلال دورة التعبئة إبان الحرب في سوريا وظهور تنظيم داعش الإرهابي، وذلك بين عامي ٢٠١٢م و٢٠١٥م بالأساس. ولم تمارس أي منهن مهام عملياتية ولا تدربن على استخدام الأسلحة أو المتفجرات على غرار ٦٩.٦٪ من حالات الرجال. ومن هذا المنطلق، كان عملهن لأغراض الدعوة وتمجيد التنظيم (٦٢.٥٪) أو لاستمالةالنساء وتجنيدهن (٥٠٪)، فيما قامت نسبة ١٢.٥٪ منهن بمهام لوجستية و١٠.٧٪ منهن بمهام تمويلية. وعلاوة على ذلك، فإن ثماني من أصل عشر منهن كن على استعداد للانتقال إلى مقر "الخلافة المزعومة"، وأبدى ٦٦.٧٪ منهن الاستعداد للمساهمة بفعالية كزوجات وأمهات يضطلعن بمسئولية تلقين الفكر المتطرف للنشء.

وتشير التقارير إلى أن ٦ من أصل ١٠ من هؤلاء المتطرفين مغاربة المولد (٥٥.٩٪) وأن ٥ من أصل ١٠ يحملون الجنسية المغربية (٤٨٪)، ويكمن الفرق في أن بعضهم تجنسوا بالجنسية الإسبانية. وتوضح هذه البيانات مدى انتشار الفكر المتطرف عالميًا، كما في إسبانيا، وهو أمر يفسره القرب الجغرافي. وعلاوة على ذلك، يشار إلى أن المغرب بلد تأثر تأثرًا ملحوظًا بهذا الفكر منذ نشأته. وثمة تغيير آخر، فبينما كان الجيل الأول من المتطرفين في العقد السابق يشكل الأغلبية (٧٨.٢٪) مقارنة بالجيل الثاني من المهاجرين (١٩.٢٪)، أصبح الجيل الثاني الآن أكثر عددًا (٥٢.١٪) مقارنة بالجيل الأول من المهاجرين (٣٥.٩٪)، بل توجد حالات من الجيل الثالث من المهاجرين بنسبة (٧.١٪).

ومن ناحية أخرى، شهد العقد الماضي تغييرات مقارنة بالعقد السابق؛ فعلى الرغم من أن الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٢٥ عامًا هم الأغلبية (سبعة من كل عشرة)، توجد الآن حالات من القصر (١٪؜ في سن ١٤ سنة أو أقل و٤.٩٪؜ في سن ما بين ١٥ و١٧ سنة). كما أن عددًا من الشباب الذين تعرضوا للتطرف نشأوا في أسر مفككة ومروا بفترات صعبة من المراهقة، كما مروا في الغالب بتجارب مؤلمة ومشكلات سلوكية أو نفسية. ومن حيث الأقاليم، ما يزال إقليم قطلونية يسجل أعلى نسبة من حالات التطرف (٣٥.٨٪)، يليه مدريد بنسبة (١٥.٣٪)، ثم سبتة (١٠٪)، ومليلية (٨.٤٪)، ثم أندلوثيا (٧.٤٪)، ثم بلنسية (٦.٣٪)، ثم إقليم الباسك (٥.٣٪).

  • على الرغم من تورطه في هجمات مدريد، تنظيم "القاعدة" خارج مخيلة المتطرفين في إسبانيا

‏عند الحديث عن مصدر إلهام ‏المتطرفين في إسبانيا والولاءات للتنظيمات المتطرفة، بعد أن كان تنظيم القاعدة هو مصدر الإلهام الأساسي للمتطرفين ‏في إسبانيا وفي شريحة كبيرة من المتطرفين حول العالم، أصبح تنظيم داعش الإرهابي منذ ظهوره وسرعة انتشاره ‏-وتحديدًا في ٢٠١٤ مصدرًا بديلاً لإلهام المتطرفين، بل ربما أصبح المصدر الوحيد لذلك. وقد توصل إلى هذه النتيجة تحليل أجراه معهد "إلكانو" بعد أن عقد مقارنة بين حالات الاعتقالات بسبب التطرف الجهادي ‏في إسبانيا بين عامي ٢٠١٢م و٢٠١٩م وبين عامي ٢٠٢٠م حتى عام ٢٠٢٣م. وقد تبين أن تنظيم "داعش" ‏الإرهابي ظهر في البداية بوصفه فرعًا لتنظيم القاعدة، وفي عام ٢٠١٤م بدأ في التوغل السريع في الأراضي في العراق ‏وسوريا، ما أدى إلى حدوث تغيير في المشهد العالمي للتنظيمات المتطرفة. وحسبما شرحت "كارولا جارثيا كالبو"، الخبيرة في معهد "إلكانو" وأحد المشاركين في إعداد تلك الدراسة، تحرك بعض ‏الأفراد في إسبانيا صوب جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا، ولكن عندما ظهر تنظيم ‏داعش وأعلن الخلافة ودعا إلى التحرك لصالحه، انتقلوا إلى التنظيم الوليد. وابتداءً من عام ٢٠٢٠م، أصبح داعش هو "الفريق المسيطر" على المتطرفين ومصدر توجيههم، واختفى تنظيم ‏القاعدة تمامًا.

وفي الفترة  بين عامي ٢٠١٢م و٢٠١٩م، كان تنظيم القاعدة يشكل مرجعية لنسبة ١٠.٣٪ من ‏المتطرفين. ولكن ما بين عامي ٢٠٢٠م حتى عام ٢٠٢٣م، ارتفعت نسبة المتطرفين الذين يلتزمون بنهج تنظيم داعش ‏الإرهابي إلى ٨٧.٦٪، في حين تراجعت نسبة المتطرفين المنتمين إلى تنظيم القاعدة إلى ٠.٩٪ فقط.‏ ويعود هذا التحول في الانتماء إلى عدة عوامل، منها النجاحات التي حققها داعش في العراق وسوريا وجذب الانتباه ‏العالمي إليه، إضافة إلى استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة عبر الإنترنت والترويج لأفكاره ‏المتطرفة بطرق مبتكرة.

ومع كل ما تقدم، ينبغي أن نؤكد أن تنظيم القاعدة ما يزال قائمًا يحاول الحفاظ على ‏تأثيره وشن هجمات جديدة، لكنه لم يعد يلقى الاهتمام والانتشار اللذين كانا في السابق. كما أن ‏التنظيمات الإرهابية قابلة للتطور والتغيير؛ لذا فمن الممكن أن يظهر تنظيم جديد في المستقبل يحظى بتأييد ومتابعة من ‏المتطرفين، ما يوجب على الأجهزة الأمنية توحيد الجهود لتستمر في مكافحة الإرهاب ومواجهة ‏الأيديولوجيات المتطرفة.

ونتيجة لما عرضناه، توجد حقيقتان لابد من إدراكهما إدراكًا كاملاً والتعامل معهما بوضوح وحزم: أولهما أن سيطرة تنظيم إرهابي ما على ساحة الأحداث تأتي من نشاطه الفعلي على الأرض، لا من خلال الدعاية والظهور الإعلامي فقط. أما الحقيقة الثانية فتكمن في استخلاص داعش قواعد العمل الإرهابي المعاصر، وقدرته على التعامل مع التقنيات الحديثة وحشد المتعاطفين والأتباع، من خلال آلة إعلامية قوية نجحت في إبهار قطاع عريض من الشباب، الذي مورست عليه مؤثرات عاطفية ونفسية ترتبط بمفاهيم المواطنة ودرجاتها وفق أصول الشخص ولونه وثقافته، ومؤثرات دينية مرتبطة بمفهوم الخلافة والحكم والولاء وغيره، فانساق وراء التنظيمات الإرهابية على غير هدي بحثًا عن مخرج من معاناته والتماسًا لشعور بالذات واعتدادًا بالنفس واستعادة للهوية، وهي معان افتقدها في محيطه الاجتماعي الغربي.

إن فكرة المكافحة ومناهضة العمل الإرهابي تكمن أساسًا في معرفة دقيقة وعلمية بطبيعة العنصر الإرهابي وتكوينه النفسي والفكري والعقدي، فضلًا عن أساليب التنظيمات ومناهجها في اجتذاب العناصر واستقطابها؛ وهو الأمر الذي تنبني عليه معالجة فكرية وعلمية صحيحة لمشكلة التطرف الفكري والإرهاب المسلح على حد سواء. وبكلمات أخرى، فإن الجهود الأمنية، على أهميتها وضرورة إحكامها، لا تفي وحدها بغرض مواجهة خطر الإرهاب والتطرف، بل لابد من وضع المعالجة الفكرية في اعتبار السلطات والأجهزة المختصة في الدول كافة.

 

وحدة رصد اللغة الإسبانية

الموضوع السابق قراءة في مؤشر الإرهاب في القارة الأفريقية خلال الربع الأول من عام 2024م
طباعة
155

RSS