في ظل موجة الإرهاب التي يواجهها العالم كله في هذه الأيام، بات من المهم البحث عن مواجهة شمولية متكاملة على كافة الأصعدة، لا سيما بعدما ثبت لكل من يتابع تلك الظاهرة ويراقب تغلغلها في المجتمعات ووصولها لأنحاء مختلفة من العالم، أن الناحية الأمنية والتعامل العسكري مع هذه الظاهرة ما هو إلا جزء من استراتيجية كبرى ينبغي أن تقدم فيها جهات متعددة أدوارًا مختلفة. ومن بين هذه الجهات التي تتحمل مسئولية كبيرة في مواجهة هذه الظاهرة المقيتة؛ الإعلام.
لقد أدركت التنظيمات الإرهابية، منذ اليوم الأول، الدور الذي يقوم به الإعلام في صناعة الأحداث والظواهر وتشكيل الرأي العام، فكوّنت جبهاتٍ إعلاميّةً تتحدث باسمها، وتبثّ الرعب في قلوب المكافحين لها، وتستقطب المجنّدين إلى صفوفها. واستغلت في سبيل هذا كل الوسائل المختلفة للإعلام: الإعلام التقليدي (المسموع والمرئي والمقروء)، والإعلام الإلكتروني (المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي) وغيرها. وانطلقت من قاعدة مهمة وخطيرة: بث الرعب في القلوب، والظهور وكأنهم نافذون وموجودون في كل مكان، وأن بإمكانهم الوصول إلى أكثر المناطق حساسية في العالم، وإظهار ضعف الحكومات وعجزها عن تأمين رعاياها!
ولنستعد تلك الفترة عندما استولى تنظيم "داعش" على "الموصل" في شهر يونيو 2014، فالتنظيم لم يكتفِ بإحراز التقدّم على الأرض فقط، ولكنه دشّن حملة إعلامية شرسة على مواقع التواصل الاجتماعي، نشر من خلالها الصور التي تنقل وحشية التنظيم في العالم العربي كله؛ لتبثّ الرعب في قلوب أهالي الموصل. ونتيجة لذلك، تفكّكت قوات الجيش العراقي التي كانت تفوق قوات "داعش" بخمسة أضعاف، وسيطر ما لا يزيد عن 2000 مقاتل داعشي على مدينة الموصل التي يُقدّر سكانها بمليون ونصف المليون مواطن.
ومع اتّضاح هذه الصورة ووضوح هذا المنطلَق، إلا أن المعالجة الإعلامية لهذه الظاهرة والتعامل مع هذه الأهداف، التي لم يعد الإرهاب يُضمرها، تحتاج إلى وقفة أمينة ومراجعة صريحة مِن قِبَل الجهات الإعلامية. ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن تلك المعالجة الخاطئة لقضايا وهجمات الإرهاب في الإعلام تساعد الإرهابيين وتُحقّق أهدافهم وتخدمهم من غير أن يقصد الإعلام فعل ذلك. وفي هذا الصدد، نشرت صحيفة "The Independent" البريطانية مقالًا مهمًّا، بتاريخ 22 أبريل، تناولت فيه هذه المسألة وكيف أنّ تعاطي الإعلام مع الحوادث الإرهابية والتسرّع في إلقاء اللائمة على الإسلاميين المتشدّدين يخدم الإرهابيين ويزيدهم قوة ونفوذًا.
وفي البداية، استخدم هذا التقرير المثل القائل "إن الطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الحسنة"، مؤكّدًا على ضرورة توقّف الإعلام عن مساعدة الجماعات الإرهابية من غير قصد في تحقيق مآربهم؛ ومبيّنًا أن مساعدة الجماعات الإرهابية تكون بإضفاء هالة من النفوذ والإجرام عليهم بحيث تزرع حالة من الرعب منهم والخوف من مواجهتهم.
ولعل أقرب مثال إلى ذلك حادثة فريق "دورتموند" الألماني، فبعد أن تسرّع الإعلام في وصف الحادث بأنه إرهابي، كشفت التحقيقات أن منفّذ الهجوم ألماني روسي عمره 28 عامًا، وأنه لم يكن مدفوعًا أو مُلهَمًا مِن قِبَل تنظيم "داعش"، ولكنه كان يراهن على انخفاض سعر أسهم نادي "دورتموند"؛ ممّا دفعه إلى السعي إلى التسبّب في هبوط أسهم النادي حتى يتمكّن من تحقيق ربح؛ فالهدف مالي وليس إرهابيًّا ووراءه الطمع وليس "داعش"!
الجدير بالذكر أن حادث "دورتموند" لم يكن الأول فيما يتعلّق بنسبة إحدى الهجمات –خطأً– إلى الجماعات الجهادية. ففي حادث "كيبك" الإرهابي في يناير وحادث "ملبورن" في نفس الشهر، وُجّهت أصابع الاتّهام إلى المسلمين، على الرغم مِن أن التحقيقات كشفت أن المسئول عن الحادث الأخير رجل يوناني الأصل، وأن دوافع الهجوم تتعلّّق بالمخدرات. ونفس الأمر بالنسبة للحادث البشع الذي نفّذه عمر متين في نادٍ للمِثليّين في "أورلاندو" العام الماضي، وكانت وسائل الإعلام قد ملأت الدنيا ضجيجًا بأن "متين" تربطه صلات وثيقة بـ "داعش"؛ غير أنه بعد ذلك رجّحت وسائل إعلام غربية أن تكون وراء الهجوم الذي نفّذه الأميركي من أصل أفغاني عمر صديق متين على نادٍ للمِثليّين في "أورلاندو" «دوافعُ نفسية مِثليّة»، كما أن المُنفّذ أبدى في مرات سابقة زار فيها النادي «سلوكًا عدوانيًّا ارتبط بإفراطه في شرب الكحول»! حتّى إن وكالة الاستخبارات المركزية قد أكّدت بعد ذلك أن "متين" ليس له أي صلات مباشرة مع "داعش"!
ولكن هذا لا يعني أنه ينبغي علينا تجاهل الإرهاب المُستوحى من "داعش"، أو المُرتكَب بإيعاز منها. إننا بحاجة إلى مكافحة وقتال الخطر والأيديولوجيّة التي تؤكّد عليها. أما أن نلومها على كل شيء فنحن نصنع منها عدوًّا أكثر قوة مما هي عليه بالفعل.
لا يستطيع عاقل أن يُنكر الدور الذي يقوم به الإعلام في أوقات الحروب والأزمات الطاحنة التي تمرّ بها البلاد؛ ففي هذه الأوقات، لابد أن يكون موجّهًا بحذر شديد لخدمة القضية التي يدافِع عنها الوطنُ أو يصبو لتحقيقها. وهذا بالفعل ما قام به الإعلام الأمريكي وقت غزو العراق. واليوم، وللأسف، أصبح الإعلام - من غير قصد - مُتواطئًا؛ فما تلبث أي جريمة كبرى أن تقع في أي دولة، إلّا وتخرج مواقع التواصل الاجتماعي بعد عدة دقائق لتدّعي أن "الإسلاميّين" هم من نفّذوا تلك الجريمة. وعندئذٍ تخرج جهة إرهابية لتَتبنّى الهجوم، لتحتفل بها جميع وسائل الإعلام بعد ذلك، بل وتُظهِر من الأدلة ما يُثبتها من تصريحات وفيديوهات، غافلين عن حقيقة أن التنظيمات الإرهابية لا يهمها سوى «ذيوع الصيت وبث الرعب في القلوب، والإيحاء بأنها نافذة وفاعلة في كل مكان».
أضف إلى ذلك أن تلك المعالجة الخاطئة للحوادث الإرهابية لا تخدم فقط الإرهابيين، ولكن أيضًا اليمينَ المتطرّف والانتهازيين ممّن يقفزون على أي حادث قبل الاستيثاق والتثبّت من الحقائق؛ لاتّهام الإسلام –لا الإرهابيين– بأبشع الجرائم واستغلاله كمنصّة للصعود والهيمنة. ناهيك عن أن الرواية التي يفرضها الإعلام عن الحوادث الإرهابية قد تؤثّر في سير عمليات التحقيق وتقصّي الحقائق التي تقوم بها الجهات الأمنية.
وإذ يحاول مرصد الأزهر الشريف باللغات الأجنبية الوقوفَ على كل الروافد التي تُغذّي الإرهاب والتطرّف، وتساعد في تغلغله في المجتمعات وذيوع صيته في الأوساط العالمية والإقليمية والمحلية؛ فإنه يُهيب بكافة الجهود أن تتضافر، وأن يضطلع كلٌّ بمسئوليته؛ حتّى يستطيع العالَمُ في هذه اللحظة التاريخية الصعبة أن ينجوَ من ويلات الإرهاب. وإذا كانت قُوى الشّرّ قد تحالفت واستجمعت كلَّ قواها في نشر الشّرّ والدمار، فما بال العالم لا يَنتفِض من أجل السلام وتحقيق العدل والحرية والأمان. وماذا عسى أن تُفيد الأموالُ والإثارةُ مَن يَبحثون عنهما، مِن خلال نَشْر أخبارٍ تُغذّي هيمنةَ الإرهابيين ونفوذَهم، وتبثّ الرعب في قلوب الناس؛ إذا تهدّمت أوطانُهم، وبات العالَم كلُّه حُطامًا ورُكامًا!
وحدة رصد اللغة الإنجليزية