جماعة "بوكو حرام" و"حركة الشباب" الصومالية، سلاحان يَفتِكان بأمْن القارّة ويُهدّدان أبناءها ويزيدان من معاناتهم ويعملان على نشْر الفِكر الخبيث بين أوساطهم؛ فيجعلهم أمام اختيارٍ بين أمرين وكلاهما مرٌّ: إمّا الانسياق واعتناق الفكر المتطرّف وما يَستتبع ذلك من بيعٍ للنفس وتعطيلٍ للعقل وخُسرانٍ للدنيا والآخرة، أو البقاء عُرضةً لفقْد السِّلْم والحياة الآمنة، وربما فقْد الحياة بأكملها جَرّاء عمليات هذه الجماعات الإرهابية، وعلى الرغم من خطورة الموقف يَطرقُ الأملُ أبواب إفريقيا مُعلنًا أن التخلّص من الإرهاب ليس مستحيلًا – وإن كان يتطلّب جهودًا مُضنيةً – على الصعيدين الميداني والفِكري.
صورةٌ أرشيفيّةٌ لمجموعةٍ من مقاتلي "حركة الشباب" الصومالية
واستمرارًا لجهوده في متابعة الجماعات المتطرّفة، يواصل "مرصد الأزهر لمكافحة التطرّف" عملَه على سَبْر أغوار تلك الجماعات وكَشْف حقيقتها وفَضْح مَكْرها؛ حمايةً للبلاد والعباد من مخالب هذه التنظيمات وأنيابها، ومما لا يخفى أن معاناة القارة السمراء لم تَعُدْ تقتصر على الفقر والمجاعات والأمراض والأوبئة، بل إنّ هناك وباءً أشدّ خطرًا، وكارثةً أشدّ فَتْكًا؛ إنه الإرهاب الذي استشرى في بعض دول القارة الإفريقية مُهدّدًا أمْنَها، وأضحى يُشَكِّل خطرًا داهمًا يَنخَرُ الجسدُ الإفريقيُّ بسببه؛ ممّا يتطلّب إجراءَ تَدَخُّلٍ جراحيٍّ دقيقٍ وسريع من أجل استئصال هذا المرض الخبيث، إلا أن اتساع رقعة انتشاره جعلت عملية استئصاله من الصعوبة بمكان؛ فما أن تكاد القارة الإفريقية تتخلص من جماعة "بوكو حرام" التي تسببت في سفْك دماء الآلاف من الأبرياء وإصابة مئات الآلاف فضلًا عن تشريد الملايين، مما جعلها تتصدر قائمة الجماعات الإرهابية الأكثر دمويّةً في العالم لعام 2014 ثم تراجعها قليلًا في عام 2015 لتُصبحَ في المرتبة الثانية بعد "تنظيم داعش"، فإذا بـ "حركة الشباب الصومالية" تتصدر واجهة الأحداث بإرهابٍ ألهب منطقة شرق إفريقيا وأثار الرعب والهلع في نفوس الأفارقة، فبعد فترةٍ من التراجُع بسبب الانقسامات التي ضربت صفوف الحركة بالإضافة لجهود العمليات العسكرية التي تنفّذها القوات الصومالية المدعومة بقوات الاتحاد الإفريقي "الأميصوم" والتي أسهمت في إقصاء الحركة قليلًا عن المشهد، عاودت الحركة نشاطها الدموي وبشراسة كبيرة خلال عام 2016 مما جعلها تتصدّر المشهد في إفريقيا على صعيد الجماعات الإرهابية الأكثر دمويّةً في إفريقيا، وربما في العالم لاسيما في ظل تراجُع تنظيم "داعش" وانحسار "بوكو حرام"، الأمر الذي يؤكّده بيانٌ صادر عن مشروع "مواقع الصراعات والأحداث المسلحة"، وراجعه "المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية"، التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، جاء فيه؛ أن "حركة الشباب" تفوّقت في عام 2016 على نظيراتها في القارة السمراء، وتسببت في مقتل 4281 شخصًا بنسبةٍ فاقت ضحايا هجمات "بوكو حرام" و"داعش" في العام نفسه، إذ تسببت "بوكو حرام" في مقتل 3499 شخصًا، وتنظيم "داعش" الذي قتل 2350 شخصًا في إفريقيا خلال عام 2016 ذاته، وتُعدّ هذه هي المرة الأولى التي تتفوق فيها "حركة الشباب" على "بوكو حرام" من حيث عدد الضحايا.
صورةٌ لمجموعةٍ من مُسَلّحي "حركة الشباب" صورةٌ للرئيس الصومالي "محمد فارماجو"
ومن الممكن أن نوجز أسباب تَصَدُّر "حركة الشباب" الجماعاتِ الأكثر فتكًا في إفريقيا فيما يلي:
هناك العديد من الأسباب التي جعلت من القارة السمراء بصفة عامة أرضًا خصبة للأيدلوجية المتطرفة؛ على رأسها الطبيعة الجغرافية للبلاد، وكذلك ضعف الإمكانات المتاحة لدى المؤسسات الأمنية ووسائل القضاء على الإرهاب ومعاقله، بالإضافة إلى الفقر المدقع الذي يضرب القارة، إضافةً إلى بعض المشكلات التي تعاني منها أغلب المجتمعات الإفريقية؛ كالبطالة المنتشرة بين الشباب والتي استغلتها الجماعات المتطرفة بتقديم إغراءاتٍ كثيرة، ناهيك عن الجهل المستشري في كثير من بلدان القارة.
كما أن "حركة الشباب" عملت على تطوير نفسها، وتعمل على اختيار الوقت المناسب لتنفيذ هجماتها، مما يجعل القوات الصومالية وقوات الاتحاد الإفريقي في موقف المُدافع دائمًا، فضلًا عن انتهاج الحركة أسلوبَ حرب العصابات، وانتشار عناصرها في العديد من المناطق والمدن الصومالية، إضافةً إلى محاولات الحركة المستميتة من أجل إثبات الذات وفرْض السيطرة على الأرض، وخاصّةً مع ظهور "تنظيم داعش" في الصومال، ومحاولات التنظيم المستمرة لسحْب البِساط من تحت أقدام الحركة. كما أن من عوامل تنامي خطر "حركة الشباب" وتعاظُم قوّتها خلال العامين الأخيرين، اعتماد الحركة على سلاح الإعلام في سبيل ممارسة تضليل عقول الشباب وإغوائهم بموعوداتٍ زائفة واستمالة قلوبهم باللعب على وتر العاطفة الدينية بهدف استقطابهم للانضمام للحركة تحت زعْم أنها حركةٌ تحارب الكفار، وتَسعى لنُصْرة المسلمين، والمستضعفين، ورفْع راية الإسلام؛ مما جعل كثيرًا من الشباب قليلي الوعي، ضعيفي الحُجّة، يتهافتون عليها كتَهافُت الجراد على النار، ظنًّا منهم أنهم بذلك يناصرون الدين، وما ذلك إلا وبالٌ عليهم وعلى أوطانهم وإساءة للدين وتشويه لصورته السمحة. كما يضاف لعوامل ارتفاع أسهم حركة الشباب واشتداد شوكتها انخفاض الروح القتالية لقوات الاتحاد الإفريقي بسبب الوضع المادي لجنودها، والذي تسبب في انسحاب أهمِّ قوّةٍ عسكريّةٍ مُشارِكةٍ في التحالف، ألَا وهي القوات الإثيوبية، التي تشارك بأكبر عدد من الجنود، وما تعانيه البَعْثة المُكلّفة بحفظ السلام في الصومال وملاحقة عناصر "حركة الشباب" والقضاء على إرهابها من مشكلاتٍ مادية ولوجيستية وغيرها، ممّا يُؤثّر سلبًا على تنفيذ مهامّ هذه البَعْثة.
و"مرصد الأزهر" إذ يُقدِّم هذه الحقائقَ ويَضعُها بين أيدي متابعيه وقرائه، فإنه لَيَعتصرُ ألمًا لِما حاق بالقارّة الغنية بأبنائها وثرواتها وإن كانت فقيرة في إمكاناتها، من إرهابٍ يقضي على الأخضر واليابس، إرهابٍ لا يَرعى في مسلمٍ ولا غيرِه إلًّا ولا ذِمَّةً، فالكلُّ مُستهدَفٌ، والجميعُ في نظر أولئك المجرمين كفّارٌ يجب قتالهم، ويُهيب "المرصد" بكافة المؤسسات العالمية والإقليمية والمحلية، التي تهتم بقضية الإرهاب وتقوم على مكافحته والحدّ من انتشاره بالمواجهة عسكريًّا أو إعلاميًّا أو فكريًّا، أن تقف من دول القارة التي ابتُليت بهذا الداء العُضال موقفَ الداعم المساند الذي لا يألوا جهدًا في مكافحة هذا الإرهاب والحدّ من هذا التطرّف، والوقوف صفًّا واحدًا ضد أكبر خطرٍ يُهدّد البشرية جميعًا، لا الدول المتضررة من الإرهاب فحسب، وها هو الأزهر الشريف كعادته دائمًا يُعلن دعمه الكامل لأي جهدٍ من شأنه إنقاذُ أبرياءَ، وتأمينُ خائفين، وتصحيحُ فكرٍ، وتقويمُ فهمٍ، وتعديلُ سلوكِ مَن يحمل بيده سلاحًا يقتل به أبرياءَ، ويصيب به مسالمين، وقد يحمل بيده ذاتِها الخيرَ لنفسه ووطنه والعالَم أجمع، ويُصبحُ عنصرًا فاعلًا في تَقَدُّم البشرية وازدهار الأوطان.
وحدة رصد اللغات الإفريقية
يونيو 2017م