دأب تنظيم داعش المتطرف على إشاعة الرعب في نفوس الأبرياء من خلال تبني سياسة التهديدات، والتي استطاع تنفيذ بعضها لكنه حتى الآن لم ينفذ الكثير منها، لكن ربما تكون قيد التنفيذ، أو ربما تأتي الكثير من هذه التهديدات ضمن الحرب النفسية للتنظيم لتسهم في رسم الصورة التي يسعى من خلالها إظهار قدرته على الوصول لجميع أنحاء العالم واكتساب صوت عالمي.
تهديدات داعش لإسبانيا
كان من أبرز التهديدات التي بثها تنظيم داعش لدول العالم الفيديو الذي بثه التنظيم عقب هجمات باريس يهدد من خلاله ستين دولة من المنضمين للتحالف الدولي ضد داعش، من بينها إسبانيا. ولقد تحولت تهديدات التنظيم الإرهابي من مجرد عبارات رنانة غير قابلة للتصديق، من نحو "لن تهنأ أمريكا"، و"سنفتح أوروبا" إلى حقيقة من خلال تنفيذ عمليات فردية يقوم بها أفراد يعيشون في نفس الدولة التي استهدفتها التهديدات التهديد، وهي ظاهرة جديدة أطلق عليها اسم "الذئاب المنفردة"، حيث دأبت الجماعة على دعوة أتباعها الموجودين بهذه الدول إلى قتل من استطاعوا من المواطنين أيا كان جنسهم أو لونهم أو حتى دينهم، وذلك بما توفر لديهم من الأسلحة حتى وإن كانت "سكين مطبخ".
ويستخدم داعش في تهديداته لغة الدولة التي يستهدفها غالباً، مستغلاً وجود أتباع له من 86 دولة حول العالم، وذلك يعكس رغبته في التأثير على الشباب في تلك الدول، إضافة إلى بث الرعب في نفوس الشعوب من خلال التأكيد على الرسائل التي يبثها والتي يريد بها أن يشير إلى أن لديه مناصرين من مختلف دول العالم.
وقد أكد مرصد الأزهر في تقارير سابقة أنه لا يمكن أن نجد لفكر داعش المنحرف الذي يتفنن في صناعة الرعب مثيلاً في تاريخ البشرية كلها سوى في رسائل التتار، فرسائل داعش ليست سوى استنساخ لرسالة زعيم التتار "هولاكو" لمظفر الدين قطز، والتي جاء فيها: إنا نحن جند الله في أرضه .... فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكر، وقد سمعتم أن ... قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.
ولا شك أن استعادة عصر الخلافة وتطبيق الشريعة ونصرة المستضعفين، شعارات يكسو بها تنظيم داعش وعوده وتهديداته ليكسب التعاطف ويضفي على مشروعه الإرهابي صبغة الجهاد، فيُرهب الشعوب تمهيداً لأن تُهرع إلى حكوماتها مطالبة بالتوقف عن محاربته. وبعد هجمات باريس وأحداث كاليفورنيا وهجمات تركيا وإندونسيا يعود التنظيم لتوجيه تهديداته لدول مختلفة حول العالم. إلا إنه لا ينفذ منها إلا قليلاً، بينما تظل غالبية هذه التهديدات مجرد جزء من حرب نفسية لا تتحقق على أرض الواقع، وكانت إسبانيا من الدول التي ركز عليها التنظيم في تهديداته في الفترة الأخيرة.
لماذا إسبانيا؟
تكررت تهديدات التنظيم للعديد من الدول الأوروبية، إلا إن لإسبانيا أسباباً خاصة تجعلها محط أنظار التنظيم الإرهابي أهمها استرداد الأندلس تحت سلطة دولته المزعومة؛ وكذلك بسبب ما تقوم به السلطات الإسبانية من حملات أمنية متواصلة وتفكيك مستمر لخلايا التنظيمات الإرهابية، فضلاً عن مشاركتها في التحالف الدولي ضد الإرهاب. كذلك ترى الجهات الاستخباراتية الإسبانية أن داعش بدأ يستهدف إسبانيا أيضاً بسبب مناورات حلف الناتو العسكرية بها والأنباء التي تتوارد عن القواعد العسكرية للحلف التي تقيمها على أرضه. ومن الملاحظ كذلك أن التنظيم أصبح يكرر نشر الأخبار الخاصة بعمليات الاعتقال التي تنفذها القوات الشرطية والأمنية بإسبانيا، لا سيّما ما يتعلق منها بالنساء مع التعليق على هذه الأخبار بأنه "يجب فعل شيء ما حيال ذلك ولا يجب التخلي عن أنصار ومؤيدي التنظيم".
ومع حلول عام 2016 وفي ظل سياسة التهديدات الذي تنتهجها التنظيمات الإرهابية في الآونة الأخيرة ضد البلدان الأوروبية لنشر الذعر بين أفراد المجتمع، بثّ تنظيم داعش مجموعة من التهديدات عبر مقاطع فيديو عالية الجودة ضد إسبانيا على وجه الخصوص، وصلت إلى 6 مرات منذ أحداث باريس، جاءت أربعة تهديدات منها في مدة لا تزيد عن شهر منذ وقوع تلك الهجمات، بينما كان التهديدان الأخيران خلال شهر يناير 2016.
وقد قام تنظيم داعش آنذاك ببث فيديو لإعدام خمسة أشخاص متهَمين بالتجسس ثم وجه اتهامات باللغة الفرنسية (للكفار) في إسبانيا وفرنسا والبرتغال. وقد أكد المتحدث في الفيديو أن التنظيم يحاول استعادة الأندلس ذاكراً بالتحديد مدينتي قرطبة وطليطلة، وأن الهجمات التالية ستجعل أوروبا تنسى ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر وأحداث باريس.
وفي فيديو آخر بثّه المركز الإعلامي لولاية دمشق التابع لتنظيم داعش يهدد فيه إسبانيا وبعض الدول الأوروبية والإسلامية، عرض خلاله خريطة لشبه الجزيرة الأيبيرية أكثر من مرة خلال عرضه للفيديو، حيث ظهرت إسبانيا على خريطة أوروبا ليتم التركيز بعدها على خريطة إسبانيا، وبعدها أظهر صورة لشبه الجزيرة الأيبيرية مظللة باللون الأحمر، حيث توعد فيه بصبغ إسبانيا بالدماء. وقد شمل التهديد المغرب وإيطاليا وفرنسا باعتبارهم دولاً استعمارية، ولكن تركيزه كان على استعادة بلاد الأندلس، واختتم الفيديو بصور لأعلام 60 دولة من بينهم إسبانيا.
ذكرنا أن تنظيم داعش كان قد وجّه أربعة تهديدات لإسبانيا في أقل من شهر بعد هجمات باريس الأخيرة ، كان أولها في 16 من نوفمبر 2015، أي بعد ثلاثة أيام فقط من أحداث باريس مهدداً بأنه سوف يفتح فرنسا بعد روما والأندلس. أما المرة الثانية فكانت في الحادي والعشرين من نوفمبر، والذي قال فيه متحدث من داعش إن الشعوب الأوروبية يجب أن تضغط على حكوماتها من أجل إيقاف الحرب على داعش في العراق. وكانت المرة الثالثة بعد ذلك بأيام قليلة، في الرابع والعشرين من نوفمبر، عندما ظهر علم إسبانيا في الفيديو الذي أصدره داعش وبه 60 علما لدول مختلفة وضعتها تحت عنوان "التحالف العالمي ضد الدولة الإسلامية"، ولم يَنتظر كثيراً حتى بثّ التهديد الرابع في السادس من ديسمبر حيث ظهر علم إسبانيا من جديد في خلفية فيديو إعدام "الجاسوسين" الذي قامت به داعش.
وقد سلّطت الصحف البريطانية الضوء بقوة على تهديدات إسبانيا الأخيرة وتوعد داعش المتكرر باستعادة بلاد الأندلس، باعتبار إسبانيا هي الوجهة السياحية الأولي للإنجليز حيث يزور إسبانيا كل عام 12 مليون سائح إنجليزي. كما صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية البريطاني أن السلطات الإسبانية تتخذ التدابير الأمنية اللازمة لحماية زائريها ولكن الخطر الآن بات بنسبة أعلى، وفي ذلك دلالة لمدى تأثير فيديو داعش الذي هدد فيه إسبانيا ضمن دول أخرى.
استطاع داعش داعش استغلال حلم الأندلس لدى الشباب لاستقطابهم من أجل الوصول إلى أهدافه الخبيثة، وأخذ يردد في وسائل إعلامه أنه يريد استرداد الأندلس تحت "حكمه الإسلامي".
وفي سبتمبر 2016 نشر تنظيم داعش تسجيلاً مصورًا ظهر فيه قصر الحمراء مرةً أخرى، ويختلف هذا الفيديو عما سبقه في أنه لم يحوِ تهديدًا مباشرًا أو واضحًا لإسبانيا التي اعتاد داعش على بث رسائل التهديد لها بين الفينة والأخرى، كما عَكس الفيديو تهديد التنظيم للعراق وإيطاليا مُحددًا إياهما كأهداف تالية. وفي ديسمبر من العام نفسه قامت المحكمة الشمالية الإسبانية بمعاقبة خلية جهادية مختصة بالدعاية والتجنيد مكونة من ست عناصر بالحبس مدة تتراوح ما بين ثلاث وست سنوات وذلك بعد تهديدهم لملك إسبانيا وبناته عبر الانترنت؛ حيث قاموا بوضع صورة لعلم تنظيم داعش على الحدود بين سيجوبيا ومدريد. كانت النيابة قد طالبت في مرافعاتها بالسجن لمدة تتراوح ما بين عشر واثني عشر عاماً للمتهمين، وكان من بين الاتهامات التي وجهت لهذه الخلية هي القيام بالدعاية لتنظيم داعش واختيار شباب قابلين للتجنيد للقيام بدور الذئاب المنفردة أو السفر إلى سوريا بدافع الجهاد.
وفي يونيه 2017 عاود تنظيم داعش الإرهابي بثّ تهديداته، معلناً عن أسماء البلدان المستهدفة لتأتي إسبانيا ضمن هذه القائمة، حيث نشر صورة بها سلاح يمسكه أحد جنود داعش وأدناه جملة مضمونها أن جندي داعش متواجد هنا، مع صور لأعلام الدول التي تستهدفها داعش. الجدير بالذكر أن تنظيم داعش قد ضاعف من تهديداته هذا العام مقارنةً بما كانت عليه خلال عام 2015، كذلك حدث تغيير آخر وهو أن تنظيم داعش بدأ يستخدم اللغة الإسبانية في وسائل الاتصال الخاصة به وفي حملاته الدعائية.
وفي نفس اليوم الذي نفذت فيه اعتداءات برشلونة منذ أيام، بثّ التنظيم بياناً تهديدياً قال إن الرسالة الورادة فيه موقعة بدماء الأبرياء، جزاء لما تقترفه الحكومة والقوات العسكرية من مجازر ضد المسلمين في العراق والشام وليبيا.
وبتاريخ الأربعاء 23 أغسطس 2017، بثّ تنظيم داعش ولأول مرة مقطع فيديو باللغة الإسبانية مدته حوالي دقيقة ونصف على مواقع التواصل الاجتماعي الخاص به بعنوان "أول الغيث، غزوة برشلونة" يشيد فيه بدور الإرهابيين - خاصة يونس أبو يعقوب- الذين نفّذوا هجوم برشلونة والذي أسفر عن 14 قتيلاً ومئات الجرحى. وقد تحدث في الفيديو اثنان من الجهاديين باللغة الإسبانية أحدهما يدعى "أبو الليث القرطبي" والثاني "أبو سلمان الأندلسي" ، حيث دعا الأول قائلا: "بإذن الله ستعود الأندلس كما كانت أرضاً للخلافة".
وفي هذا الفيديو تم توجيه رسالة إلى المسلمين والمناصرين للتنظيم في إسبانيا قائلاً: "إذا لم تتمكن من الهجرة إلى أرض التنظيم بسوريا والعراق فإن الجهاد لا حدود له فقم بالجهاد أينما كنت وحيثما أقمت"، ثم وجه رسالته إلى المسيحيين الإسبان قائلا: "لا تنسوا دماء المسلمين التي أهدرتها محاكم التفتيش. سننتقم من مجازركم التي ترتكبونها الآن ضد تنظيم الدولة"، قاصدا بذلك مشاركة إسبانيا في قوى التحالف الدولي والذي ألحق العديد من الخسائر المادية والمعنوية للتنظيم مؤخراً، التي كان آخرها سقوط مدينة الموصل العراقية من قبضته.
ووفقا لمعلومات أمنية فإن أبو الليث القرطبي هو "محمد ياسين أهرم بيريث"، يبلغ من العمر 22 عاماً وُلد في قرطبة لأم إسبانية وأب مغربي له نشاط متطرف وتعود أصول عائلته إلى المسيحية، وقد سافر والده برفقة عائلته إلى مناطق النزاع في سوريا عام 2014 للانضمام إلى صفوف تنظيم داعش.
كما ظهر في الفيديو الجهادي الثاني المدعو "أبو سلمان الأندلسي"، ملثماً حاملاً بندقية على كتفه يقول: "نسأل الله أن يتقبل إخواننا منفذي عمليات برشلونة شهداء" وأضاف: "إن حربنا معكم ستستمر حتى نهاية العالم". وتوعد إسبانيا بتنفيذ المزيد من الهجمات حال استمرارها مشاركة قوى التحالف الدولي في تنفيذ هجماته ضد بؤر التنظيم المختلفة.
يتضح من خلال هذا التقرير أن التنظيم الإرهابي كان جاداً في تنفيذ تهديداته، وقد بدأ ذلك بالفعل، لكنه كان يتحين الفرصة لذلك. وقد دأب مرصد الأزهر على التحذير من وقوع هذه التهديدات كان آخرها قبل وقوع حادث برشلونة بأقل من 24 ساعة، نظراً لما عليه هذا التنظيم من الإجرام والوحشية، حيث لا تأخذه بالأبرياء شفقة ولا رحمة، بل يتفنن في الفتك بهم بأبشع الطرق. ويحذر مرصد الأزهر من جديد من مثل هذه التهديدات ويؤكد أن التهديد لم يتوقف بعد ولا تزال احتمالات وقوع المزيد من الهجمات قائمة، وأن برشلونة ربما تكون بداية لسلسلة من الهجمات ضد إسبانيا، فهل ستنجح إسبانيا في الصمود مرة أخرى لفترة طويلة وأن تجنب أراضيها وشعبها معركة لا تحمد عواقبها! هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
وفي النهاية يؤكد مرصد الأزهر على أن أية أعمال من شأنها تخويف الآمنين وقتل الأبرياء العُزل، مهما كان منفذها تلك الأعمال وأيا كان الضحايا، هي أعمال منافية لتعاليم الدين الإسلامي بل وتعاليم كل الأديان السماوية، وتخالف كذلك الفطرة الإنسانية التي تجنح للسلم وتنبذ العنف وكافة أشكال التطرف.
وحدة الرصد باللغة الإسبانية