يأتي هذا التقرير استمرارًا للملف الذي فتحه مرصد الأزهر حول الاستقطاب في السجون الإسبانية ونشره خلال مايو الماضي، وفي هذا التقرير ـــ والذي نعدُّه الجزء الثاني للتقرير الأول ـــ تواصل وحدة الرصد باللغة الإسبانية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف البحث عن الأسباب الحقيقية التي تسهل على التنظيمات الإرهابية استقطاب عناصر جديدة تعمل لصالحها وتقوم بنتفيذ هجماتها الإرهابية، يأتي ذلك محاولة من المرصد لتسليط الضوء على هذه الآليات تحديدًا، والتحذير منها، والوقوف على الوسائل التي يمكن من خلالها تجنب هذه المخاطر. ومن جديد، يحذر مرصد الأزهر من مخاطر استقطاب "ذئاب منفردة" من داخل السجون.
والتجنيد في السجون، يعد إحدى إستراتيجيات تنظيم داعش الرئيسية في استقطاب عناصر جديدة، لا سيَّما في البلدان الأوروبية، والتي يسعى التنظيم وبقوة أن يصبح له بها قاعدة عريضة من أنصاره؛ لتنفيذ مخططاته الإجرامية بهدف إبراز قوته، وأنه لا يزال موجودًا على الساحة. وبعد سقوط التنظيم في العديد من معاقله مؤخرًا، اتجه التنظيم إلى بث رسائل تحفيزية لأنصاره في مختلف دول العالم خاصة الدول الأوروبية؛ لتنفيذ هجمات بغية إثارة القلق والفزع في أوساط المدنيين، أي أنه اتجه إلى الاعتماد بشكل شبه كلي على الذئاب المنفردة.
وباعتبار التجنيد في السجون أحد آليات التنظيم في الاستقطاب، فإنه يسعى في تنشيط هذه الآلية من خلال السجناء المدانين في قضايا تتعلق بالجهادية من خلال الاعتماد عليهم في تلقين أصحاب الجرائم العامة، مثل جرائم المخدرات والسرقة، ويكون الدخول إلى عقول هؤلاء من باب التكفير عن جرائمهم، ثم يكون التوجيه بتنفيذ هجمات إرهابية تظهر ولاءهم له.
وفيما يخص عملية الاستقطاب في السجون الإسبانية نجد أن هذه السجون تضم حوالي 7 آلاف سجين مسلم من مرتكبي مختلف الجرائم بينهم حوالي 250 من المتورطين في جرائم تتعلق بالتطرف حتى مطلع عام 2017، ومنهم كذلك 226 سجينًا على الأقل لهم علاقة بالجماعات الإرهابية، علاوة على حوالي 80 آخرين وُضعوا تحت المراقبة خشية انضمامهم لهذه الجماعات. ويشير مرصد الأزهر أنه قد لوحظ أن الكثيرين ممن يُعَاقبون بالسجن في قضايا عامة كمخالفات أو سرقة أو مخدرات يخرجون من السجن مؤهلين للقيام بهجمات إرهابية أو مُجنِدين جدد لصالح التنظيمات الإرهابية، ويرجع ذلك بالطبع إلى أنهم خلال فترة السجن يقعون تحت تأثير قادة متطرفين يعملون على تجنيدهم وإقناعهم بهذه الأفكار المتطرفة.
وقد كان لهذه الآلية بوادر خطيرة اتضحت في واقعة بأحد السجون في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث عثرت الداخلية الإسبانية على رسم لشعار داعش على أحد جدران السجون بمدريد، تحديدًا في الفناء العام المتاح لجميع السجناء، وهو ما يعتبر تحذيرًا خطيرًا لوزارة الداخلية الإسبانية، وقد فتحت هيئة السجون تحقيقًا في هذه الواقعة غير أنها لم تتمكن من التعرف على هوية الفاعل.
وقد حذر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف عدة مرات قبل ذلك من الاستقطاب في السجون، كان آخرها في تقرير مفصل تحدث عن التخوف من تحول هذه الآلية إلى ظاهرة تروع الآمنين في الداخل والخارج الإسباني، حيث إن هؤلاء "المجندين" جاهزون لتنفيذ أي عمل إرهابي.
ولكن هل توقف الأمر عند هذه الواقعة؟ وهل اتخذت السلطات الإسبانية المسئولة عن السجون التدابير اللازمة للحدِّ من هذه الظاهرة لتجنب مخاطرها الكارثية؟
إن ما أوردته لنا الأخبار مؤخرًا يبين عكس ذلك، بل يؤكد أن هذه الظاهرة آخذة في التمدد ليس لصالح داعش فقط بل وتنظيم القاعدة كذلك. لقد استنكر عدد من العاملين في السجون الإسبانية احتفاظ مئات السجناء بصور لأعلام تنظيم داعش وكذلك لزعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن" في إشارة إلى إمكانية انتشار التطرف الجهادي بصورة كبيرة في السجون الإسبانية.
وربما يعتقد الكثيرون أن مشكلة المتطرفين تقف عند حدِّ القبض عليهم، ولكن المشكلة تسير لأبعد من ذلك، فالسجناء "المتطرفون" يعملون على نقل عدوى التطرف إلى السجناء الآخرين من أبناء الدين الواحد داخل السجون.
وفي هذا الصدد، أوضح المتحدث باسم العاملين في قطاع السجون "خوان لويس اسكوديرو"، ضرروة التنبه لخطر انتشار الفكر المتطرف بين السجناء، وأن هذه العملية تستوجب قدرًا عاليًا من اليقظة، ومزيدًا من الإجراءات للحدِّ من هذه الظاهرة منذ اللحظات الأولى. وهناك تحذيرات يجب أن نضعها في عين الاعتبار، من أهمها أن الشباب هم أخطر فئة مستهدفة في عملية الاستقطاب سواء داخل السجون أو خارجها ممن يعانون من الفقر والتهميش المجتعمي، الأمر الآخر هو أن نسبة كبيرة من السجناء محبوسين على ذمة جرائم عامة مثل المخدرات والسرقة، ولكنهم مع مرور الوقت قد يتحولون إلى هدف سائغ للسجناء المتطرفين ليجندوهم بصورة أسهل لصالح الجماعات الإرهابية كـ داعش.
وقد أوضح بعض العاملين بقطاع السجون أنه كان مألوفًا لهم قبل ذلك رؤية صور للاعبين ومشاهير في محبس السجناء المعتقلين في جرائم عامة، ولكن الخطير الآن أن هذه الصور قد استُبدلت بأخرى لأعلام تنظيم داعش ولرموز التطرف.
ومرصد الأزهر إذ يؤكد على خطورة هذا الأمر، فإنه يدق ناقوس الخطر في هذا الملف، وينادي بضرورة اتخاذ كافة الإجراءت والوسائل اللازمة لإعادة تأهيل المتطرفين.
يؤكد ذلك ما أشار إليه "لويس إسكوديرو" في تحذيره من إمكانية تحول السجون إلى أماكن ــ أو بالأحرى مدارس ـــ يخرج منها متطرفون جُدد، وذلك في حالة التقاعس والتواني عن اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لتجنب هذه الكارثة. وعن المعوقات، أشار أنها تعود إلى قلة العاملين بالسجون من المختصين بمراقبة السجناء للحدِّ من هذه الظاهرة بواقع موظف أمن أو اثنين لمراقبة حوالي مائة سجين، كذلك قلة الموارد البشرية والمادية، وصعوبة التقصي ومتابعة السجناء بشكل مستمر.
هذا ويحذر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف من جديد من تفشي هذه الظاهرة في السجون، رغم اتخاذ السلطات الإسبانية عدة تدابير لوقف انتشار الاستقطاب للجماعات المتطرفة بوجه عام وفي السجون بوجه خاص، إلا إنها غير كافية حتى الآن.
هذا ويوصي مرصد الأزهر بضرورة عمل برامج تأهيلية مكثفة للمتطرفين على يد متخصصين وأئمة معتدلين لمراجعتهم فكريًا للعودة عن المسارات المنحرفة، وكذلك عزلهم عن سجناء الجرائم العامة خلال قضاء فترة عقوبتهم؛ منعًا لانتشار هذا الفكر المتطرف والذي دائمًا ما تكون عواقبه وخيمة.
وحدة الرصد باللغة الإسبانية