الجماعات المتطرفة

 

11 أكتوبر, 2017

"داعش" يؤكد مسئوليته عن هجوم لاس فيجاس من خلال إصدار  مرئي جديد

بين الحين والآخر يحاول تنظيم داعش توجيه الأنظار إليه؛ ليؤكد لوسائل الإعلام العالمية على وجوده  من خلال عمليات إرهابية ربما تكون حقيقية أو وهمية؛ ففي بعض الأحيان يَنسُب التنظيم لنفسه بعض الهجمات التي لم يقم بها هو أو أحد عأعضائأعضائه، وقد أصدر المرصد عدة تقارير تشير إلى أن التنظيم قد يستمر إعلاميًّا رغم تلاشيه في الحقيقة.

وفي هذا الصدد؛ قام تنظيم داعش الإرهابي بتبنّي حادثة ضرب لاس فيغاس الأمريكية، التي قام فيها رجل أمريكي أبيض يدعى ستيفين بادوك ويبلغ من العمر 64 سنة باستهداف حفلٍ موسيقي يحضره حوالي 22000 شخص، فأوقع 58 قتيلًا وأصاب أكثر من 500 آخرين، ولتأكيد التنظيم على أنه هو المسئول عن الهجوم؛ نشَر مقطعَ فيديو قصير على بعض قنواته الإعلامية تحت عنوان: "غزوة لاس فيجاس"، يستغرق هذا الفيديو (2:49 دقيقة)، ويبدأ بتسجيلٍ صوتي يقرأ فيه شخصٌ كلمةً شهيرة "لخليفتهم المزعوم"؛ يتوعد فيها أمريكا ويسميها بـ  "حامية الصليب"، ويهددها بأن حرب الوكالة التي تشنها في الشام لن تغنيَ عنها شيئًا، وأنها ستكون في المواجهة المباشرة، ومما جاء فيها: "وأخيرًا هذه رسالةٌ نوجهها لأمريكا، فلتعلمي يا حامية الصليب أن حرب الوكالة لن تغنيَ عنك في الشام كما أنها لم تُغنِ عنكِ في العراق، و عمّا قريبٍ ستكونين في المواجهة المباشرة مرغمة بإذن الله، و إن أبناء الإسلام قد وطّنوا أنفسهم لهذا اليوم".

ثم يدعو جنود الخلافة وأنصارها في أوربا وأمريكا إلى "فتح باب الجهاد" بعدما أغلقت الدول الغربية في وجوههم "باب الهجرة"، وأن أصغرَ عملٍ يقومون به في "عُقْر دارهم" انتقامًا لما يحدث لإخوانهم المسلمين أفضلُ من أيِّ عملٍ يقومون به خارج تلك البلاد. ثم بعد ذلك يعرض المقطع بعضَ مشاهد الفوضى والهلع التي تَعَرَّض لها حاضرو الحفل لحظة إطلاق النار وتنفيذ العملية مع الخلفية الموسيقية.

 وأفاد الفيديو أن عدد الضحايا 600 ما بين قتيل وجريح. وأن القادم أدهى وأمَرّ! وتظهر الترجمة الإنجليزية مصاحبة لصوت المتحدث على الشاشة.

 

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هل قام داعش بهذه العملية الإرهابية بالفعل؟ وهل استطاع داعش تجنيد  ستيفين بادوك؟

لقد أعلنت "الدولة" مسئوليتها عن حادث إطلاق النار الذي وقع في لاس فيغاس، ووصفت في بيانها الرجل المُسلَّح الذي نفّذ الحادث ويدعى "ستيفين بادوك" بأنه "جندي من جنود الخلافة"، وأنه "تَحَوَّل إلى الإسلام منذ عدة شهور".

 وعلى الرغم من هذا البيان وتَبَنّي داعش الهجومَ الإرهابي؛ فإن هذا لا يعني أن التنظيم هو مَن نفّذ الهجوم، فالشرطة الأمريكية لم تُصدِر إلى الآنَ أيَّ معلوماتٍ إضافية حول "بادوك" ودوافعه، وليس هناك دليلٌ واضحٌ على صلة "بادوك" بـ "داعش"، كما أن مكتب التحقيقات الفيدرالية نفى وجودَ أيِّ صلةٍ للحادث بالإرهاب.

وفي سياق تحليل شخصية ستيفين بادوك، فإن هناك شُكوكًا مبدئية حول تبعيته لداعش، لما يتردد من أنه كان مقامرًا وأنه لم يكن معروفًا بالتطرف عند أسرته وأقاربه، بل زعم أخوه أنه لم يكن رجلًا متعطِّشًا لحمل البنادق على الإطلاق، ولم تكن له أيُّ انتماءاتٍ دينية أو سياسية، ولم يكن يعاني من مرض عقلي، وأنه لم يكن له أي خلفية عسكرية على الإطلاق. وعلى مستوى أسرته وجيرانه، فقد ذكر أخوه أن أسرته صُدمت من هذه الأخبار، وأنه لم يكن لديه أي فكرة عن الموضوع. وذكَر أخوه أن والدهما كان سارقَ بنوكٍ في مرحلةٍ ما من حياته، وأنه كان على قائمة المطلوبين لمكتب التحقيقات الفيدرالية، ولكنه توفي قبل بضع سنوات. بل إن جارًا له قديمًا في فلوريدا ذكر أن "بادوك" كان رجلًا ودودًا، وأنه كان مُقامِرًا مُحترِفًا.

ومما يدفع أيضًا إلى الاعتقاد بأن "بادوك" لم يكن على صلة بالتنظيم؛ أنه أقدم بعد فعلته على الانتحار، حيث تختلف تلك النهاية عن نهاية الغالبية العظمى من منفذي هجمات داعش ممن يطلبون "الشهادة" في عمليات التفجير أو على يد قوات الأمن، الأمر الذي يثير شكوكًا حول تبعية "بادوك" لداعش. ويؤكد بعض الخبراء أن داعش ربما أصدر هذا البيان بدافع شَنِّ حربٍ نفسية ضد أمريكا لا أكثر.

ويثير المقطع الأخير الذي تمّ بَثُّه مؤخرًا عدة قضايا؛ منها: أن ذلك الهجوم الانتقامي هو "غزوة"، وأن الخلافة مطلب شرعي لا يقبل الاستبدال بنظام سياسي آخر، وأنه النظام الأوحد للحكم في الإسلام، بالإضافة إلى أن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام واجبة على كل مسلم.

ونجد في تلك المحاور مغالطات كبيرة تخالف الإسلام الحنيف وتعاليمه؛ فجميع الغزوات التي وقعت في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن  انتقامًا، بل كانت دفاعًا عن النفس ولضمان حرية الاعتقاد التى جاء الإسلام ليكفلها للمسلمين وغير المسلمين، وقد تعرّض المسلمين الأوائل للاضطهاد والتضييق عليهم ومنعهم من ممارسة شعائر دينهم وإجبارهم على ترك أوطانهم وديارهم وأموالهم، وكل الآيات التي نزلت لإباحة القتال للمسلمين كانت للدفاع عن النفس ورَدّ العدوان لا لقتل الأبرياء والاعتداء على الآمِنين: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" (سورة الحج: 39)، "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، (سورة البقرة: 190) "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ" (سورة النحل:  126)، فكلُّ الآيات تدل على إباحة القتال للدفاع عن النفس ودرء العدوان لا الاعتداء على الأبرياء وقتلهم بدون جريرةٍ تُذكر.

أما بالنسبة لسعيهم لإقامة خلافة على أشلاء الأبرياء والمظلومين، فإن نظام الحكم في الإسلام متروك لظروف الناس وأعرافهم، حيث لم يَرِدْ نَصٌّ واحد صريح صحيح يوجب على المسلمين أن يُقيموا نظامًا سياسيًّا بعينه بتفاصيله،  وإنما ورد وجوب العدل، ورعاية مصالح العباد والبلاد بما يُرضي ربَّ العباد. بجانب أن كلَّ نظامِ حُكْمٍ أتى بعد الخلفاء الراشدين أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ والحسنِ بن علي لا يَصدُق عليه اسمُ الخلافة إلا من حيثُ اللغةُ، أمّا من حيثُ الحقيقةُ فكانت هناك أنظمةُ حُكْمٍ مُتباينة، ممّا يُدَلِّل على أن نُظُم الحكم تختلف في الإسلام بحسب الثقافات والعادات والأوضاع والأحوال.

فهل الخلافة الإسلامية الراشدة جاءت عن طريق القتل والحرق والتدمير كما يفعل هؤلاء؟!

وممّا يُركِّز عليه التنظيم: مفهوم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ويؤكّد مرصد الأزهر الشريف أن التنظيم الإرهابي يقتطع النصوص الشرعية ويجتزئ سياقها، مُتجاهِلًا عن عَمْدٍ وقَصْدٍ الأحاديثَ التي تنفي وجوب الهجرة؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية، وإذا استُنفرتم فانْفِروا"، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن جاء يبايعه على الهجرة، فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه: "لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام"، وأن العلماء جمعوا بين الأحاديث بقولهم: إن الهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكةَ إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويرى مرصد الأزهر الشريف من خلال متابعته لجميع العمليات الارهابية التي يقوم بها  تنظيم داعش، أنها ليست المرة الأولى التي يتبنى فيها هذا التنظيم  الإجراميي أعمالًا إرهابية، ويُثبِت الواقع خلاف ما تمّ الإعلانُ عنه. فقد يُعلِن داعش مسئوليته عن أحداثٍ لا ناقةَ له فيها ولا جَمَلَ؛ ليَبُثَّ بذور الرعب والخوف في قلوب الناس، خاصّةً في هذه الآونة الأخيرة التي انحسر فيها نفوذ هذا التنظيم على الأرض، وهذا هو أحد الأهداف الرئيسة للجماعات الإرهابية، فالمعلومات المغلوطة الكثيرة، والشك الكبير يبعث على الإرهاب والفوضى، وهذا هو الهدف الحقيقي لتنظيم داعش، وهو ما يجب علينا التصدي له من خلال تَحَرّي الدقة في تداول الأخبار عن طريق المصادر الموثوقة، وليس من خلال ما يبثه التنظيم نفسُه من رسائلَ مرئيّةٍ أو مكتوبة، ففي حالتنا هذه يَستشِفُّ المتابع المُدَقِّق في المقطع الذي بَثّه التنظيم مؤخرًا لتبني الهجوم، أنه لا توجد أيُّ دلائلَ صريحةٍ تؤكد أن مُنَفِّذَ الهجوم ينتمي إلى هذه الجماعة الإرهابية  أو تربطه صلةٌ بها، بل إن المقطع المُصَوَّر الذي نشَره التنظيم عبارةٌ عن مقاطعَ مُصَوَّرةٍ من هواتف الأشخاص الذين كانوا موجودين في الحادث والمنتشرة على الإنترنت، وركّب عليها ادّعاءاتِه وكلامًا يوحي بأنه المسئول والمُحَرِّض الأول على الهجوم، وهذا ما يدعونا إلى انتظار التقارير الرسمية والصحيحة عن مُنَفِّذ الهجوم ودوافعه التي يجب أن تخرج سريعًا؛ لغَلْق الباب على هؤلاء المُدَّعين وفَضْح كذبهم.