في ظِلِّ ما تعانيه شعوبُ العالمِ شرقًا وغربًا، وفي إطارِ ما يشهدُهُ العالمُ من ظهورِ بعضِ التنظيمات التي أخذت بأتباعِها إلى دروبِ التيهِ وهاويةِ الضياع، وفي ظلِّ الأيديولوجيات التي أناخت على عقولِ شبابٍ أضحى للإرهابِ هدفًا، وباتَ بيتُهُ للتطرفِ ملاذًا، قامت وحدة رصد اللغة الفرنسية بإصدار هذا التقرير الذي يَهدِفُ في مقامِهِ الأول إلى الوقوفِ على أسبابِ سقوطِ البعض في براثن التطرف وفخاخِ الإرهاب.
فلربما تَمَكّن الإرهاب من هزِّ عرشِ الثبات الذي تمتّعت به الدول الغربية في السنوات الأخيرة، الأمر الذي جعلهم يلتفتون إلى أرض الواقع ليدرسوا ما يجري ويكتشفوا ما يحدث في الغرف المغلقة بين أطراف جماعاتٍ تحيك لبلادها الشرورَ في الظلام، بينما هي تنعم بامتيازاتٍ ظنّت تلك الدول أنها كفيلةٌ بتحقيق الانتماء لهؤلاء المُنتمين إلى ثقافاتٍ تُغايِر ثقافةَ شعوبها الأصلية.
ونحاول في هذا التقرير توضيحَ ظاهرة التطرف، ومحاولة الوصول إلى ما يدور بخَلَد المتطرف قُبَيْلَ أن يتحول إلى سفّاكِ دماءٍ.
ونجيبُ في تقريرِنا هذا على عدَّةِ أسئلةٍ؛ علَّ إجاباتُها تَفي بما نريدُ قولَه حتى نضعَ سياسةً ناجعةً للتخلص من الإرهابِ وأسبابِهِ: ما الذي يدور في رأس المتطرف؟ ولماذا ينخرط في جماعة؟ ولماذا يسقط في براثن التطرف؟
وقبل أن نُعرِّج على الإجابات نودُّ أن نُشير إلى أنَّ حدثين رئيسين أفاقا الإنسانيةَ في العالم الغربي ونبَّهَاها إلى أنَّ مخالبَ الإرهابِ بدأت تنهشُ في عظامِها؛ الأول: يتمثل في هجمات 11 سبتمبر 2001م في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كشفت للعالم عن خطرِ الإرهاب وحجمِه، والثّاني: يتمثل في هجمات 7 يوليو 2005م في مترو لندن التي كان أبطالها أربعة من الشبان الذين ترعرعوا في المملكة المتحدة واندمجوا بشكلٍ ظاهريٍّ –فقط- في المجتمع.
تلك الحوادث إن دَلّتْ على شيءٍ فإنها تَدلّ على أن التهديد الإرهابي المرتبط لم يَعُدْ يَنبع من منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل هو خطرٌ داخليّ ربما تزيد خطورته على تلك الدول الغربية لانكشاف الداخل أمام ناظري المتطرفين.
وجرّاءَ هذه الجرائم وما تلاها من اعتداءاتٍ ضربت أمنَ فرنسا في مقتلٍ، احتدم الأمرُ بهذه الدولة ووصلَ إلى أشُدِّهِ للوقوفِ على أسبابِ تلك الظاهرةِ التي طعنت قلبَها النابض والمتمثل في الشباب في مسرح باتاكلان، وتأثيرها على اقتصادها وشخصيتها المتمثلة في السياحة، وفيما وقع في يوم عيدها القومي بمدينة السلام نيس خيرُ شاهدٍ على ضرب صُلْب الاقتصاد والحرية الفرنسية.
من هُنا كان البحث عن الطرق والسُّبُل المؤدية بالشباب إلى دَرْب التطرف ضروريًّا.
وبمتابعتِهِا الحثيثة للدراسات التي صدرت في هذا الشأن، وقعت عينُ وحدة رصد اللغة الفرنسية على أربع أطروحات متجابهة، ربما تكونُ فيها الإجابة على الأسئلةِ المطروحة، لخَّصها كلٌّ من: إكزافيه كريتيز وبلال عنان، في مقدمة كتابهما Soldats de Dieu, paroles de djihadistes incarcérés "جنود الله، أقوال الجهاديين في السجون".
كانت أهم العناصر الأربعة هي القراءة النصية والشكلية والحرفية لبعض النصوص الدينية والتي توفّر نوعًا من الرضا لدى تلك التيارات المتطرفة، وقد لخصتها الدراسة فيما يلي:
• القراءة المتطرفة للقرآن:
الأطروحة الأولى قدمها جيل كيبيل، وهو السياسي الفرنسي والمتخصص في الإسلاميات، والأستاذ للعلوم السياسية.
يرى "كيبيل" أن ثمة عَلاقة سببية شبه مباشرة بين "القراءة المتطرفة للنصوص القرآنية" و"تنفيذ مخططات عنيفة ذات أهداف سياسية مُزعزعة للاستقرار وللنظام الغربي".
وبالتالي فالعنف هو نتيجةُ قراءةٍ فردية للقرآن، تُقَدِّمها العديد من الجهات -والتي من بينها المساجد المتطرفة- للشباب العاطلين عن العمل "الذين يسهل التلاعب بهم".
الأمر الذي يُحَتِّم وجودَ قراءةٍ مناهضةٍ للقراءة المُحَفِّزة والدافعة في اتجاه العنف المسلح.
• الانخراط بشكلٍ أو بآخَرَ في العنف المسلح:
ثمة أطروحة أخرى، إلا أنها معاكسة، وهي تلك التي قدمها أوليفيه روا، الأستاذ بالمعهد الجامعي الأوروبي، قارَنَ فيها الباحثُ بين التطرف الإرهابي والأشكال الأخرى للانخراط في العنف المسلح، مثل الحركات اليسارية المتطرفة التي ظهرت عام 1970م. والذي أصَّلَ لهذا العنف بأنه ليس بالضرورة سببًا بل قد يكون ذريعةً، أو بالأحرى هو تعبيرٌعن صياغةٍ احتجاجية قال فيها: "حركةٌ احتجاجية تتعلق بالأجيال تُعبِّرعن افتتانٍ بالموت".
• أيدولوجيا مناهضة للإمبريالية:
الأطروحة الثالثة، أقل ظهورًا على الساحة الإعلامية، قدّمها فرانسوا بيرجا، المتخصص في الدراسات الإسلامية ومدير البحث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي.
يُبرِز هذا الباحثُ البُعْدَ الأيديولوجي، فالعنف المسلح المعاصر بالنسبة له هو "رَدّ فعلٍ مباشر لآثار الاستعمار"، كما يرى التنظيماتِ بمثابة صراعٍ سياسي-عسكري قائم على "قراءةٍ مؤيِّدة للعالَم الثالث ومُناهِضة للإمبرالية" في العالم.
باختصار، فإن الاضطراب الجيوسياسي الذي خلَّفَهُ الاستعمارُ، ثم التدخلات الغربية، كل ذلك أدّى إلى حالة انتقاد حقيقية تقود إلى التطرف المسلح.
• قراءة تحليلية نفسية للتطرف:
الأطروحة الأخيرة نفسية، قدّمها المُحَلِّل النفسي فتحي بن سلامة، والذي يرى أن هناك العديدَ من العناصر التي تؤدّي إلى الإرهاب المسلح؛ "إسلامٌ مثاليٌّ جريح"، يجب الثأر له من خلال الانتقام من المسئولين عن هذا الجرح، وهم: الغرب والشيعة واليهود، وذلك من خلال الاستفادة بالإمكانيات والقدرات الفائقة التي ينعم بها شبابٌ يعيش في أوروبا تحت وطأة تلك المعاناة؛ إمكانية التطهُّر من خلال العنف الإرهابي الذي سيمحو سنواتِ الانحراف والذنوب، واكتشاف عالَم الطهارة الذي يناوئه عالَم الفساد المتمثل في الغرب العَلماني، هذه أبرز العناصر التي لخّصها كلٌّ من: زافيه كريتز وبلال عنان.
ويعتقد المؤلفان أن كلَّ أُطْروحةٍ من هذه الأطروحات "صحيحة"، أو في كل الأحوال تحتوي على قدرٍ من الحقيقة.
تبقى هناك مشكلةٌ أخرى تطرح نفسَها أمام الباحثين والتي تُصعِّب من هذا العمل، كما أوضح أوليفيه روا أثناء مناظرةٍ حول هذا الموضوع؛ العَيّنة التي يمكن الوصول إليها محدودةٌ للغاية، بل ربما تَتّسم بالضعف.
وفي واقع الأمر، فإن الأفراد المتطرفين الوحيدين والذي يمكن للباحث أن يصل إليهم، هم أولئك القابعون خلف القضبان.
ولكن لأسبابٍ قانونية، لا يمكن الوصول إلا إلى أولئك الذين تمّت إدانتهم فقط.
ويُحذّر أوليفيه روا بشيءٍ من السخرية قائلًا: "نحن جميعًا نعمل على عشراتٍ من الأشخاص كما لو أنه ليس هناك الكثيرُ من الإرهابيين، ثَمّة كثير من الجهاديين في الكتب أكثر مما هو في الواقع"، "وإذا كان قد تمّ تصنيف هؤلاء المساجين ضمن فئة الإرهابيين، فلكلِّ واحدٍ منهم قصّةٌ مختلِفة عن الآخَر". من الصعب إذًا أن نَخرج بنتائجَ قوية.
ومع ذلك يرى "المرصدُ" أنَّ تلك الأطروحاتِ ما هي إلا محاولات من الباحثين لاستكشاف ذلك العالم الغريب الذي تمّ اكتشافه في السنوات الأخيرة، عالَم يَعِجُّ بالخلايا السرطانية التي رَبَّتْها الدولُ الغربية بين أحضانها، وسرعانَ ما استيقظت على حريقٍ شبَّ في جسدها.
إلا أنه وبالرغم من الألمِ الذي ألَمَّ بتلك الدول المتقدمة، فإنَّ العلم ينتصر، وها هي بوادرُ الحلول تأتي من جَوْف التحليل، فبفَهْم الظاهرة يولَد الحلُّ الناجع الذي يقضي عليها.
وحدة رصد اللغة الفرنسية