الجماعات المتطرفة

 

29 أكتوبر, 2017

داعش من "النَّصيَّة" إلى "التدليس واللصوصية"

     لا يمكننا على أية حالٍ أن نتناول داعش كحركةٍ إرهابيةٍ ذات فكرٍ وإيديولوجيةٍ خاصةٍ، فهذا لن يوصلنا إلى رسم صورة واقعية تعكس الإطار الإيديولوجي لهذه الحركة؛ بل علينا أن نتناول داعش باعتبارها إحدى الحركات الوليدة من الظاهرة "التكفيرية" التي منيت بها الأمة، منذ ظهور الخوارج في القرن الأول الهجري حتى يومنا هذا.
إذا كانت داعش وأقرانها يحسبون أنفسم على المدرسة "النصية"، بل يدَّعون أنهم حُماتها ورجالاتها الذين نفروا في سبيل الله؛ إحياءً لهذا المنهج وذودًا عنه، فعلينا أن نستبصر الحقَّ فيما يدعون، أو كما يقول الأصوليون : "إذا كنت مدَّعيًًا فالدليل".
إن أول ما يجب أن نتناوله - إذا أردنا أن نستكشف أبعاد المنهج "النصي" الذي تدعيه داعش وأقرانها - هو أن نرصد الأصول العامة، أو ما يسميه الأصوليون بالأدلة الكلية التي يعتمدها الفكر الداعشي، ثم ننتقل ثانيًا إلى طرقِ الاستدلال لديهم. فنحن الآن أمام تساؤلٍ مهم :

ما هي الطرائق الاستدلالية لاستنباط الأحكام التفصيلية عندهم؟

في الحقيقة، الإجابة على هذا السؤال تستغرق مئات الورقات، لكن لنقف في هذا المقال على بعض الشواهد التي ترشدنا إلى استكشاف المنهج الاستدلالي الداعشي.
إن أصحاب المنهج النصي يستمسكون بحرفيةِ ما ورد في نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فلا اجتهاد في حكم منصوص عليه. وعليه، فقد عطَّلوا عددًا من الأدلة الكلية المعمول بها عند جمهور الفقهاء. وإذا كانت المدرسة النصية - وفق بعض أهل العلم - قد ضيقت الأفق الاستدلالي، فهذا يرجع إلى الإفراط في القول بحرفية ما تحمله العبارات، مع عدم الاعتناء بفحوى الخطاب أو السياقات أو القياسات. إذا كان هذا الإطار العام للمنهج النصي، فلنتوقف الآن مع بعض المقارنات الموجزة بين سمات ذلك المنهج، وبين المنهج الاستدلالي العام لدى داعش وأقرانها الذين يدعون انتمائهم لهذه المدرسة :
1-    المدرسة النصية تتشدد في اشتراطات صحة الحديث حتى يصلح للاستدلال، وقد احترموا هذه الشروط على طول الطريق دون حياد عنها، وَفق ضوابط ومعايير تبنوها في الجرح والتعديل، وصحة المتن. أما داعش فإنها "تزعم" أيضًا التشدد في شروط الأخذ بالأحاديث، فمن المسلم به عندهم أن الأحاديث والأخبار الضعيفة "لا تصلح للاستدلال الفقهي بحالٍ من الأحوال". هذا هو زعمهم، لكن ما نراه في الواقع شيئًا آخر؛ ففي قضية "حرق الطيار الأردني" استدلوا بالأثر الوارد عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بأنه أحرق مرتكب "الشذوذ" ثم هدَم عليه، وفي ذلك يقول ابن حجر : " أما الإحراقُ فروى ابنُ أبي الدنيا من طريق البيهقي ومن طريق ابن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد رجلًا في بعض نواحي العرب يُنكح كما تُنكح المرأة، فجمع أبو بكر الصحابة فسألهم فكان أشدهم في ذلك قولًا عليٌّ فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأي الصحابة على ذلك. قلت وهو ضعيفٌ جدًا ولو صح لكان قاطعًا للحجة" (ابن حجر، الدِّرَايَةُ فِيْ تَخْرِيْجِ أَحَادِيْثِ الْهِدَايَةِ، تحقيق السيد عبد الله، دار المعرفة، بيروت، ص : 102).
2-    المدرسة النصية، مِثْلُها مثل جل المدارس الإسلامية، يعتبرون الإجماع واحدًا من الأدلة الكلية، ويحترمونه تمامًا، لكن الأمر يختلف في حالة داعش، فهي تدَّعي ذلك وتخالفه في آن واحد، ففي ذات الحكم الذي يتبنوه في قضية إحراق "الطيار الأردني" المشار لها سابقًا، خالفت داعش ما أجمع عليه متأخرو الأمة بتحريم حرق العدو بالنار، قال الإمام ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني : «أما العدو إذا قُدر عليه، فلا يجوز تحريقه بالنار، بغير خلاف نعلمه.
 وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار. وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره، فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافاً». (ابن قدامة، المغني، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، ط 1، 1985م، ج 9، ص :  230). فهم خالفوا إجماع الأمة الصريح في هذه المسألة.
3-    المدرسة النصية رغم اختلافنا معهم في العديد من القضايا الكلية والمسائل التفصيلية، إلا أنهم كانوا أوفياء للنص، محتَرِمين لأمانة النقل، دون اقتطاع أو تصحيف أو تحريف، وعلى الجانب الآخر، فنجد - على سبيل المثال - أن داعش تعتمد على الآية القرآنية : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) في تسويغ تنفيذ العمليات الإرهابية ومنظومة "الذئاب المنفردة" (الأعضاء الذين يقومون بأعمال تفجير فردية في جميع أنحاء العالم)، ولكن الآية كانت مناسبتها في إحدى المعارك، وهذا ما يلفت الأنظار إلى أن الضمير في (اقتلوهم) إنما هو عائد على "المحاربين" الذين يحملون السلاح على المسلمين، أما باقي مواطني الدول غير المسلمة (حتى ولو كانت هذه الدول في حالة حرب مع المسلمين) فلا يجوز المساس بهم، وإلا لو كان الضمير في (اقتلوهم) يشمل جميع غير المسلمين فكيف نفسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان) رواه أحمد.  وعن رباح بن الربيع بن صيفي قال: )كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا، فقال: انظر على ما اجتمع هؤلاء؟، فجاء، فقال: امرأة قتيل، فقال: ما كانت هذه لتقاتل، وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا، فقال: قل لخالد: لا يقتلن امرأة، ولا عسيفا "أجيرًا) رواه أبو داود. وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومَن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليد" رواه مسلم .
فإذا كان الضمير في (اقتلوهم) شاملًا لجميع غير المسلمين فيكف نفسر حرمة المساس بالنساء والأطفال والعمال، أي جميع المدنين الذين لا علاقة لهم بالحرب؟! أليس كل هؤلاء غير مسلمين؟! فهل نقتلهم وَفق رؤية داعش، أو نعصم دمائهم وَفق قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؟!
4-    استخراج الأحكام من غير أدلتها وهذا من أعجب العجب، فاستدلوا بالفتوى المنسوبة إلى "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه والتي ثبت ضعفها كما أوضحنا عاليه. حتى وإن صح - جدلًا -  ثبوت ورودها عن الإمام علي فهي كما يقول السادة الفقهاء "لا توافق محلًا"؛ أي إن هذا الأثر يستدل به على عقوبة "الشذوذ" لا على عقوبة "الأسرى".
هذا باختصار كان إطلالة موجزة على بعض ملامح المنهج الاستدلالي لدى داعش وأقرانها، والحديث في ذلك الباب يتسغرق مقالات ومقالات. لكن اختتم هذه الكلمات بما اجتمع الجميع على نصه - وإن اختلفوا في فهمه -  :
"أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗوَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)"