رأينا بعض اللقاءات التليفزيونية التي أجريت مع منتمين لتنظيم داعش الإرهابي بعد أن تم القبض عليهم، وعند سؤالهم عن المجازر والفظائع المروعة التي ارتكبوها، جاءت إجاباتهم مصحوبة بتسويغ تلك الأفعال بالعديد من الأدلة والنصوص الدينية المجتزأة من سياقها، والتي ينم استشهادهم بها عن جهل كبير وقلة وعي ديني، وأن أفكار هذا المتطرف فاسدة مليئة بالتصورات والاعتقادات الخاطئة التي تمكنت تلك التنظيمات الإرهابية من غرسها في عقله والتأثير عليه من خلالها وجعله أداة طوع أيديهم، بعد أن أطفئ مصباح عقله؛ ليسير خلفهم ويتتبع خطاهم بلا نقاش أو تفكير، حتى لو أُمِر بقتل أهله وأبناء وطنه فإنه لا يتوانى عن تنفيذ هذا الأمر . وهذا لا شك راجع إلى عمليات غسيل المخ المستمرة التي يتعرض لها المتطرف دون أن يكلف نفسه عناء التفكير فيها، أو إمعان نظره في ما يتلقى من أفكار وشبهات رغم دعوة الأديان جميع البشر إلى التدبر والتفكر. وفي هذا المقال نتناول أهمية إعمال العقل ودوره في حماية الإنسان من التطرف؟ وكيف تقوم التنظيمات المتطرفة بعمليات غسيل المخ ليصبح المتطرف مسلوب العقل، مقلدًا، وتابعًا لأحد التنظيمات المتطرفة وقادتها.
إعمال العقل ودوره في حماية الإنسان من التطرف
كرم الله الإنسان بالعقل، وجعله مناطًا للتكليف، فلولاه ما استطاع الإنسان الموازنة بين الأضداد ومعرفة سبل الخير والرشاد. وقد وردت الكثير من النصوص الدينية التي دعت إلى إمعان النظر والتبصر فقال تعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19}) (الغاشية). كما ذمت المقلدين أصحاب التعصب الأصم والطاعة العمياء، ولم تقبل منهم أن يسلموا عقولهم وزمام أمورهم لغيرهم فيصبحوا أسرى في أيديهم، ولقد رُوي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي ﷺ قال: "لا تكونوا إِمَّعَةً، تقولون: إِن أَحسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإن ظَلموا ظَلمنا، ولكن وطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أحسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإن أَسَاءُوا فلا تَظلموا( )".
وبمراجعة كتب التاريخ والسيرة النبوية نجد الكثير من المواقف التي تبين دعوة النبي ﷺ أصحابه إلى إعمال العقل والتدبر في كل شيء وإبداء الرأي، وتقبله اختلافهم معه وأخذه برأيِهم في مواضعَ كثيرة. فنجد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُعمل العقل في بعض القضايا رغم وجود النص، مثل قضية المؤلَّفة قلوبهم عندما منع العطاء عنهم، وكان النبي ﷺ يعطيهم من أموال الزكاة( )؛ لأنه رأى أن العلة في منحهم مِن سهم "المؤلَّفة" قد زالت.
كما أن إعمال العقول في استنباط الأحكام الشرعية كان سببًا في إثراء الحياة الفكرية فوجدت العديد من المذاهب الفقهية، (ولم يكن من المستغرب) أن يكون للتلميذ آراء تخالف أستاذه، كما تعددت مدارس التفسير، كالتفسير بالمأثور ومدرسة الرأي( ). حتى إن كبار الأئمة والعلماء لم يكونوا ليقبلوا بتقليد الناس لهم، فكان الإمام أحمد ابن حنبل يقول: "لا تقلدنِي ولا تُقَلِّدْ مالِكًا ولا الثوريَّ ولا الأوزاعيَّ، وخُذْ مِن حيثُ أَخَذوا".
فالإسلام يأبى على الإنسان أن يُهمِل عقله وأن يكون تابعًا لغيره في كل خطوة يخطوها؛ إذ إنه في جوهره دينٌ عقلي، وإذا كان تعريف الأسلوب العقلي بأنه طريقة تقيم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، فإنه ينطبق على الإسلام تمام الانطباق، كما ذكر المستشرق الفرنسي (إدوارد مونتيه)( )
ولهذا فإن إعمال العقل سياج يحمي صاحبه من أي انحراف فكري، حيث يجعله يوازن بين الخير والشر، والنافع والضار، كما أنه الوسيلة لإدراك صحيح الدين والوقوف على التأويلات الباطلة للنصوص، في حين يكون التقليد حجابًا يحول بينه وبين الوصول للحقيقة؛ لذا نجد أن (70%) ممن التحقوا بتنظيم داعش الإرهابي معرفتهم بالدين بدائية جدًّا، وأن هذا التنظيم يستطيع تجنيد الجاهلين بالدين بسهولة أكثر من غيرهم، وفقًا لما نشرته صحيفة الإندبندينت( )، فلو كانوا على علم ويقين بتعاليم دينهم لأدركوا أنه يأمرهم بعرض تلك الأفكار على العقول التي تميز بين الحسن والقبيح، وتعرف الحلال من الحرام، وتفرق بين المعروف والمنكر.
كيف تقوم التنظيمات المتطرفة بعمليات غسيل المخ وتغييب العقول
تتبع التنظيمات المتطرفة عددًا من الخطوات التي تستهدف مَحْو شخصية المنتمين إليها، مع مراعاة أعمارهم ومستوياتهم التعليمية، والظروف النفسية والاجتماعية لكل منهم، ومن ذلك:
1. اللعب على وَتَر العاطفة الدينية:
تسعى التنظيمات المتطرفة إلى استغلال العاطفة الدينية في نفوس الشباب؛ من خلال الحديث عن معاناة المسلمين في بقاع الأرض، ونصرة الإسلام وتطبيق الشريعة، والجهاد، وعرض مقاطع فيديو لعمليات انتحارية تُصور فاعلها على أنه من الأبطال المدافعين عن دينهم. فيتأثر الشباب الجاهل بتعاليم الدين بتلك الشبهات الفكرية وبالدورات والمحاضرات التي تعقد له لتقوية تلك الأفكار في عقله. وقد وجدنا أن تنظيم داعش الإرهابي كان يوجب على العنصر المنضم حديثًا حضور تلك الدورات التي تتم فيها عملية غسيل المخ، ومن لم يحضر يتم توقيع بعض العقوبات التي قد تصل للجلد أو القتل. ويتحدثون في تلك المحاضرات عن وجوب طاعة القائد والتسليم المطلق لكل أوامره عملًا بقوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ثم يستشهدون بما حدث في غزوة أحد عندما خالف الرماة أمر الرسول ﷺ وحلت الهزيمة. فوفق التفسير حسب أهوائهم الضالة لا يجوز الخروج على زعيمهم أو عصيان أمره حتى لو أمر بقتل والديه أو أخوته وإلا خسر آخرته؛ لذا فإن إعمال العقل يهذب العاطفة ويضبطها، ويجعل الفرد يفهم التفسير الحقيقي لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة.
2. التغييب الحسي للعقل عن طريق المواد المخدرة:
تَستخدم التنظيمات المتطرفة المخدرات أحيانًا وسيلةً للسيطرة على عقول عناصرها، وتطويعهم لخدمة مصالحهم، وتشجيعهم على القيام بالعمليات الانتحارية، وقد تم العثور على أنواع من المخدرات في أشلاء بعض الإرهابيين بعد قيامهم بعمليات انتحارية، كما وجد في أشلاء مفجر مسجد الإمام الصادق في الكويت( )، ورغم أن الإسلام حرَّم كل ما مِن شأنه أن يحجب العقل، فإن تنظيم داعش الإرهابي قد أصدر فتاوى تبيح استخدام مخدر الكبتاجون( )
3. الخوف أحد وسائل التنظيمات الإرهابية للسيطرة على العقول:
تلجأ التنظيمات المتطرفة أحيانًا إلى تخويف وترهيب أتباعها حتى يظلوا تابعين لهم، وتضمن استمرار سيطرتها على عقولهم، حيث يتم التعامل بصورة وحشية مع أي مخالف للقائد، أو عاصٍ لأوامره، أو منشقٍّ عن التنظيم، وفي تقرير لصحيفة "ديلى ميل" البريطانية ذكرت أن تنظيم داعش الإرهابي وقت سيطرته على بعض المدن بسوريا والعراق أضاف إلى جانب الحرق والذبح والإغراق أسلوب "الكلاب الجائعة والمتوحشة" من أجل إعدام المنشقِّين، ومن تسول له نفسه محاولة الهروب من التنظيم.
أخيرًا ووفق متابعاتنا في مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، تتعدد وسائل التنظيمات الإرهابية لإحكام السيطرة على عناصرها أو لاستقطاب عناصر جدد. لكن في المجمل تركز هذه التنظيمات على تغيب عقل المخاطب أو المتلقي، واستهداف مجالات الوعي الدينية والأخلاقية والمعرفية، وتعطيل التفكير العقلاني والمنطقي، عبر خطاب شعبوي يستدعي أحداثًا تاريخية ومقارنتها بالأوضاع الراهنة مع الاصرار على تجاهل سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية. وللأسف يجد مثل هذا الخطاب آذانًا صاغية لا سيما بين الأوساط الشبابية التي يغلب عليها الطابع الحماسي والعاطفي، وتنخرط دون تفكير في تنفيذ عمليات إرهابية باندفاع وجرأة شديدة. وهذا يفرض على المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية التكاتف والتعاون والاتفاق على إستراتيجية واضحة ومحددة المعالم وغير عشوائية، تهدف إلى تحصين العقول حيث يستعصي على التنظيمات الإرهابية اختراقها والنفوذ إليها. وهذا لا يعفي الأفراد من المسؤولية، وإنما يتعين علينا جميعًا التفكير جيدًا في كل ما يُعرض أو يُقدم من أفكار واعتقادات، ورفض التبعية والانقياد، فقد ميز الله الإنسان بالعقل، وقبيحٌ بمَن أُعطِيَ شمعةً يَستضيءُ بها أن يُطفئها ويَمشي في الظُّلمة كما قال ابن الجَوزي.
وحدة الرصد باللغة الفارسية