"لا تأمن للأفعى حتى بعد قطع رأسها" مقولة شهيرة توحي بأن الغدر قد يأتيك من أكثر الأماكن الموثوقة، وهى تنطبق تمامًا على تنظيم داعش الإرهابي الذي احتفل العالم بالقضاء عليه وعلى قياداته عدة مرات. فقد أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية" في العام ٢٠١٧م القضاء على داعش في "سوريا" وتحرير عاصمته المزعومة من عناصر التنظيم، تلاها إعلان "العراق" تحرير كامل "الموصل". وفي العام 2019م أعلن تنظيم داعش نفسه سقوط "الباغوز" آخر معاقله في "سوريا" وإعلان الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" مقتل زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي" في غارة أمريكية استهدفت المنزل الذي كان يقيم به في "سوريا".
كل هذه الإعلانات وغيرها مثّلت أسبابًا منطقية للاعتقاد بأن داعش الإرهابي قد انتهى ولم يعد قادرًا على مواصلة تأسيس دولته المزعومة. وازدادت منطقية هذا الطرح بانكماش التنظيم مدة من الوقت نهاية عام 2019م بعد سقوط "الباغوز" ومقتل "البغدادي"، وضعف آلة التنظيم الإعلامية آنذاك.
غير أننا في كل فترة ومع تسارع وتيرة الأحداث السياسية والتحديات الاقتصادية في العالم نرى ظهورًا جديدًا للتنظيم، بعدة عمليات متتالية تلفت الأنظار من جديد. وقد نشط التنظيم مؤخرًا في (العراق) وتحديدًا في مدن: (ديالى، وصلاح الدين، وكركوك، إضافة إلى غرب الأنبار). وفي الوقت ذاته ازدادت الضربات الداعشية في ريف (الرقة، والبادية السورية). وفي نهاية أكتوبر ٢٠٢٢م أصدرت قناة "فوكس نيوز" الإخبارية تقريرًا يؤكد خوض داعش الارهابي، رغم إعلان هزيمته، معركة "العودة والتجدد" في العراق، وشن حرب استنزاف وكر وفر في المناطق التي يتمتع فيها بالقوة.
ووفق متابعتنا فقد يكون من الصعوبة استعادة تنظيم داعش الإرهابي القوة والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، أو تأسيس قوة عسكرية قادرة على مواجهة العديد من المعارك المتزامنة، كما كانت الحال في المدة (2014م- 2015م) وذلك للعديد من الأسباب أهمها:
أولًا: فقدان الحاضنة الشعبية التي كانت تساعد التنظيم في فرض السيطرة على المدن والقرى، لا سيما بعد أن اتضح للعالم أجمع مدى إجرام التنظيم وأهدافه الخبيثة.
ثانيًا: ضعف التنظيم الواضح نسبيًّا على مستوى القيادات والتمويل. وكان التنظيم قد تعرض تحت وطأة الضربات الأمنية المتعددة إلى خسارة العديد من القيادات البارزة ناهيك عن انهيار مصادر التمويل المالي، وعدم القدرة على استقطاب عناصر جديدة يصعب عليه تدريبها بعد فقدان السيطرة المكانية في سوريا والعراق، ولذلك تبنى التنظيم في الفترة الأخيرة إستراتيجية هدم الأسوار بخلاف محاولة استقطاب أعضاء من التنظيمات الأخرى.
ثالثًا: كسر شوكة التنظيم في معارك الرقة والموصل والباغوز، وقد عدَّد "البغدادي" في آخر خطاب له بعد سقوط "الباغوز" الخسائر الفادحة التي تكبدها التنظيم على المستويات كافة؛ الإعلامية والقيادية والعسكرية.
رابعًا: ضعف التواصل بين قادة التنظيم وأعضائه، وخصوصًا بعد سقوط "الباغوز"، وإفراط قادة التنظيم في أمنهم الشخصي على حساب تواصلهم مع فروع التنظيم وقواعده، وهو ما اتضح جليًّا في مقتل "البغدادي" و"أبو إبراهيم القرشي" اللذيْن كانا يختبئان في أماكن تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" ــ جبهة النصرة سابقًاــ العدو اللدود لداعش، وكذلك في عدم الإفصاح عن هوية "أبو الحسن الهاشمي" زعيم التنظيم الجديد.
خامسًا: إدراك التنظيم نفسه طبيعة المرحلة الحالية، وأن المجتمع الدولي لن يسمح له بالعودة إلى ما كان عليه في السابق، ومن ثم لجأ إلى تغير الإستراتيجيات من دولة كان يريد تأسيسها إلى تنظيم لا مركزي يقوم بعمليات عصابية ذات طابع فردي، أو بتنسيق على نطاقٍ ضيق، وهو ما يؤدي إلى تأخر إعلان التنظيم مسئوليته عن بعض العمليات التي يقوم بها أفراده.
والسؤال: ما هي الأسباب التي توحي بإمكانية استعادة التنظيم قوته السابقة؟
1- التأثير الإعلامي: الأحداث الإرهابية وإن كانت ضعيفة، فإن تداعياتها على المستويات الإعلامية والشعبية تمتاز بالقوة. وهذه تعد من أهم الإشكاليات في مكافحة الإرهاب ودور الإعلام فيها، فالإعلام دوره نقل المعلومة للمواطن العادي، بهدف توعيته وتلبية حقه الطبيعي في المعرفة، لكن وصول العملية الإرهابية للمواطن ومعرفته بها وبعدد ضحاياها من أهم الأهداف التي تسعى التنظيمات الإرهابية إلى تحقيقها، فهي تسعى إلى هذا التأثير، وتختلق شائعات من أجله، بل وتدعي أحيانًا القيام بعمليات وهمية من أجل نشر الخوف بين المواطنين.
2- استغلال الأحداث السياسية: لطالما كان التنظيم الإرهابي حريصًا على إساءة استغلال الأحداث السياسية والاستفادة من الظروف الدولية. على سبيل المثال كان لوباء (كوفيد– 19) المستجد تأثير كبير في إظهار وجود داعش الإرهابي، الذي بدوره استغل هذا الوباء إعلاميًّا وإفتائيًّا وعسكريًّا على الأرض. فاستغل تعليق قوات التحالف لعملياتها العسكرية في العراق، وانشغال قوات الأمن العراقية بتطبيق حظر التجوال بسبب الفيروس، وتحرك على الأرض جغرافيًّا بصورة أكثر حرية، وقام أفراده بعدة عمليات إرهابية، وعلى الرغم من أنها كانت أضعف من عملياته التي شنها في عامي 2014م، و2015م فإنها كانت عمليات ذات بعدٍ استعراضي وتأثيرٍ إعلامي كبير، يتباهى بها التنظيمُ على منصاته الإعلامية من أجل رفع الروح المعنوية لمقاتليه. وفي أبريل 2020م أصدرت "مجموعة الأزمات الدولية" تقريرًا حذرت فيه العالمَ من استغلال داعش لفيروس كورونا وحالة الاضطراب الناتجة عنه، مؤكدة على ضرورة التعاون الدولي من أجل إعاقة نشاط التنظيم وعرقلة عودته إلى العمليات الإرهابية مرة أخرى.
الأمر ذاته تكرر مع الحرب الروسية – الأوكرانية؛ حيث سعى داعش إلى استغلالها، وحرض عناصره على هذا الأمر. ففي أبريل 2022م دعا المتحدث باسم التنظيم أعضاء تنظيمه إلى استغلال انشغال أوروبا بالحرب الدائرة في أوكرانيا لاستئناف شن عمليات فيها. وهذا لم يحدث حتى الآن، مما يؤكد أن هذا الخطاب كان هدفه إعلاميًّا فقط وأنه كان أعلى من قدرات التنظيم الحقيقية.
أخيرًا نؤكد أن تنظيم داعش الإرهابي لم يعد قويًّا كما كان، لكنه في الوقت نفسه لا يزال موجودًا، من أجل ذلك لا ينبغي التقليل من قدراته وفي الوقت ذاته لا ينبغي التهويل منها، إنما ينبغي التعامل معه بموضوعية، والسعي الدائم لمواجهة منابعه العسكرية والإعلامية والفكرية.
وحدة رصد اللغة التركية