القضية الفلسطينية

 

17 أغسطس, 2023

"الأقصى يستغيث"... اقتحام ٢٦ ألف مستوطن المسجدَ الأقصى في النصف الأول من ٢٠٢٣م

     بعبارة "الأقصى في خطر"... كان مرصد الأزهر العالمي لمكافحة التطرف، قد حذر في عام ٢٠٢١ من الانتهاكات الصهيونية لأولى القبلتين وثالث الحرمين، بعد أن بلغت أعداد مقتحمي المسجد نحو ٣٣ ألف مستوطن، وهو العدد الأكبر خلال عام واحد منذ احتلال الجزء الشرقي من مدينة القدس عام ١٩٦٧. حينها لم يكن أحد يتصور تحطيم هذا الرقم، وأن العام ٢٠٢١ هو الأخطر على الأقصى.

إلا أن المؤشرات والمتابعات للعام ٢٠٢٣ توحي بأن أعداد مقتحمي الأقصى الشريف قد تتضاعف، ولذلك دعا مرصد الأزهر جميع الأطراف المسئولة والمعنية بالدفاع عن الأقصى والمقدسات الفلسطينية، إلى العمل الحثيث على إنقاذ الأقصى المبارك من براثن الصهاينة، ومخططاتهم الخبيثة والمعلنة والمتغيرة الرامية إلى إقامة الهيكل "المزعوم" على أنقاض الأقصى المبارك.

يتناول هذا التقرير -بالشرح والتعليق- كل ما تعرض له الأقصى من تدنيس وانتهاكات خلال النصف الأول من العام الجاري ٢٠٢٣، من خلال عمليات الاقتحام المتكررة، ودور منظمات الهيكل المتطرفة في الحشد والتحريض، وتدخل الحكومة الصهيونية والمؤسسات الرسمية في تذليل عقبات هذه الاقتحامات، وتمكين المستوطنين من تدنيس الأقصى، وممارسة طقوسهم الاستفزازية داخل باحاته المشرفة تحت حماية رسمية كاملة.

عمليات الاقتحام والطقوس الاستفزازية

اقتحم نحو ٢٦ ألف مستوطن باحات الأقصى المبارك على مدار النصف الأول من العام الجاري، تحت حماية مشددة من شرطة الاحتلال والأجهزة الأمنية المُختلفة. وتبرز خطورة هذا الرقم كونه يقارب الرقم القياسي لعام ٢٠٢١، ما ينذر بجلاءٍ أن هذا العام سيكون الأسوأ على الأقصى المبارك. وقد بدأت هذه الاعتداءات بالتوازي مع احتفالات المستوطنين بعيد الفصح أبريل الماضي، واقتحام ٣٤٣٠ مستوطنًا باحات الأقصى المبارك، بزيادة قوامها ٣٢٪ مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. وكالعادة، صاحب هذه الاحتفالات أداء طقوس استفزازية، ورفع علم الاحتلال داخل الأقصى، بقيادة عدد من الحاخامات الصهاينة المتطرفين، تمثل أبرزها في تكرار طقس أداء السجود الملحمي "الانبطاح" عند باب القطانين، ورفع علم الكيان الصهيوني داخل الأقصى... إلخ. وتعمُّد المستوطنين تكرار هذه الممارسات إنما يهدف إلى ترسيخ فكرة أن الأقصى مكان مقدس لليهود، يحق لهم إقامة طقوسهم الدينية بداخله، وما يترتب على ذلك من مطالبتهم بتقسيم المكان مكانيًّا وزمانيًّا، حتى يتمكنوا من ممارسة طقوسهم الدينية من وجهة نظرهم.

دور منظمات الهيكل في الحشد والتحريض

تتخذ "منظمات الهيكل" المتطرفة من سياسة التحريض على اقتحام الأقصى وسيلةً للحضور بقوة على الساحة الصهيونية؛ فقد شهد النصف الأول من العام قفزة ضخمة في نشاط تلك المنظمات التي تنشط لفرض تقسيم زماني ومكاني داخل الأقصى المبارك. وأبرز المؤشرات على ذلك، ارتفاع أعداد مقتحمي الأقصى نتيجة عمليات التحريض الميدانية والإلكترونية الواسعة، فضلاً عن دور هذه المنظمات في الحشد على نطاق واسع للمشاركة في العدوان على الأقصى في خلال الاحتفال بأعياد الفصح التي تزامنت مع الأسبوع الثالث من شهر رمضان المبارك؛ في مسعى لإثبات التفوق داخل الأقصى عند تزامن المناسبات الإسلامية مع المناسبات الصهيونية.

ولضمان حشد أكبر عدد ممكن وفرت هذه المنظمات ميزات مجانية شملت النقل، وتوفير مرشدين داخل الأقصى، وغيرها. كذلك تقدمت هذه المنظمات بطلب إلى "إيتمار بن جفير"، وزير الأمن القومي للكيان الصهيوني، للحصول على تصريح بتقديم قربان "الفصح" داخل الأقصى. ثم تطور الأمر إلى الدعوة لمنع المسلمين من دخول الأقصى في هذه الفترة، والإعلان عن تقديم مكافآت مالية كبيرة لمن يستطيع إدخال القرابين الصهيونية وذبحها داخل ساحات الأقصى؛ تراوحت ما بين ٥٠٠-٢٠ ألف شيكل أي ما يعادل نحو ١٤٠-٥٥٠٠ دولار أمريكي، على غرار ما حدث في العام ٢٠٢٢، لكن مع مضاعفة المكافآت. كما نُفِّذت محاكاةٌ لتقديم تلك القرابين قرب أسوار الأقصى.

 

الدعم الحكومي

تحظى عمليات المنظمات الصهيونية المتطرفة للحشد والتحريض على اقتحام الأقصى، بدعم شامل من حكومة "بنيامين نتنياهو" التي تعد واحدة من أشد الحكومات الصهيونية تطرفًا. هذا الدور الذي لا يقتصر على مجرد التأمين أو التمكين فقط، بل تعدى ذلك - في حالات ليست بالقليلة- إلى تقدم بعض المسئولين جموع المقتحمين، بما يؤكد حقيقة أن هذه المنظمات ليست سوى أداة يستخدمها الكيان الصهيوني للحصول على أهداف معينة. وبصفة عامة يمكن القول: إن الدور الرسمي الحكومي تضاعف منذ تشكيل حكومة نتانياهو، مطلع العام ٢٠٢٣ بمشاركة عدد من المتطرفين أمثال "إيتمار بن جفير" و "بتسلئيل سموتريتش" في انتهاكات الأقصى، والتحريض على مزيد من الخطوات الفعلية في السيطرة عليه، وبناء الهيكل المزعوم. وقد استهل "إيتمار بن جفير"، وزير الأمن في الحكومة الصهيونية، أعماله باقتحام الأقصى بتاريخ ٣ من يناير ٢٠٢٣، وطالب في تصريحات تحريضية بتغيير الوضع الراهن في الأقصى، مؤكدًا في الوقت نفسه أنه سيجدد اقتحامه المسجدَ الأقصى خلال الفترة المُقبلة. وبالفعل عاود الاقتحام للمرة الثالثة منذ بداية عام ٢٠٢٣.

في السياق ذاته، تقدم "عميت هاليفي"، عضو الكنيست المتطرف، بمشروع مخطط تقسيم الأقصى المبارك، الهادف إلى تقسيم المسجد زمانيًّا ومكانيًّا؛ تمهيدًا لإحكام السيطرة الصهيونية عليه. ويقضي المخطط بتخصيص المُصلى القبلي، ومحيطه جنوبي الأقصى للمُسلمين، ومسجد قبة الصخرة، ومحيطه حتى الحد الشمالي للأقصى لليهود، وهو المكان المزعوم للهيكل. كما يشتمل المخطط على شق سياسي يدعو إلى إنهاء الوصاية الأردنية، المتمثلة في دائرة الأوقاف الإسلامية، على الأقصى المبارك، ورفع كل القيود المتعلقة باقتحام المسجد، بما في ذلك السماح للمستوطنين باقتحامه في كل وقتٍ من كل أبوابه، وإقامة الصلوات اليهودية جهرًا. وهذا أخطر المخططات الصهيونية تجاه الأقصى؛ إذ تنص المسودة التفصيلية على إعادة تعريف الأقصى المبارك كونه مبنى المصلى القبلي فقط، وتصف تقديس المُسلمين لكل ما دار عليه سور الأقصى بأنه "مؤامرة لحرمان اليهود من مقدسهم"، ولذا تطالب بتخصيص المنطقة الوسطى والشمالية –أي قبة الصخرة ومحيطه- من المسجد للمستوطنين.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكيان الصهيوني بدأ في بعض الإجراءات التي تستهدف السيطرة على مصلى "باب الرحمة" تحت وطأة إصرار منظمات الهيكل المتطرفة على تخصيصه مصلى لليهود، تمهيدًا للسيطرة على الأقصى المبارك كاملًا، ومن ذلك: تعرض المصلى لعدة اقتحامات من قوات الاحتلال، كان أبرزها في ١٤ من يونيو ٢٠٢٣، إذ اقتحمته قوات تابعة لمخابرات الاحتلال، وأخرجت الحارس التابع للأوقاف الإسلامية منه، وتكرر الاقتحام في أول أيام عيد الأضحى المبارك، الموافق ٢٨ من يونيو ٢٠٢٣، فاعتقلت قوات الاحتلال ٥ فلسطينيين من داخل المُصلى، وهو الاقتحام الذي جاء بعد يوم واحد من تقديم شرطة الاحتلال طلبًا إلى المحكمة الصهيونية في القدس لتمديد أمر الإغلاق بحق مصلى "باب الرحمة".

 

استهداف دور الأوقاف الإسلامية

بالتوازي مع الإجراءات السابقة، دفعت حكومة الاحتلال باتجاه استمرار تقييد دور الأوقاف الإسلامية والدور الأردني، والسيطرة على إدارة الأقصى، وما يترتب عليه من استباحته، وفتح أبوابه على مصراعيها أمام تدنيس المستوطنين، وتحقيق مطالبهم في تخصيص كنيس لهم في موضع مصلى "باب الرحمة". ومن هذه الإجراءات يمكننا الإشارة إلى ما يلي:

  • منعت سلطة الاحتلال أعمال الترميم في الأقصى بالتوازي مع تزايد الحفريات والأنفاق في محيط الأقصى؛ ما أدى إلى تسرب مياه الأمطار إلى المصلى المرواني، وغرق سجاد المصلى في أماكن متفرقة. كما ظهرت انهيارات جديدة لبعض البلاط قرب باب الغوانمة، وتساقطت حجارة من الجهة الخارجية لمصلى قبة الصخرة.
  • نشرت صحيفة "ماكور ريشون" الصهيونية رفض الاحتلال مطلبًا أردنيًّا بزيادة عدد موظفي الأوقاف الإسلامية في الأقصى، معللًا رفضه بأن الوضع القائم به لم يتغير، زاعمًا أن اقتحام وزيره "بن جفير" -في يناير ٢٠٢٣- لا يعد تغييرًا للوضع الراهن في الأقصى.
  • الاستمرار في سياسة اعتقال حراس الأقصى، وإبعادهم عن المسجد لفترات متراوحة حال اعتراضهم على استفزاز المستوطنين عند تنفيذهم الطقوس التي لا تتناسب مع قدسية المكان.
  • منعت شرطة الاحتلال السفير الأردني، "غسان المجالي"، من دخول الأقصى؛ إذ اعترض أحد أفراد شرطة الاحتلال طريقه، ومنعه من الدخول بحجة عدم التنسيق. وهذه الواقعة كاشفة تمامًا لنهج الاحتلال الصهيوني في التعامل مع الأقصى بوصفه مقدسًا يهوديًّا يخضع لإدارته دون سواه، وهو الأمر الذي رفضه الأزهر لأنه يمس الوضع القائم داخل الأقصى المبارك.

الصمود الفلسطيني

رغم الوضع المحزن الذي يمرُّ به الأقصى جراء تلك الاقتحامات والانتهاكات، وجراء أعداد المستوطنين الآخذة في الازدياد عامًا تلو آخر، فإن المعول الوحيد للحفاظ على أولى القبلتين هو صمود أبناء الشعب الفلسطيني المرابطين داخل الأقصى الشادِّين رحالهم إليه، المدافعين عنه بدمائهم وأرواحهم، إنهم الصخرة التي دائمًا ما تتحطم عليها هواجس الصهاينة، وأمانيهم منذ احتلال مدينة القدس عام ١٩٦٧.

ونجد الابتكار وتطويع الإمكانيات -على قِلَّتها- حاضرًا في فعاليات الدفاع عن الأقصى المبارك من جانب رواده، والمرابطين بداخل مصلياته وساحاته المباركة، من دعوات لشد الرحال، وإطلاق الحملات المختلفة لشد الرحال إليه، والرباط بداخله. وتتجلى أبرز صور الحشد داخل الأقصى المبارك في صلوات الجُمَع على مدار العام، إذ يؤدي صلاة الجمعة من كل أسبوع ما بين ٤٥ و٥٠ ألف فلسطيني داخل باحات الأقصى المبارك، أي إن عدد المصلين في الجمعة الواحدة يقترب من ضعف عدد المستوطنين الذين يدنسون ساحاته طوال عام كامل، وهي رسالة واضحة للاحتلال مفادها أنه لا مكان لكم في الأقصى.

وكان من أبرز صور الصمود الفلسطيني خلال الأشهر الستة الماضية ما يلي:

  • إجبار حكومة الاحتلال على اتخاذ قرار بوقف اقتحامات المستوطنين في العشر الأواخر من شهر رمضان، رغم المطالبات بعدم إغلاقه كما جرت العادة منذ عام ٢٠١٣، وذلك بسبب التصريحات المتطرفة الصادرة عن وزير الأمن الصهيوني، "إيتمار بن جفير"، الذي وصف قرار الإغلاق بأنه "خطأ كبير".
  • بعث الفلسطينيون رسالة إلى العالم أجمع، مفادها أن الأقصى وقف إسلامي خالص، ليس به موطئ قدم لصهيوني واحد؛ وذلك بعدما صلَّى في الأقصى أكثر من ٤ ملايين مصل على مدار أيام شهر رمضان ١٤٤٤ه، في رقم وصفه مدير عام الأوقاف في القدس، بغير المسبوق مقارنة مع السنوات الماضية.
  • إطلاق وَسْم #لن_يقسم في يونيو ٢٠٢٣؛ لتكثيف الحضور والرباط داخل الأقصى المبارك، والتصدي لعربدة المستوطنين، وتدنيسهم المسجد، ومخططات التقسيم.
  • إطلاق مبادرة "قناديل الرحمة" التي تقوم على تلاوة جزء من القرآن الكريم في مصلى باب الرحمة؛ هادفة إلى إعمار المُصلى، وحمايته من خطر الإغلاق، والسيطرة الصهيونية عليه.

وفي ختام التقرير، يشدد مرصد الأزهر على أن المسجد الأقصى المبارك بمساحته الكاملة، هو حق حصري للمسلمين وحدهم، مؤكدًا رفضه القاطع لأي مخططات صهيونية تستهدف تقسيم الأقصى المبارك، مجددًا دعوته المستمرة لاتخاذ موقف إسلامي موحد للدفاع عن المسجد المبارك، والذود عنه أمام الإرهاب الصهيوني الذي لا يُراعي حرمة ولا قداسة لدور العبادة والأماكن المُقدسة.

 

 


رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.