القضية الفلسطينية

 

14 مارس, 2024

غزة... أما لهذا الليل من آخر؟! (1)

     إنه لشيء عُجاب أن تنطمس بصيرة العالم حيال معبر رفح المفتوح على الدوام من جانبه المصري حتى يفكر في إنشاء رصيف بحري أمريكي على ساحل غزة بغية تمرير المساعدات الإنسانية! بل صاحب ذلك ادعاءات متهافتة المنطق، مريضة الغاية، لتحميل مصر تبعات "إغلاق مزعوم" للمعبر. وأعجب من كل هذا أن تجد هذه المزاعم الرخيصة صدى في نفوس بعض العرب والمصريين – إما بدافع من التعاطف أو الجهل أو الإغراض. لذا أبتغي من هذه الأكتوبة تجلية الصورة في هذا الصدد في نقاط محددة؛ مع محاولة استشراف آفاق الحل "البحري" المقترح وما يكتنفه من مخاطر.

أولًا: مصر لم تغلق المعبر البتة، هذا ثابت على أرض الواقع بالزيارات الميدانية والتصريحات الرسمية وبشهادات الصادقين من الداخل والخارج.

ثانيًا: فتح المعبر شيء وإلزام دولة الاحتلال بالسماح بتمرير المساعدات شيء آخر... فإذا قلت: مصر مسئولة عن حصار غزة فهذا يجعلك تسوي بين مصر وإسرائيل، ولا يقول بذلك إلا مُغرض (في أحسن وصف). وإذا قلت: هذا معبر بين مصر وغزة ولا يلزم الاتفاق مع إسرائيل لتمرير المساعدات... فهذا يعني أنك برّأت إسرائيل من جريمة الاحتلال والحصار! أما الكلام الأشد قبحًا عن وجود "تسعيرة" لعبور الفلسطينيين من غزة إلى سيناء بقيمة خمسة أو عشرة آلاف دولار للفرد الواحد فهو حقًّا أهون وأجهل من أن يستحق ردًّا: فلو كان الفلسطينيون بهذا الثراء في غزة ويعبرون بالآلاف حسب هذا الزعم فالواجب شكر إسرائيل! إذ كيف لشعب محاصَر ومحتَل أن يكون عامة أفراده بهذا الثراء الفاحش؟! حقًّا: قليل من العقل يقي من الانزلاق إلى مهاوي الحماقة! ومن الحماقات أيضًا أن تجد قائلًا يقول: اسمحوا بإدخال سائقين من حماس لقيادة شاحنات المعونات عبر المعبر؟ وكأن الإشكال في عدم توفر سائقين! وما كانت حماس لتستغني عن كوادرها بهذا الشكل لعلمها اليقيني باستهدافهم حال عمل ذلك... فضلاً عن أن مصر لا تسمح بشيء من هذا؛ وقد كانت القيادات الحمساوية تتردد على مصر وما طلبت شيئًا كهذا من مصر... فمثل هذه الادعاءات إنما تُستغَل لإثارة العواطف وتهييج المشاعر عند العامة. وأسخف منها قول أحد الهاربين إلى تركيا إن "أقل الرجولة" تقتضي تفريغ الشاحنات عند المعبر وتركها للفلسطينيين كي ينقلوها يدويًا! تخيل معي أن خمسة أفراد -مثلاً- عليهم أن ينقلوا حمولة شاحنة قوامها ٧٠ طنًا... كم يستغرقهم ذلك؟ أربعة أيام؟ أي إن الحل المقترح يصب حقيقةً في سبيل إغلاق المعبر؛ بل سدّه! العجيب أن أصحاب هذه المقترحات يظن فيهم البعض نبلًا وعقلًا!

ثالثًا: كشأن كل شيء تقريبًا في القضية الفلسطينية، اتفاق تشغيل المعابر التي تربط غزة بالعالم نُقِض منذ سيطرة حماس على القطاع... وظل الأمر الواقع هو السيد والحَكَم... فمن شاء تنظيرًا فليضع كل الأطراف أمام مسئولياتها.

رابعًا: المساعدات تعبر من مصر إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم (كيرم شالوم) للتحقق من خلوها من الأشياء الثنائية الاستخدام.

خامسًا: مصر قدمت ٨٠ في المائة من المساعدات العالمية لغزة، في ظل ضغوط اقتصادية تمس الجميع.

سادسًا: مصر لها معبر حدودي واحد مع غزة (معبر رفح، وهو مخصص للأفراد، لا لحركة البضائع!)؛ ولإسرائيل ستة معابر مع غزة... فإلزام مصر بتحمل مسئولية غزة ما هو في حقيقته إلا إعفاء للمحتل من مسئولياته القانونية والأخلاقية والسياسية والعسكرية.

سابعًا: التسامي على التعنت الإسرائيلي عبر إسقاط المساعدات جوًّا هو حل مؤقت وغير كاف؛ لكن ما لا يُدرك كله، لا يُترك جله.

ثامنًا: الكلام عن فرض إدخال المساعدات برًّا يعني استهداف السائقين المصريين والشاحنات المصرية؛ وهو ما يعني إعلان حالة حرب بين البلدين. والمبتغى درء الحرب، لا توسيعها.

تاسعًا: القول بنجدة الأخوة -عسكريًّا- حق يراد به دماء؛ فمن أراد النجدة عليه أن يُشرك إخوته المستنجد بهم في قراره وتخطيطه؛ فإذا عزف عزفوا. المسئولية نزول إلى الواقع، ونزال مع المقارِع، وتنازل عن رفيع المواقع، ومشاورة مع "المَراجع"، واتقاء لوخيم المَصارِع. ونقيض ذلك اتباع أهواء إقليمية، والزعم بالانطلاق من حاضنة بشرية.

تاسعًا: من قال بوجوب الحرب (الجهاد) فعليه أن يستجلي أحوال الأمة؛ وأن يسأل عن الجوار المباشر من أهل القضية ثم عن أكنافهم تباعًا؛ فإذا هبّوا، اتسعت الهبة... الأولى فالأولى!

عاشرًا: أتساءل عن فلسطينيي الداخل ودورهم، سواء أكانوا في الأرض المحتلة أم من عرب ٤٨؛ مهما كانت ضغوط "جنسية الاضطرار"!

حادي عشر: كل دقيقة تمر بغير توحيد كلمة الفلسطينيين هي خصم من حاضرهم ومستقبلهم؛ وكل من أقسم ألا يغيب عن الساحة السياسية الفلسطينية فجدير بالإقصاء الوطني الشعبي، وكل من قدَّم المصلحة العامة على المصلحة التنظيمية والتبعية الإقليمية فجدير بالتقديم.

ثاني عشر: بنيامين نتنياهو هو أطول من خدم في رئاسة وزراء إسرائيل، وقد انتهج نهجًا على مدار ٢٠ عامًا تقريبًا قام على ما يلي: (١) ترسيخ الانقسام الفلسطيني، (٢) إجهاض مقومات الدولة المأمولة بالانتقاص من أراضيها وتجزئتها، (٣) احتضان "الباحثين عن دور" في المنطقة، والسماح لهم (دون سواهم) بإدخال أموال ترسيخ الانقسام إلى غزة.

ثالث عاشر: كل خطوة تُخطى في القضية الفلسطينية دون رضا مصري هي خصم من رصيد القضية؛ فلا أحد في هذه الدنيا يحفظ مقتضيات القضية ويصون عهدها بتجرّد سوى مصر – أقولها وأنا من يبشّر بعدمية الأحكام الإطلاقية!

رابع عشر: لم تكف إسرائيل يومًا عن اتهام مصر بالمشاركة في تمرير السلاح إلى القطاع؛ وأنها سبب في عملية "طوفان الأقصى". فما يجري الآن تشويه للدور المصري، وسعي إلى طمسه بإيجاد منفذ بديل بإشراف إسرائيلي أمريكي أوروبي للتخلص من "أزمة غزة".

خامس عشر: سكان القطاع اليوم ٢.٣ مليون نسمة، وبحلول ٢٠٣٠ سيصبح ٣ ملايين نسمة... فلا بد من "حلول" نهائية أو شبه نهائية بمساعدة الداعمين.

سادس عشر: المساعي الإسرائيلية للتخلص من "العبء السكاني" الفلسطيني يتخذ أكثر من اتجاه: (١) تنغيص الحياة بما يحول دون كثرة الإنجاب (طوعًا أو كرهًا)؛ (٢) القتل؛ (٣) السَّجن على النية (ما يسمى بالاحتجاز الإداري)!؛ (٤) السعي في استصدار تشريع أمريكي يُلزم متلقي المعونات الأمريكية بتوطين الفلسطينيين لديها؛ (٥) ما يعلنه الفلسطينيون من تدابير إسرائيلية لاستهداف القدرة الإنجابية لدى الفلسطينيات بوسائل متطورة؛ (٦) استحضار الضغوط الدولية (الأمريكية بالأساس) في اتفاقيات التطبيع المتوسعة مع أطراف إقليمية ودولية للقبول بتهجير الفلسطينيين إلى الدول المطبّعة؛ (٧) مواصلة الضغوط على دول الجوار (لا سيما مصر والأردن) للقبول بالتهجير ولو جزئيًّا؛ (٨) استنفار يهود العالم إلى الهجرة إلى أرض الميعاد المزعومة، بل الحكم الديني بيهودية قبائل ليست يهودية (الهند وإثيوبيا من أظهر الأمثلة) لإحداث التوازن الديمغرافي العزيز على دولة الاحتلال؛ (٩) فصم عرى الاتصال مع الفلسطينيين (بالحصار الاقتصادي) واستبدال العمالة الفلسطينية (وهي بعشرات الآلاف) في إسرائيل بأخرى هندية وجنسيات أخرى؛ (١٠) مواصلة الدعاية الدينية المقيتة لاستدامة التنشئة على الكراهية؛ ويقيني أن اليهودية في حقيقتها براء من ذلك الكذب البواح، فما كان الله ليوحي بالضر! (١١) السعي إلى استدامة الحضور الصهيوني وتنزيهه عن النقد، ومن ذلك التمهيد الإعلامي المكثف لسن قوانين في عواصم القرار الدولي تساوي بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية؛ (١٢) اتخاذ أجساد الفلسطينيين حقل تجارب (بتجربة الأسلحة، وسرقة الأعضاء وبيعها، وسرقة الجلود البشرية لبحوث مكافحة سرطان الجلد، وغير ذلك)؛ (١٣) الترهيب الشديد والقتل النفسي لأطفال فلسطين ليكونوا وبالًا على أنفسهم – فمن صحّ عقله صحّ مستقبله؛ والعكس صحيح؛ (١٤) الإبادة الثقافية باستهداف معالم التاريخ والمسيحية والإسلام والأرشيف في أرجاء الأراضي الفلسطينية؛ (١٥) مواصلة جهود التهويد في كل مجال – بسرقة التاريخ والتراث والأرض واستقراب بناء الهيكل المزعوم، وما إلى ذلك.

سابع عشر: إسرائيل -بكل ما سبق- تسعى إلى الخلاص من مشكلاتها بالهروب بعيدًا عن إحقاق الحق التاريخي القانوني للفلسطينيين، وإذا وجدت عونًا من الشركاء فهي بذلك تصفي مشكلاتها إلى غير رجعة – فلماذا يستمر الشركاء في الدعم إذًا؟! فالتقدير أن إسرائيل لن تسعى إلى الخلاص كليًّا من "العبء الفلسطيني".

ثامن عشر: المسار البحري بين قبرص الأوروبية وبرصيف عسكري أمريكي قد يعني تهجير الفلسطينيين شيئًا فشيئًا على المديين المتوسط والطويل من غزة؛ والفارّ بحياته غير ملوم! بذلك يتأتّى لإسرائيل التخفف ولو جزئيًّا من العبء السكاني الموشك على الانفجار، وتأجيل المشكلة لسنوات إلى جيل قادم.

تاسع عشر: لدى إسرائيل عقيدة مفادها عدم طمس المخاوف الأمنية في الداخل؛ وألا يكبر جيل دون خوض حرب، فتلك سلبيهم إلى استدامة اليقظة، ومعرفة حقيقة "التضحيات"، ومواصلة اليقظة البحثية العلمية للتفوق.

عشرون: دوائر دعم إسرائيل في الخارج مستنفرة أشد الاستنفار دفاعًا عن مصالح الامتداد الجغرافي السياسي للإمبريالية الغربية التي زرعت قاعدة متقدمة لها تنوب عنها في أمور وتخلصهم من "المسألة اليهودية" التي أرهقت دول الغرب دهورًا.

أما الاحتمالات الممكنة لمآلات الرصيف البحري فموضوع المقالة المقبلة (غزة... أما لهذا الليل من آخر؟! (٢)).


رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.