القضية الفلسطينية

 

15 مارس, 2024

غزة... أما لهذا الليل من آخر؟! (٢)

     استكمالًا للحديث عن مآلات الوضع في غزة، ترصد هذه الأكتوبة المستجد الأحدث في سلسلة المستجدات المتلاحقة في القطاع منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٤ – ألا وهو اتخاذ القرار بإنشاء رصيف بحري أمريكي لإيصال المساعدات إلى الغزيين. وها هي السفينة الأولى (إسبانية) تبحر من قبرص باتجاه غزة. والسؤال، ما الداعي إلى ذلك؟

التفاصيل بركان خامد، فإذا استُحضِرت انفجرت! لكن استقراء الأوضاع يوحي بإجابة متعددة العناصر: (١) غسل السمعة السيئة للدول الأوروبية والولايات المتحدة بسبب الدعم المطلق لدولة الاحتلال؛ (٢) تخويف بعض العناصر القانونية في تلك الدول سياسييها من مآلات المحاكمات ولو في المستقبل البعيد بسبب الاشتراك في -أو الصمت على- جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية في غزة؛ (٣) تهدئة غضب الجاليات العربية / المسلمة في تلك الدول مع اقتراب مواسم الانتخابات الكبرى في غير دولة منها، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ (٤) محاولة تجميل صورة الحليف المحتل، فلا شيء يكون بغير موافقته! (٥) اكتساب موقع ميداني متقدم بعتاد عسكري مدعوم بإمكانات التجسس والرصد؛ (٦) إشراك الولايات المتحدة -من المنظور الإسرائيلي- في عمليات غزة، ما يعني زيادة الدعم (الوافر أصلًا) بوجود عسكري مباشر على الشاطئ الغزي، لا في القواعد العسكرية الإسرائيلية ولا غرف الاستخبارات فحسب؛ (٧) إرسال رسائل التهديد المبطن للقوى الدولية والإقليمية التي تستغل الأحداث الجارية في فرض مخططاتها أو تشويه الغرب؛ (٨) تكثيف الحضور العسكري الأمريكي في منطقة هي من "مخانق" مسارات التنمية التي تدور حولها حرب ضروس في الخفاء وفي العلن بسبب تباين المسارات والأهداف بين محور الصين ومحور الولايات المتحدة؛ (٩) فرض أمر واقع في غزة بعودة شكل من أشكال الحضور الأجنبي فيها؛ (١٠) استحضار الوجود الأمريكي المباشر في أية ترتيبات مستقبلية لغزة؛ (١١) استباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية بفرض أمر واقع عسكري على الإدارة المقبلة (التي تشير الإرهاصات الأولى إلى أنها لن تكون ديمقراطية!)؛ (١٢) اجتزاء قطاع من ساحل غزة وتحويل أية أنشطة بحرية غزاوية إلى نطاق معين تتيسر معه أعمال المراقبة والاستهداف – إن لزم الأمر؛ (١٣) تعضيد الردع المسبق لأية محاولة لتكرار الهجوم من البحر على إسرائيل كما حدث في عملية "طوفان الأقصى"؛ (١٤) فرض واقع جديد يُستَغَل في مفاوضات التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لغزة (التي أصرت مصر -بشرف ونزاهة- على احترامها واقتناص حق التنقيب فيها لمصلحة الفلسطينيين)؛ (١٥) زيادة التأمين لأية ترتيبات تتعلق باتفاقيات الغاز في شرق المتوسط، لا سيما في ظل الخلاف المحتدم بين إسرائيل ولبنان على حقوق التنقيب وملكية الآبار، واتجاه إسرائيل إلى فرض الأمر الواقع في هذه المسألة أيضًا؛ (١٦) استكشاف آفاق الاستغلال الجغرافي لهذه المنطقة في ظل الحديث عن أفكار للتهجير، يعقبها إنشاء ميناء إسرائيلي على ساحل غزة بعد تفريغها من السكان؛ (١٧) الدراسة الميدانية لجدوى مسار التنمية الأمريكي من شبه القارة الهندية مرورًا بالدول العربية الخليجية ووصولًا إلى إسرائيل – ومنها إلى أوروبا؛ (١٨) إحياء الشهية الإستراتيجية لمشروع الربط المباشر لنقل الغاز بين إسرائيل وأوروبا برعاية ومباركة وتمويل من أمريكا.

والسؤال التالي: هل تكف الفصائل الفلسطينية وغيرها من الفاعلين من غير الدول بالمنطقة عن استهداف إسرائيل أو الوجود الأمريكي المستحدث... خصوصًا في ظل اقتراب "موعد جس النبض" و"الاختبارات" – أي الانتخابات الأمريكية؟ الإجابة المتوقعة: كلا! ولعل هذا من مصلحة إسرائيل، بل لا أبالغ أن أقول: إن إسرائيل قد تستفيد من ذلك... بل قد تستدعيه إن لزم الأمر. وليس أدلّ على ذلك من واقعة سفينة "الحرية" العسكرية الأمريكية (USS Liberty) التي استهدفتها إسرائيل عمدًا في ٨ من يوليو ١٩٦٧ وهي قابعة في المياه الدولية بالبحر المتوسط على بُعد ١٥ ميلاً من سواحل شبه جزيرة سيناء، لا لشيء إلا لتحقيق مكاسب إسرائيلية ولو على حساب دماء الحليف الأول وكرامته!

فما الذي حدث؟

راقبت الطائرات الحربية الإسرائيلية سفينة الحليف الأمريكي على مدار ٨ ساعات، وحلقت فوقها ٩ مرات على ارتفاع ٨٠ مترا – وهو ارتفاع يكفي للرؤية الواضحة بالعين المجردة! ثم قصفت الطائرات الإسرائيلية السفينة فقتلت ٣٤ بحارًا أمريكيًا وأصابت ١٧٤ آخرين. استمر الهجوم لساعتين، أي لمدة تناهز مدة الهجوم الجوي الياباني على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر وأفضى إلى دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بكل قوتها.

اشترك في الهجوم ١٢ طائرة إسرائيلية من طراز ميراج؛ وأحدثت ٨٢١ إصابة في السفينة الأمريكية، ثم دخلت زوارق حربية إسرائيلية على خط النار وأطلقت ٥ طوربيدات باتجاه السفينة الأمريكية، وأردفت ذلك بفتح نيران مدافعها الرشاشة على السفينة. وبعد الدقائق الأولى من الهجوم ظن البحارة الأمريكيون أن الهجوم انتهى، فأنزلوا ٣ قوارب إنقاذ إلى الماء لإجلاء المصابين، فعاجلتها الزوارق الإسرائيلية بالنار من مسافة قريبة... تخلل كل ذلك استغاثات ونداءات من البحارة الأمريكيين، لكن أنى يُستجاب لهم – ولو من الحليف الذي ظنوا أنفسهم في مأمن منه! أمعن الإسرائيليون في الاستهداف بالتشويش أيضًا لمنع استغاثات البحارة من بلوغ الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط، لكن بعضها وصل بالفعل، وهبّ الأسطول لنجدة بحارته.

وكالعادة، سعت الدولة المصطنعة إلى التنصل من الهجوم وإلصاق التهمة بمصر، لكن كل المعطيات السالف بيانها أكدت ضلوعها المتعمد في الهجوم؛ فطوت أكذوبة اتهام مصر وبدأت في سوق حجة أخرى: أن الهجوم كان بالخطأ لأن قواتها ظنت السفينة الأمريكية هي نفسها السفينة الحربية المصرية "القصير" – علمًا بأن "القصير" من عشرينيات القرن العشرين، ولا وجه للمقارنة بينها وبين السفينة الأمريكية لا من حيث الشكل ولا الحجم. وكي ما تنطلي الخدعة، عاد الإسرائيليون إلى موقع الاستهداف بعد ساعة كاملة من ساعتي الهجوم، وعرضوا المساعدة؛ لكن البحارة الأمريكيين رفضوا وتمسكوا بحطام سفينتهم ١٦ ساعة إلى أن جاءت مدمرتان أمريكيتان لإجلاء الطاقم الذي صدرت له أوامر عسكرية مشددة بالتزام الصمت! ابتلعت أمريكا وجيشها وسياسيوها الغدر المتعمد، وقبلت تعويضًا هزيلاً قوامه ستة مليون دولار عن قتلاها (قارن هذا مثلا بالتعويض عن كل فرد في طائرة لوكيربي من القذافي!).

الحقيقة أنه لا وجه -من الناحية العسكرية المحضة- لقبول أعذار إسرائيل، فالجو كان صحوا، والتحليق ممكنا، والرؤية الواضحة في النهار قائمة، والاتصال اللاسلكي متاح... لذلك فالتكييف الحقيقي للواقعة هو رغبة إسرائيل في التخلص من السفينة الأمريكية المتخصصة في التجسس لتعمية حقائق التوسع في حرب النكسة، وحجم الانتصارات الإسرائيلية الميدانية، وجرائم التعامل مع أسرى الحرب من مصر، وإغراق كل ما تحصلت عليه سفينة التجسس الأمريكية عن أنشطة إسرائيل العسكرية التقليدية وغير التقليدية، والتمهيد للترويج لكذبة الهجوم السوري الذي أدى بإسرائيل إلى الدفاع عن نفسها واحتلال الجولان والضفة الغربية!

الشاهد في المقام أن المعطيات الحالية للحضور العسكري الأمريكي على ساحل غزة يستدعي القلق من كل الجوانب، ولا أيسر من افتعال الاستهداف والغدر تحقيقًا لأية مصلحة؛ ولعل في سعي إسرائيل إلى "شراء" ميناء في قبرص تمهيدًا لتفعيل جسر المعونات البحري ما يستدعي القلق أيضًا... فهذا التطويق الإسرائيلي للمشروع كله يُخرجه من دائرة حسن الغاية إلى هاوية التدبير بليل.

والخلاصة، أن استهداف أهداف عسكرية أمريكية سيجعل للأمريكيين ثأرًا مباشرًا مع غزة، وسيسهم في عكس مسار المزاج الأمريكي الذي أصبح أكثر قبولًا -بل انتصارًا- للقضية الفلسطينية وعدالتها، وسيعزز كل مساعي التهجير (انظر مقالتنا "غزة... أما لهذا الليل من آخر؟! (١)")، وإنفاذ مخطط التنمية الأمريكي السالف ذكره، وتفريغ الجهد الإسرائيلي إلى جهتي الخاصرة (الضفة الغربية) والرأس شمالًا (حزب الله). هذا نداء تحذير للفلسطينيين قبل أي أحد... الثباتَ الثبات! الوحدة الوحدة!


رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.