القضية الفلسطينية

 

16 مارس, 2024

لماذا يخطط الكيان الصهيوني لاستهداف رفح رغم دعواته السابقة للنزوح إليها؟

  • الأهداف الطويلة الأجل... كلمة السر في إصرار نتنياهو على ضرب المنطقة الحدودية
  • ضبابية معايير النصر لدى نتنياهو تطيل أمد العدوان وتجر المنطقة إلى حرب واسعة
  • الوعود السابقة لـ "نتنياهو" تؤكد أن العدوان على غزة ليست بدافع طوفان الأقصى... والدليل خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها رقم ٧٨
  • إظهار نتنياهو نفسه الآمر الناهي والمتحكم الوحيد في مسار الحرب بعد تزايد المعارضة الداخلية ومطالبات الإقالة

في منتصف أكتوبر ٢٠٢٣، فوجئ العالم بهجوم صهيوني استهدف المستشفى الأهلي المعمداني شمال قطاع غزة، متسببًا في مقتل وإصابة المئات من النازحين الذين كانوا يحتمون داخله من الضربات العسكرية الصهيونية، وذلك بعد تكرار أمر بالإخلاء في مخالفة صريحة للقانون الإنساني الدولي. وما لم يفقهه العالم حينها أن هذا الهجوم كان مجرد "جس نبض" لتتوالى بعده سلسلة أخرى من الهجمات والاقتحامات لأماكن يحظر القانون الدولي استهدافها - مثل المستشفيات ودور العبادة.

وهذا ما شاهدناه في خروج أغلب مستشفيات القطاع عن الخدمة فيما بعد وبقاء خمسة مستشفيات فقط تعمل بإمكانات بسيطة؛ نتيجة الحصار والقصف وقطع الكهرباء ومنع وصول المساعدات الإغاثية إليها رغم وجود الجرحى وآلاف النازحين داخلها، فضلاً عن المشاهد التي كشفت عمليات جرف لجثث تم التنكيل بها في ساحاتها.

وبعد مضي أكثر من أربعة أشهر على العدوان، يصدر الاحتلال أوامره بإخلاء منطقة رفح الحدودية مع مصر بعد أن باتت تأوي نحو مليون ونصف المليون نازح يعيش أغلبهم في الخيام بعد فرارهم من الضربات العسكرية الغاشمة في شمال القطاع ووسطه، وسط تساؤلات عديدة عن الوجهة التالية لهؤلاء النازحين بعد تدمير معظم مناطق القطاع... فإلى أين يذهبون، إلى القمر؟! كما قال مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي ساخرًا من دعوة الاحتلال. فأغلب المناطق الشمالية في قطاع غزة أصبحت مناطق "غير صالحة للسكن"، وفقًا لتقرير أصدرته مجلة "بوليتيكو" الأمريكية في ٢٣ من نوفمبر الماضي، حتى وصفت بأنها "مدينة أشباح كبيرة".

والملاحظ هنا أن منطقة رفح الواقعة في أقصى جنوب القطاع شهدت ضربات متفرقة، وهذا يذكرنا ببداية الهجوم الذي شنه الاحتلال على أهداف بعينها في غزة -كما سلفت الإشارة- كالمستشفى الأهلي المعمداني، ليتأكد لنا أن الأمر هو "جس نبض" لقياس ردات الفعل المحتملة من حلفاء الكيان، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، خصوصًا أن بعضها بدأ بالفعل في مراجعة الدعم المطلق للاحتلال ويطالبه بوقف إطلاق النار مع تزايد الاحتجاجات الشعبية في الداخل، وكذلك في دول منطقة الشرق الأوسط المحيطة بالقطاع والهيئات الدولية رفضًا للتوسع في العملية العسكرية التي اعتبر نتنياهو عدم تنفيذها مرادفًا "لخسارة الحرب"، مشددًا على تنفيذها حتى في حال التوصل إلى اتفاق للإفراج عن الرهائن مع حماس.

ومن الأهداف التي استهدفها الاحتلال في فبراير ٢٠٢٤ الحراسة الفلسطينية التي كانت ترافق قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة في رفح، وهو الخبر الذي مر مرور الكرام على آذان العالم، ما يدخله ضمن مؤشرات "جس النبض" كما ذكرنا.

ومع تحرك جنوب إفريقيا بطلب لفرض إجراءات عاجلة لحماية رفح، قوبل التحرك برفض من محكمة الأمم المتحدة التي رأت أن الإجراءات السابقة التي اتخذت الشهر الماضي (يناير ٢٠٢٤) في المرحلة الأولية من قضية الإبادة الجماعية كافية وأن على الكيان المحتل احترامها... فما هي آلية قياس هذا الاحترام مع تسجيل أكثر ٣٨٤٧ شهيدًا، من بينهم ١٣٠٦ طفلًا و٨٩٧ امرأة، إضافة إلى إصابة نحو ٥١١٩ شخصًا منذ صدور قرار محكمة العدل في يناير الماضي حتى الأسبوع الثالث من فبراير؟!

اكتفت محكمة العدل الدولية بوصف الوضع بـ"الخطير" للتدليل على ما قد يحدث في رفح، وطالبت بتنفيذ فوري فعال للتدابير المؤقتة المدرجة في قرارها الصادر في ٢٦ من يناير ٢٠٢٤.

وبهذا يكاد يتضح لنا رد الفعل المتوقع حال تنفيذ هجوم عسكري شامل على رفح، بكل ما يعنيه ذلك من وقوع ضحايا أكثر في صفوف المدنيين مقارنة بما حدث في شمال غزة؛ وذلك لعدة أسباب في مقدمتها صغر المساحة وكثافة السكان بها؛ إذ شكلت ملاذًا للفارين من ويلات الحرب والتجويع في الشمال والوسط.

 

لمحة من ماضي فك الارتباط

يحضُرُني من الماضي لحظة إعلان أرئيل شارون -رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق- في عام ٢٠٠٥ عن عزمه فك الارتباط مع غزة؛ أو بمعنى أبسط إنهاء أي وجود لكيانه داخل القطاع الفلسطيني، حينها كان يجلس بجواره بنيامين نتنياهو -رئيس الوزراء الحالي- وقد ظهرت ملامح الغضب والامتعاض على وجهه عندما تحدث شارون عن خطته للخروج من القطاع، ليأتي نتنياهو بعد مرور نحو ١٨ عامًا على تلك اللحظة ويعلنها صريحةً: "لن ننتهي قبل أن تحقق <إسرائيل> جميع أهدافها... لن نسحب الجيش <الإسرائيلي> من قطاع غزة، ولن نطلق سراح آلاف <الإرهابيين> -في إشارة إلى الأسرى الفلسطينيين- لن يحدث أي من ذلك. ما الذي سيحدث إذاً؟ النصر المطلق".

فتتوالى تصريحات قادة الحرب في الكيان في اتجاه واحد هو البقاء في القطاع الفلسطيني، فها هو وزير الدفاع الصهيوني "يوآف غالانت" يقول: "إن حملة الجيش <الإسرائيلي> العسكرية باقية طالما أنها تعتبر ضرورية". وكذلك هرتسي هاليفي، رئيس أركان الجيش الصهيوني، الذي أقر بأن الحرب في غزة ستستمر "لأشهر عدة".

وكذلك ما ذكره عضو مجلس وزراء الحرب الصهيوني، بيني غانتس – المنافس الأوفر حظًا لنتنياهو على رئاسة الحكومة: "سنواصل العمليات في شهر رمضان أيضًا". يضاف إلى ذلك مصادقة الكنيست على مشروع قرار تقدم به بنيامين نتانياهو لمواجهة ما وصف بـ"الإملاءات الدولية وإعلان دولة فلسطينية من جانب واحد".

هذا التطور قال عنه زعيم المعارضة الصهيوني، يائير لابيد، ردًا على حديث نتنياهو عن الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية: "لقد اخترعت تهديدًا غير موجود... ما الذي نتحدث عنه؟ لا يوجد مسئول واحد في العالم عرض اعترافًا أحاديًا بالفلسطينيين"، لافتًا إلى عدم وجود أي اقتراحات داخل الإدارة الأمريكية لاتخاذ هذا القرار.

جميع هذه التصريحات في حقيقتها مؤشرات تقودنا إلى طبيعة النصر المطلق الذي تحدث عنه رئيس الوزراء الصهيوني، ذو الطبيعة المطاطية التي لا أبعاد له - مثله في ذلك مَثَل حدود ما يسمى بـ "دولة إسرائيل" التي حتى اللحظة لم تضع خطوطًا واضحة لحدودها؛ رافضةً ترسيمها مع لبنان، رغم إقرار مجلس الأمن في ٣١ من أغسطس ٢٠٢٣ ضرورة انسحاب قوات الاحتلال من شمال قرية الغجر والمنطقة المتاخمة شمال الخط الأزرق.

إذا "صناعة العدو" الذي هو قائم بالفعل ومتمثل في الفلسطينيين وجيران الكيان، و"إثارة الخوف من المجهول – وهو أيضًا متمثل في قيام الدولة الفلسطينية"، و"المظلومية"، و"استحضار الماضي" المتمثل في المحرقة، وتطويع النصوص التوراتية خدمة لهذه السيناريوهات هو لعبة مفضلة لنتنياهو وحكومته المتطرفة والقيادات داخل الكنيست؛ لضمان استمرار حصولهم على الدعم الغربي سياسيًا وماليًا وعسكريًا على المدى الطويل وإفشال أية خطوة لقيام دولة فلسطينية واضحة الحدود.

 

الشرق الأوسط الجديد

بالعودة إلى تحركات الاحتلال ضد غزة -إن استبعدنا ما حدث في السابع من أكتوبر ضمن عملية "طوفان الأقصى"- نراها تتسق كثيرًا مع مواقف نتنياهو السابقة الذي أعطى وعدًا لشعبه بإمكانية تحقيق الازدهار دون سلام، واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية دون دفع أي ثمن داخليًا أو دوليًا، وهو التوجه الذي نراه اليوم حاضرًا بقوة على المشهد الغزاوي. وإلى جانب تلك الوعود، تعهد نتنياهو أيضًا بمحيط أمني حول غزة - وهو تعبير مرادف لكلمة احتلال لكن بأسلوب أكثر التواءً.

 

Image

الخريطة التي استعان بها نتنياهو لتوضيح تصوره لما يسمى بـ "دول الشرق الأوسط الجديد"

 

ما ذكرناه يقودنا إلى حقيقة جلية هي ضبابية معايير النصر "المتعمدة" لدى نتنياهو ووضعه أهدافًا غير عملية تقود إلى مزيد من العمليات العسكرية دون توقف؛ بما يضمن له الاستمرار في إدارة الكيان طالما لم تضع الحرب أوزارها.

 

لهذا، وبالرجوع إلى خطاب رئيس الوزراء الصهيوني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في افتتاح دورتها الثامنة والسبعين في العام الماضي (٢٠٢٣) (الذي أثار ضجة ما لبثت أن هدأت -كعادة الأمر- بعد رفعه خريطةً لم تحمل أية إشارة إلى دولة فلسطينية، علاوة على ما تضمنته كلمته من رسائل علنية وضمنية) نجد أن نتنياهو عمل على ربط مفهوم السلام بمعسكرين أحدهما خاص بالسلام الذي تنشده <إسرائيل> وفق رؤيته، والآخر يثير الحروب؛ وخص به الفلسطينيين وبعض الدول المجاورة مثل إيران ولبنان، مستعينًا في ذلك بنصوص توراتية في تعارض واضح مع خلفيته البعيدة عن التدين.

من المعلوم أن مؤسسي الحركة الصهيونية –الملحدين- دأبوا على استغلال الروايات التوراتية لجذب التعاطف وإثارة مشاعر المظلومية كما هو الحال في ربط عملية "طوفان الأقصى" بـ"المحرقة" بكونها أكبر خسارة لليهود بعدها، بهدف إثارة مشاعر التعاطف تجاه اليهود، وتأكيد أحقية اليهود في إقامة دولة لهم تنعم بالسلام بعد صراعات تاريخية طويلة، وهذا سبق أن سُجل في تاريخ الكيان الصهيوني المُضمحل عندما خاطب ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء للاحتلال، الكنيست بعد احتلال جيشه سيناء إبان العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦ قائلاً: "إن آلاف الجنود قد شاركوا في القتال في صحراء سيناء لأنهم تذكروا كيف قاد موسى أسلافهم في هذه الصحراء إلى جبل سيناء ليتلقى الوصايا العشر من الرب".

وهو ما طبقه نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما قال: "منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، خاطب زعيمنا العظيم موسى بني إسرائيل وهم على وشك دخول أرض الميعاد. وقال لهم إنهم سيجدون هناك جبلين يواجهان بعضهما البعض: جبل جرزيم، وهو الموقع الذي يحتوي على نعمة عظيمة، وجبل عيبال، وهو موقع سيكون مصدر نقمة عظيمة. قال موسى إن مصير الناس سيتحدد بالاختيار الذي اتخذوه بين البركة واللعنة. بقى هذا الخيار نفسه على مر العصور ليس فقط لبني إسرائيل ولكن للبشرية جمعاء. نحن نواجه مثل هذا الاختيار اليوم. وسوف نقرر معاً ما إذا كنا نتمتع ببركات سلام تاريخي من الرخاء والأمل اللامحدود أو نعاني من لعنة حرب مروعة، من الإرهاب واليأس".

يدرك نتنياهو جيدًا أن مصيره مرتبط بالنزعة الدينية بشكل أو بآخر سواء داخليًّا أو خارجيًا. فأما في الداخل فهو يباشر ذلك عبر مغازلة سياسيي اليمين المتطرفو وعلى رأسهم "إيتمار بن غفير" و"بتسلئيل سموتريش" - ذلك التيار المنبوذ داخل الكيان الصهيوني إلا أنهم بقاعدتهم الشعبية مكنوه من الوصول إلى حكومة يقودها في ظل هبوط شعبيته، وهو ما قاد في ما بعد الكيان إلى التمزق الداخلي على خلفية مشروع الإصلاح القضائي الذي دعمه هؤلاء، وغيرها من أمور.

أما خارجيًّا، فنتنياهو برسائله الدينية الملتوية يغازل ما يقرب من ربع سكان الولايات المتحدة  الذين لا يمكن الاستهانة بأصواتهم في الانتخابات الأمريكية. صحيح أنه لا يوجد إحصاء دقيق لعدد الإنجيليين، لكنهم يشكلون أكبر كتلة مسيحية في الولايات المتحدة، أي من ترعاهم الكنائس الإنجيلية في أمريكا، ومن المعروف أن الإنجليين يؤمنون بضرورة سيطرة <إسرائيل> على كامل الأراضي الفلسطينية لجمع اليهود بها تمهيدًا لتحقيق نبوءة عودة المسيح. إذ يؤمن كثير من الإنجيليين بأن المسيح سينزل إلى الأرض لينشئ مملكة الله التي ستستمر ألف سنة من السعادة، كما يؤمنون بأن <إسرائيل> هى العامل المسرع لأحداث نهاية الزمان، ولذلك يرون أن دعمها ينبغي أن يكون من ثوابت السياسة الأمريكية.

وهذا ما وضحته الكاتبة كانديدا موس (Candida Moss) في مقال نشرته مجلة "ديلي بيست" الأمريكية (DAILY BEAST) عن سر محبة الإنجيليين لـ <إسرائيل>، فتطرقت فيه إلى عدد من النقاط المثيرة للاهتمام منها مسألة افتتاح السفارة الأمريكية في القدس واختيار القس المعمداني روبرت جيفريس (Robert Jeffress) للصلاة في أثناء مباركة السفارة، والمعروف بآرائه التمييزية إزاء المسلمين؛ إذ وصف <إسرائيل> بأنها نعمة للعالم، واللافت في صلوات "جيفريس" غرقها في نوع معين من اللاهوت المسيحي اليميني الذي يعتقد أن إنشاء سفارة في القدس سيؤدي إلى العنف والدمار على نطاق كوني (عالمي).

وقد اعتبرت المجموعة الفرعية من الإنجيليين المعروفة باسم "التدبيريين" أن السفارة خطوة مهمة لتحقيق صراع الفناء المرتبط بعودة المسيح الذي يرتبط بإعادة بناء الهيكل اليهودي في القدس واستعادة دولة <إسرائيل>؛ إذ يتصور هؤلاء أن هجومًا عالميًا ضد <إسرائيل> سيقع في نهاية الزمان وأن إعادة بناء الهيكل هو فقط لتمهيد الطريق لهذا الصراع الأخير. وبالنسبة لجيفريس والمؤمنين بهذه النبوءات فإن العنف لا يشكل إزعاجًا أخلاقيًا لهم، إذ يعتبرون من لا يؤمن بمعتقداتهم الدينية ضمن "معسكر الشر"، بما في ذلك الأطفال.

ومن المفارقات المضحكة في الأمر –وفق ما ذكرته الكاتبة كانديدا موس في مقالها- فإن سفر الرؤيا الذي يقوم عليه نبوءة نهاية العالم تعود إلى القرن الأول وكتبت كرد فعل للتهميش الاجتماعي الذي عانت منه حفنة صغيرة من أتباع يسوع في آسيا الصغرى، ما يعني أن التنبؤات التي قدمها سفر الرؤيا خدمت وظيفة تطهيرية لأعضاء المجتمع وأنها حدثت بالفعل.

أما المقلق هنا هو أن بحث هؤلاء عن صراع الفناء ونهاية العالم دفعهم لتشجيع سيل الدماء الذي يجري على أرض فلسطين؛ وهو ما اعتبرته الكاتبة انحدارًا واضحًا في "الأخلاق المسيحية".

وعلى ذلك، فالأسلوب الديني الملتوي من رئيس حكومة الاحتلال يهدف إلى الضغط على الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من أجل عدم معارضته في أي من خططه الدموية في قطاع غزة، فعمليًا يشكل اللوبي اليهودي والإنجيلي قوة ضغط قوية تدعم ترشح بايدن لفترة رئاسية جديدة في ظل المنافسة الشرسة مع غريمه "دونالد ترامب" الذي يقاتل من أجل الفوز ويحظى بالفعل بثقة الإنجيليين بعد افتتاح السفارة الأمريكية في القدس إبان رئاسته للبلاد.

وهذا يفسر تصريحات نتنياهو ردًا على حديث الرئيس الأمريكي عن التوصل لوقف إطلاق النار بحلول الاثنين المقبل (٤ من مارس ٢٠٢٤)، قائلًا: "منذ بداية الحرب كنت أقود حملة دبلوماسية لمنع الضغوط الرامية إلى إنهاء الحرب قبل الأوان ولتأمين دعم قوي لإسرائيل... لقد حققنا نجاحًا كبيرًا... واليوم نـُشِر استطلاع للرأي أجرته جامعة هارفارد يظهر أن ٨٢٪ من الجمهور الأمريكي يؤيد <إسرائيل>".

 

لكن ماذا عن الداخل الصهيوني ولعبة الحرب؟!

قبل السابع من أكتوبر، كانت الاحتجاجات ضد قرارات نتنياهو الرامية إلى تقويض صلاحيات مؤسسات الكيان القضائية تتصاعد في الشارع، أي أن المجتمع كان منقسمًا على نفسه، لتأتي عملية (طوفان الأقصى) وتقدم حلًا سحريًا لمشكلات رئيس الحكومة الفاسد لإيجاد مخرج منها إلى جانب حشد الرأي العام في الكيان حول قضية واحدة تنسيهم فرقتهم.

تلك القضية ظهرت بوضوح إثر أحداث السابع من أكتوبر: ألا وهي التهديد الذي يشكله الفلسطينيون على هوية الصهاينة الوطنية وسلامتهم في كيانهم، خصوصًا مع إدراكهم أن هذا الكيان مقام على أرض ليست له وأن الأمر يتطلب تسوية حقيقية مع الفلسطينيين لكي ينعموا بأمان، وهو الأمر الذي بات مستبعدًا مع ارتفاع فاتورة الدم التي أراقها نتنياهو وجيشه في غزة، ولهذا بات المجتمع الممزق قبل السابع من أكتوبر أكثر ميلًا إلى اليمين الذي يمثله نتنياهو وأعضاء حكومته المتطرفة، وبخاصة مع انشغال الولايات المتحدة -الداعم الرئيس- للكيان المحتل في انتخابات الرئاسة التي تختلف هذه المرة في شدتها وتكهناتها عن السابق بسبب ملفات شديدة الحساسية لارتباطها بدول ذات ثقل عالمي - أي: روسيا، والصين.

لهذا من غير المرجح أن يجري الكيان الصهيوني حوارًا جادًا بشأن تسوية محتملة مع الفلسطينيين، أو تفعيل عملية السلام قريبًا، بل سترتكز المناقشات حول وقف مؤقت لإطلاق النار مع استبعاد قيام دولة فلسطينية في القريب، وذلك طالما استمر نتنياهو على رأس الحكومة الصهيونية التي تستمد قوتها من التيار الديني المتشدد في داخل الكيان وخارجه.

ونلفت هنا في نهاية حديثنا إلى أن عملية "طوفان الأقصى" أو "جدار أريحا" -كما أطلق على العملية المرتقبة لحركة حماس قبل عام من تنفيذها- كان الجيش والاستخبارات الصهيونية على علم بتفاصيلها بدقة. فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في تقريرها المنشور بتاريخ ٣٠ من نوفمبر ٢٠٢٣، أن المسئولين الصهاينة حصلوا على خطة حماس القتالية قبل التنفيذ بأكثر من عام، لكن مسئولي الجيش والاستخبارات استبعدوا مصداقية الخطة واعتبروها مفرطة في "الطموح" بسبب صعوبة التنفيذ. تناولت الوثيقة المكونة من ٤٠ صفحة نقاط الهجوم الوشيك من اجتياح التحصينات المحيطة بقطاع غزة إلى الاستيلاء على مدن صهيونية واقتحام قواعد عسكرية رئيسة، وهو المخطط الذي نُفِذ بالفعل في السابع من أكتوبر.

وقبل ثلاثة أشهر فقط من عملية "طوفان الأقصى"، حذر محلل في الوحدة ٨٢٠٠ بوكالة استخبارات الإشارات الصهيونية، من إجراء الحركة الفلسطينية تدريبًا مكثفًا لمدة يوم كامل يشبه ما ورد في المخطط، لكن تحذيراته قوبلت بالتجاهل، غير أنه أكد في رسالته الإلكترونية إلى المسئولين: "أنا أدحض تمامًا أن السيناريو خيالي... تدريبات حماس تتطابق تمامًا مع محتوى جدار أريحا، إنها خطة تهدف إلى بدء الحرب وليست مجرد غارة على قرية".

وقبل وثيقة "جدار أريحا" بسنوات، وتحديدًا في عام ٢٠١٦، جاء في مذكرة لوزارة الدفاع الصهيونية –حصلت عليها الصحيفة الأمريكية- أن حماس تنوي نقل المواجهة التالية إلى داخل الكيان المحتل، مع ترجيح أن يشمل الهجوم أخذ رهائن واحتلال "مجتمع إسرائيلي" مع استخدام الصواريخ لإلهاء جنود الاحتلال ودفعهم إلى المخابئ، واستخدام طائرات مسيّرة لتعطيل الإجراءات الأمنية على طول السياج الحدودي بين الكيبوتس الصهيونية وغزة لتبدأ عملية اختراق مقاتلي حماس المنطقةَ الفاصلة، وجاء في مقدمة الوثيقة الآية القرآنية: "ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ" صدق الله العظيم، وهي الآية نفسها التي استخدمت في بيانات الحركة منذ السابع من أكتوبر.

صُنِفت العملية "فشلًا استخباراتيًا" رغم علم الأجهزة الأمنية بتفاصيل العملية منذ عام أو يزيد، فعن أي فشل يتحدثون؟!

نضيف إلى ذلك ما كشفه موقع "ذا تايمز العبري" (The TIMES OF ISRAEL) في فبراير ٢٠٢٤ أنه في منتصف الليل قبل تنفيذ حماس عمليتها في السابع من أكتوبر، حدد مسئولو الاستخبارات الصهيونية أن العشرات ممن وصفوهم <بالإرهابيين> بقطاع غزة (في إشارة إلى مقاتلي حماس) أقدموا على تنشيط شرائح الاتصال الهاتفي (SIM) الصهيونية في هواتفهم، وبلغ عدد تلك الشرائح وفق الصحيفة ألف شريحة اتصالات في وقت واحد عند منتصف الليل.

ورغم إنكار الجيش الصهيوني وجهاز الأمن العام "الشاباك" ذلك، إلا إنهم قالوا: "تراكمت مؤشرات عديدة منها تفعيل عشرات الشرائح قُبَيل العملية". وأيًّا كان الرد الرسمي على ما نشر فإن المؤشرات التي تخصنا هنا هو وجود علم مسبق بفترة كافية قبل تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى، ليبقى السؤال: ما سبب التلكؤ الصهيوني في تأمين محيط قطاع غزة تأمينًا كافيًا؟!

ما طرحناه من رؤية يدعمه أحداث مشابهة سبقت حرب لبنان عام ٢٠٠٦، فقبل شهرين من قيام حزب الله بأسر جنديين صهيونيين في المنطقة الحدودية، كانت سلطات الاحتلال على علم بخطة حزب الله؛ ورغم ذلك اكتفت بتوجيه تحذير إلى دبلوماسيين أمريكيين وفرنسيين بأنها سترد بعملية عسكرية إذا نُفذت خطة حزب الله، وذلك دون وضع تحصينات كافية في المنطقة التي ذُكر أنها في مرمى الحزب اللبناني على خلاف ما حدث من قبل في نوفمبر ٢٠٠٥ عندما رصدت استخبارات الجيش الصهيوني خطط حزب الله وتمكنت من إنقاذ الموقف حينها –حسبما ذكر موقع هآرتس في تقريره المنشور بتاريخ سبتمبر ٢٠٠٦- إلا أن هذا الرصد كان عديم القيمة بعد الكشف عن الخطط الجديدة لحزب الله في يوليو ٢٠٠٦، بل تجاهلت الاستخبارات العسكرية الإشارات التي رصدت بهذا الشأن.

نشير هنا إلى أن رئيس الوزراء الصهيوني وقتها كان "إيهود أولمرت" الذي كان متهمًا أيضًا في قضايا فساد، ورفض الاستقالة من منصبه على خلفية فشله في تحقيق أهدافه من الحرب على لبنان المتمثلة في القضاء على حزب الله واستعادة الجنود الأسرى، وهي الأهداف التي وصفت حينها بأنها "مفرطة في الطموح ومستحيلة التحقيق"؛ وهو ما قاد إلى خسارة الاحتلال للحرب. هذا الوصف جاء في تقرير لجنة التحقيق الصهيونية التي شُكِلت عقب الحرب وصدر في ٢٣٠ صفحة، إذ كشفت التحقيقات أن أولمرت تعجل في قراره شن الحرب على لبنان في يوليو ٢٠٠٦ واتهمته بالإخفاق الذريع في "التقدير وتحمل المسئولية والتعقل".

وبعد ما استعرضناه في تقريرنا، يبقى سؤالنا المطروح: هل فوجئ الكيان الصهيوني بعملية "طوفان الأقصى"؟ وهل تصنف فشلًا استخباراتيًا حقًا؟! نترك القارئ ليستنتج الإجابة بنفسه بعد قراءته ونوقن أنه سيصل إلى إجابة أشمل للسؤال الرئيس هنا: لماذا يخطط الكيان الصهيوني لاستهداف رفح رغم دعواته السابقة للنزوح إليها؟


رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.