لعل البعض يتساءل عن دوافع ما تقترفه إسرائيل من جرائم لا تكاد تعرف البشرية لها نظيرًا ... الحقيقة أننا مستغرقون (بكسر الراء وبفتحها!) في التفاصيل التي تتناقلها وسائل الإعلام ومواقع التواصل من حيث أعداد القتلى والفظائع المرتكبة، وفي قبسات نادرة من تحوّل دفة المبادأة أو الرد من جانب المقاومة الفلسطينية، فيسعد المتلقي بعملية هنا أو تفجير هناك... حتى صار البعض يعوِّض نقص بواعث الأدرينالين الإعجابي بجهود المقاومة بأن يختلق صورًا وأخبارًا ومقاطع مصورة كلها مصطنعة بالذكاء الاصطناعي (AI)، فيضر بذلك القضية وأتباعها.
لكني أود في هذه الأكتوبة أن أتعرض بجانب من الرؤية الأعم الأشمل لما يحدث في الأراضي الفلسطينية، فالاستغراق في التفاصيل مانع من إدراك الصورة الشاملة لمجريات الصراع ودوافعه.
أولًا: الباعث الديني. سعى أغلب العرب إلى تنزيه الدين عند التخويض في الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا صواب إلا عند الإغفال التام للجانب الديني... فهذا الجانب متقد عند الطرف الآخر (الصهيونية) التي اختطفت اليهودية وكادت أن تقضي على كل صوت يهودي غير صهيوني؛ حتى كادت الصهيونية أن تكون مرادفًا لليهودية... وهذا خطأ علمي وتاريخي ومعرفي شائن. أي إن الصهيونية وجدت لنفسها حاضنة في اليهودية، واليهود وجدوا لأنفسهم جماعة في الصهيونية.
ثانيًا: الباعث السياسي. توافق الغرب على غرس كيان احتلالي إحلالي توسّعي في المنطقة ليكون قاعدة متقدمة له؛ فنجحوا في أن يكون احتلاليًّا، لكنهم فشلوا -حتى الآن- في أن يكون إحلاليًّا (بدليل وجود الفلسطينيين في بعض مناطق فلسطين التاريخية، وبدليل وجود عدد كبير منهم في إسرائيل ويحملون جنسيتها تحت مسمى "عرب ٤٨")؛ كما فشلوا في أن يكون توسّعيًّا لأن سياسة التوسع العسكري أخفقت بسبب الرد الموجع من مصر وسوريا بالأساس، ولم يجد المجتمع الاحتلالي نفسه المقومات البشرية اللازمة للتوسع... فتحولت "الدولة الوكيل" (إسرائيل) إلى كيان احتلالي تذويبي (بدلًا من أن يكون إحلاليًّا، وذلك عبر تجنيس عرب الداخل، وإشاعة مفهوم "بوتقة الصهر" الذي هو صناعة إعلامية محضة بوجود عناصر من المسلمين والمسيحيين والدروز واليهود في جيش واحد يحاربون تحت علم واحد)، أما الصفة التوسعية فاستُبدلت بالصفة التخريبية... بمعنى: لن تستطيع إسرائيل التوسع الجغرافي على حساب الجيران، فليكن تحقيق غاية التوسع (العيش في مأمن، وردع الأعداء، إلخ) بإشغالهم بأنفسهم وتأليبهم على بعضهم بعضًا سواء على مستوى الدول أو على مستوى الدولة الواحدة (انظر تغرير العراق بغزو الكويت، وانظر موجة ما يسمى بالربيع العربي ومآلاتها، إلخ)؛ مع التسليم بوجود أخطاء وخطايا عربية بينية وداخلية سهلت عمليات الاختراق والتأليب.
ثالثًا: تعدد الوكلاء في مواجهة الدولة الوكيل. حرص الغرب على توحيد راية الصهيونية وعدم تشرذم الأصوات اليهودية في العالم، وعمد إلى ذلك منذ غرس الكيان الاحتلالي في المنطقة... فأصدر الكيان الاحتلالي منذ إنشائه "قانون العودة ١٩٥٠" الذي سمح لكل يهودي في العالم بالعودة إلى "أرض الميعاد" ونيل الجنسية الإسرائيلية، فتحول من مجرد "كيان احتلالي" إلى "مجمع احتلالي"، وجعل "اليهودية" قاسمًا مشتركًا للتغلب على إشكالية تشرذم اليهود في الشتات والتيه بحكم الرب عليهم (وفق العقيدة اليهودية!). فماذا فعلنا: لم توجد لحظة واحدة في تاريخ المواجهة اتحد فيها المتضررون من المجمع الاحتلالي حق الاتحاد إلا في أكتوبر ١٩٧٣... ومن قبلها ومن بعدها تحملت مصر العبء الأكبر في دعم القضية الفلسطينية والحقوق العربية... وانحدر الجميع من لحظة الاتحاد بين الدول العربية إلى لحظة التنازع بين تلك الدول، وانحدر الفلسطينيون أنفسهم إلى حضيض التشرذم التام والاستتباع للشرق والغرب... حتى التنظيم الواحد والحركة الواحدة لها بوصلات سياسية متعددة – بل متباينة؛ وستظل القضية الفلسطينية مرهونة بوحدة الصف والكلمة في الداخل قبل الخارج. وتفكروا معي: لو اتحد العرب جميعًا وشكلوا قوة خارقة وهزموا إسرائيل وفرضوا قيام دولة فلسطينية... فإلى من يسندون قيادتها في ظل حالة التشرذم الفلسطيني الحالية؟! الاتحاد يا سادة واجب اللحظة، وهو سابق على السعي المسلح إلى التحرير.
رابعًا: مسرح تجربة الجديد. أصبحت الأراضي الفلسطينية منذ قيام المجتمع الاحتلالي ساحة لتجربة ابتكارات المجتمع الاحتلالي العلمية في المجال العسكري... ففيها تجرب الأسلحة الإسرائيلية والغربية (الأمريكية بالأساس)، وفيها تجرب إسرائيل كيفية إدماج الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته في اختيار الأهداف واستهدافها؛ فضلًا عن تجربة وسائل الاعتقال والاستنطاق والاستجواب والتعذيب وغسل الدماغ والتجنيد وغيرها مما لا يخطر على بال بشر.
خامسًا: تماسك الجبهة الداخلية. تسعى دولة الاحتلال إلى تحقيق التماسك الداخلي عبر إيجاد عدو دائم متربص دون القضاء عليه قضاءً مبرمًا (لأن هذا غير ممكن من الأصل!).
سادسًا: التدريب التقليدي. تستغل دولة الاحتلال الأراضي المحتلة في مزاولة جهود التدريب والتنفيذ العسكرية، من حيث سرعة الاستجابة، وسحب القوات وتعويضها، ومهام الإمداد والإنزال، والالتفاف والإنقاذ، وغيرها من متطلبات العمل العسكري التقليدي التي لا فكاك من إتقانها لنجاح أية قوة عسكرية.
سابعًا: التغيير الجغرافي. تسعى دولة الاحتلال إلى إحداث تغيير جغرافي يجعل إقامة دولة فلسطينية أو الاتصال بين أراضيها مستحيلًا... وقد وجدت أن الشقاق الذي أحدثته في الصف الفلسطيني (واستجاب له الفلسطينيون بكل أسف!) قد قسم الأراضي الفلسطينية عمومًا إلى الضفة وغزة، فتحقيق المراد في الضفة (الأوسع مساحة) بتفتيتها بالمستوطنات ونقاط التفتيش وغيرها... أما في غزة فجاءت عملية طوفان الأقصى لتكون مبررًا لتغيير جغرافيا القطاع بالكامل بعد الانسحاب الإسرائيلي منه بالكامل في ٢٠٠٥. لقد ذاق المجتمع الاحتلالي ويلات اقتحام المخيمات في غزة في السابق، فهو يستغل الوضع الراهن لتغيير جغرافيا القطاع كليًّا، وليس أدل على من هدم أكثر من ٨٠٪ في مبانيه وشوارعه، وشق طريق عرضي في منتصف القطاع وصولًا إلى البحر، واقتطاع أشرطة أمنية في المناطق المتاخمة لمستوطنات الغلاف... وأتوقع أن تتدخل إسرائيل في كيفية إعادة إعمار القطاع بعد القضاء على جُل معالمه الجغرافية، وتهديد -بل استهداف- شركات إعادة الإعمار إذا لم تستجب لها.
ثامنًا: سياسة إشعال الفتيل. إذا أشعلت فتيلاً دون إطفائه فاعلم أن الانفجار آتٍ لا محالة... ويؤسفني إيلام القارئ الكريم بأن الحرب لم تنته – ولن تنتهي - بوقف العمليات الحربية! فنظرية الفوضى الخلاقة ستسود كل شيء، فهدم البنية التحتية يجعل الناس في العراء والأمراض والفيروسات في تفش دائم... ما يعني شيوع فوضى المجتمع وفوضى المرض وفوضى السياسة وفوضى الأمن... ويكفي قطاع غزة أن فيه آلاف الجثث دون دفن... ونحو ١٠٪ من الذخائر الإسرائيلية العسكرية التي لم تنفجر... ونقصًا شديدًا في الطعام والشراب... وصرفًا صحيًّا طافحًا في كل مكان... وانعدامًا للخدمات الصحية المناسبة... وهدم المنشآت التعليمية... وتبويرًا للأراضي الزراعية... كل هذا سيتفاعل بأسلوب "سلسلة التفاعل" لتنشطر قنبلة ما بعد الحرب فتؤدي إلى زيادة الأوبئة الفتاكة والموت وقلة الإنجاب والضعف العام في كل شيء... حتى في ذاكرة الزمان والمكان. هل تعلم عزيزي القارئ أن من تجارب المجتمع الاحتلالي في غزة تقنين السعرات الحرارية الداخلة للقطاع قياسًا على عدد أفراده حتى في أوج التسالم بين الطرفين؟!
تاسعًا: التأليب. اختطف الاحتلال آلافًا من غزة ومن الضفة طوال الأشهر الماضية... وثبت بالدليل المصور وبتقارير دولية تعرضهم لكل أشكال الانتهاك، حتى الاغتصاب الجنسي! ويقيني أن المجتمع الاحتلالي سيطلق سراح كثير من هؤلاء (إذا نجوا من الموت) ليعودوا إلى بيوتهم المهدمة... ومع اجتماع حالة اليأس والانتهاك وانعدام المستقبل ومحو الكرامة مع غسل الدماغ يكون تأليب هؤلاء على من تبقى من دعاة المقاومة الذين كانوا سببًا في هدم حياته وقتل أهله وانتهاك كرامته كما يُلَقَن في مراكز الاعتقال الصهيونية... لتزيد هوة الخلاف وشدته بين الفلسطينيين... وصولًا إلى الانتقام المفتوح بين أبناء القضية الواحدة.
عاشرًا: الاختطاف العام. الصهيوني اليهودي يختطف الأرض بدعوى الوعد الديني، والصهيوني غير اليهودي يناصره بدعوى لزوم قيام دولة لليهود حتى ينزل المسيح، ومصر بذلت من أبنائها في الحروب مع المجتمع الاحتلالي أكثر من عدد شهداء الفلسطينيين منذ ١٩٤٨ إلى اليوم! والفلسطينيون ينتحلون فيما بينهم صفة الدفاع الأصح عن القضية... وهكذا... حالة اختطاف عام للقضية في كل اتجاه ومن كل الأطراف، كل يدعي حبًّا لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكَ!
والنتيجة... الضياع الظاهر والتيه الحاضر! والحل: توحيد الكلمة، وتصحيح بوصلة القضية، والتحول عمن يمتطونها لأغراض تناسب وطنهم وتضر بفلسطين. كما توجد حلول أخرى مكملة نتعرض لبعضها في مقالة قادمة بإذن الله.