القضية الفلسطينية

 

17 فبراير, 2025

خطة التهجير القسري لفلسطينيي غزة بين الماضي والحاضر

      بعد 5 أيام فقط من تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية لولاية ثانية، أدلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات للصحفيين من على متن الطائرة الرئاسية الأمريكية، أعرب فيها عن رغبته في أن يرى الأردن ومصر مأوى للاجئين الفلسطينيين من غزة حتى يتسنى "تطهير" القطاع الذي وصفه بـأنه "موقع دمار ". أثارت هذه التصريحات حالة واسعة من الجدل في العالم، وظهر سيل من البيانات والتصريحات الرافضة للفكرة من عدد من الدول والمنظمات والشخصيات العامة؛ وأكدت مصر والأردن، اللتان زج ترامب اسمهما في مقترحه وطلب منهما استقبال المزيد من اللاجئين، على رفضهما أي مقترح يفضي إلى تهجير الفلسطينين من أرضهم وتصفية القضية الفلسطينية.

ولم يمض وقت طويل حتى كرر ترامب المقترح نفسه، بل وطوره في شكل خطة في الرابع من فبراير 2025م خلال استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يعد أول مسؤول خارجي يزور البيت الأبيض في ولاية ترامب الثانية. وخلال اللقاء، اقترح ترامب أن تتولى الولايات المتحدة "السيطرة على القطاع"، وأن تحصل على "ملكية طويلة الأمد" لهذا الجزء من الأراضي الفلسطينية؛ بهدف تفكيك الأسلحة غير المتفجرة، وتحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" وعندما سُئل عمن سيعيش هناك، قال ترامب: إنها قد تصبح موطنًا "لشعوب العالم"!

ولم يقدم الرئيس الأمريكي تفاصيل حول آليات الإشراف على المنطقة، أو جدولًا زمنيًّا لعمليات السيطرة وإعادة الإعمار، إلا إنه أكد "خطورة" الوضع الإنساني والأمني في غزة، وضرورة ما أسماه "بالتدخل الجذري".

وقد بدا ترامب خلال تصريحاته تلك عازمًا أشد العزم على تهجير فلسطينيي غزة، حيث ذكر أنه لا خيار أمامهم سوى مغادرة القطاع، معربًا –مرة أخرى– عن رغبته في رؤية الأردن ومصر وهما تستقبلان سكان القطاع قائلًا: "إذا تمكنا من العثور على أرض مناسبة لنقل سكان من غزة إليها، سيكون ذلك أفضل لهم كثيرًا من العودة إلى القطاع، أعتقد أن سكان غزة يجب أن يحصلوا على أرض جيدة وجديدة وجميلة"، مردفًا: "الأرض التي يجب أن يحصل عليها سكان غزة يمكن أن تكون في مصر أو الأردن".

من جهته، أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخطة ترامب، واصفًا إياه بأنه "أعظم صديق لإسرائيل على الإطلاق"، معتبرًا أن السيطرة الأمريكية على غزة "قد تغير التاريخ"، وأعرب عن ثقته في أن هذه الخطوة ستفتح آفاقًا جديدة "للسلام والتنمية"، مجددًا التزامه بمواصلة مساعي تطبيع العلاقات مع السعودية، قائلًا: "أعتقد أن السلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية ليس ممكنًا فحسب، بل أعتقد أنه سيتم".

وقد قوبلت تصريحات ترامب الأولى ومقترحه الثاني بموجة عنيفة من الرفض والإدانة على الصعيدين الإقليمي والدولي، بل حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وسط أقاويل بأن ترامب يعيد إحياء خطة إسرائيل السرية التي تعود لعقود من الزمن، والتي تقضي بتهجير فلسطينيي غزة قسريًّا إلى شمال سيناء، والاستيلاء على أرضهم.

والسؤال الآن، هل خطة تهجير الفلسطينيين قسريًّا وإخلاء غزة منهم والسيطرة عليها خطة من بنات أفكار ترامب، أم أنها صهيونية؟ وهل هي حديثة أم أنها خطة سرية قديمة يريد ترامب أن يحييها ويطبقها؟

وتأتي إجابة هذا السؤال فيما كشف عنه الأرشيف الوطني البريطاني مؤخرًا من وثائق قديمة (نقلها موقع منظمة ميدل إيست مونيتور الصحفية غير الهادفة للربح)، تؤكد بأن إسرائيل وضعت خطةً سرية قبل خمسة عقود لتهجير الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين من غزة إلى شمال سيناء، شمال شرقي مصر. وأشارت الوثائق كذلك إلى أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانتا على علم بخطة إسرائيل، لكنهما اختارتا عدم التدخل.

وتعود هذه الخطة إلى فترة ما بعد احتلال الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، ومرتفعات هضبة الجولان، في حرب يونيو 1967م، حيث أصبح القطاع الصغير آنذك يشكل مصدر قلق أمني كبير لإسرائيل، وتحولت مخيمات اللاجئين المزدحمة فيه إلى بؤر للمقاومة المسلحة تستهدف بعملياتها قوات الاحتلال، والمتواطئين معهم.

وقدرت المملكة المتحدة أعداد اللاجئين في قطاع غزة عندما احتلته إسرائيل بنحو 200 ألف لاجئ، نزحوا إلى القطاع من مناطق أخرى في فلسطين، وتقدم لهم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أوجه الرعاية اللازمة، بجانب 150 ألفًا آخرين من سكان القطاع الفلسطينيين الأصليين.

وتقول التقارير البريطانية التي كشفت عنها الوثائق: "إن غزة لم تكن مجدية من الناحية الاقتصادية بسبب المشكلات الأمنية والاجتماعية التي ظهرت نتيجة لحياة المخيمات وأنشطة حرب العصابات التي أدت إلى زيادة أعداد الضحايا". كما تقدر هذه التقارير أعداد الخسائر في المدة من 1968م و1971م من المقاتلين العرب والفلسطينيين بنحو 240، علاوة على إصابة 878 شخصًا، في حين قُتل من الإسرائيليين 43 جنديًّا، وأُصيب  336 جنديًّا آخرين. وعندئذ أعلنت جامعة الدول العربية إصرارها على وقف الأنشطة الإسرائيلية ضد اللاجئين الفلسطينيين في غزة، وقررت "تبني إجراءات عربية موحدة لدعم المقاومة في القطاع".

كانت بريطانيا قلقة بشأن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا سيما في قطاع غزة، مما دفعها إلى مراقبة الوضع عن كثب. ونتيجة لمتابعتها لتحركات إسرائيل وإجراءاتها في القطاع، رصدت السفارة البريطانية في تل أبيب تهجير الآلاف من الفلسطينيين إلى العريش في شمال شبه جزيرة سيناء، والتي تبعد حوالي 54 كيلومتر من الحدود بين غزة ومصر.

ووفقًا للتقارير التي رفعتها السفارة في ذلك الوقت، فإن الخطة تضمنت "النقل القسري" للفلسطينيين إلى مصر، أو إلى أراضٍ إسرائيلية أخرى، في محاولة لتخفيف حدة عمليات المقاومة ضد الاحتلال، وتقليل المشكلات الأمنية التي تواجهها سلطة الاحتلال في القطاع.

وفي يناير 1971م، أبلغ جون بارنز، السفير البريطاني في تل أبيب، حكومته بالتدابير الإسرائيلية الرامية إلى نقل الفلسطينيين من غزة إلى العريش، وقال في رسالة أرسلها إلى وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية: "يبدو أن الإجراء الإسرائيلي الوحيد المريب من وجهة نظر القانون الدولي هو إعادة توطين بعض اللاجئين الغزاويين في أراض مصرية في العريش". وفي الرسالة نفسها ذكر السفير بارنز أن الأمريكيين كانوا على علم بالإجراءات الإسرائيلية، ولكنهم لم تكن لديهم رغبة في إثارة الأمر مع الإسرائيليين قائلًا: "نتفهم أن السفارة الأمريكية هنا لديها المعلومات نفسها المذكورة آنفًا، وأنها أوصت واشنطن بعدم مناقشة هذه الإجراءات الإسرائيلية في غزة مع الحكومة الإسرائيلية على أي مستوى رسمي".

وبعد ثمانية أشهر، أبلغ السفير بارنز رئيسه بمسألة نقل الفلسطينيين في تقرير خاص حول الأوضاع في غزة وذكر في التقرير: "أن الإسرائيليين عرَّضوا أنفسهم للانتقاد؛ بسبب تجاهلهم للانتقادات القانونية"؛ حيث رأى السفير أن إعادة توطين اللاجئين الغزاويين في العريش بمصر يثير حساسية معتادة لدى الرأي الدولي.

Image

وفي أوائل سبتمبر عام 1971م، أبلغت الحكومة الإسرائيلية السفير البريطاني بوجود خطة سرية لترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مناطق أخرى، أهمها العريش. وبعد ذلك، أخبر شمعون بيريس، وزير النقل والاتصالات آنذاك، بأنه: "حان الوقت لأن تقوم إسرائيل بمزيد من الإجراءات في قطاع غزة، وتقلل من إجراءاتها في الضفة الغربية."

وفي تقرير حول هذا اللقاء، قالت السفارة: "إن بيريس، الذي كان مسئولًا عن ملف التعامل مع الأراضي المحتملة، كشف بأن لجنةً وزاريةً عملت على مراجعة الأوضاع في غزة، وخلصت هذه اللجنة إلى توصيات لن يتم نشرها، ولن يكون هناك أي إعلان يُذكر عن السياسة الجديدة"، وأكد التقرير على وجود اتفاق في مجلس الوزراء لتبني نهج جديد وطويل الأمد لمشكلة اللاجئين. وأضاف التقرير أن "بيريس يعتقد أن هذا النهج سوف يؤدي إلى تغيير في الوضع خلال سنة أو ما شابه".

وعند سؤاله حول "ما إذا كان العديد من الناس سيتم نقلهم بهدف استعادة حالة السلام ومظاهر الحياة في غزة"، قال بيريس: "سيتم إعادة توطين حوالي ثلث سكان المخيمات في مكان آخر داخل القطاع أو خارجه". وأكد بيريس على اعتقاد إسرائيل بأنه "ربما تكون هناك حاجة لتقليل إجمالي عدد السكان حوالي 100 ألف نسمة." وأعرب بيريس عن أمله في "نقل حوالي 10 آلاف أسرة إلى الضفة الغربية، علاوة على نقل عدد أقل إلى إسرائيل"، إلا إنه أبلغ الحكومة البريطانية "أن التهجير إلى الضفة الغربية وإلى أراضي إسرائيل ينطوي على مشكلات عملية مثل ارتفاع التكلفة".

وفي الرسالة، أبلغ السفير البريطاني رؤساءه في لندن بأن "معظم المتضررين في الحقيقة قانعون بإيجاد مساكن بديلة أفضل لأنفسهم علاوة على التعويض الذي يحصلون عليه عند إزالة أكواخهم؛ وهم راضون بقبول شقق سكنية عالية الجودة يبنيها المصريون في العريش، حيث يمكنهم الحصول على إقامة شبه دائمة".

لقد كانت العريش جزءًا من سياسة إسرائيل الجديدة. وقد سأل السفير البريطاني آنذاك الوزير الإسرائيلي قائلًا: "هل تُعتبر العريش الآن امتدادًا لقطاع غزة؟"، فأجاب بيريس: "إن استغلال المساكن الشاغرة هناك كان قرارًا عمليًّا خالصًا" معتبرًا أنه "لم يُقصد بذلك الإخلال بشروط التوطين السلمي".

وفي تقييم منفصل لمعلومات بيريس السرية، نوَّه السفير البريطاني إلى أن الإسرائيليين يعتقدون أن أي حل دائم لمشكلات قطاع غزة "يجب أن يتضمن إعادة تأهيل جزء من السكان خارج حدوده الحالية".

وفي تقرير شامل، حذَّر السفير بارنز من أن المعلومات المتوفرة لديه تشير إلى أن "وكالة الأونروا تتوقع أن تلجأ إسرائيل لحل الترحيل"، مشيرًا إلى أن "الوكالة تتفهم مشكلة الأمن الإسرائيلي، لكنها لا يمكن أن تقبل بالنقل القسري للاجئين، وطردهم من منازلهم، ولا بتهجيرهم بشكل مؤقت إلى العريش في مصر".

جدير بالذكر أن الوثائق المكشوف عنها لم توضح ما إذا كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد تواصلتا مع مصر بشأن الخطة الإسرائيلية.

ومن هذه المعلومات، يتضح أن الخطة قديمة وسرية، وليست من بنات أفكار ترامب، أو الإدارة الأمريكية، بل إن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا مطلعتين عليها، ولم تحركا ساكنًا. وقد صمد الفلسطينيون أمام هذه الخطة، وتمسكوا بأرضهم، وأفشلوا المخطط القديم. واليوم يجيء ترامب ليحيي ما اندثر من أوهام، وما تلاشى من أحلام، مكررًا الأمر نفسه ومدعيًا رضا الفلسطينيين وقناعتهم بالخروج من أرضهم، وحصولهم على أماكن أفضل للعيش فيها!

يقف الفلسطينيون أمام لحظة حاسمة في تاريخ نضالهم المشروع، فإما أن يقضوا على ما تبقى من أحلام الاحتلال الاستيطاني البغيض، أو تضيع قضيتهم للأبد، وتتكرر نكبتهم مرة أخرى. وإن موقف مصر واضح وحاسم وثابت لا يتغير مهما تغيرت الوجوه التي تسعى لإنجاح المخطط: وهو الرفض القاطع لأية محاولة من محاولات تهجير الفلسطينيين من أرضهم وإحلال المحتلين الغاصبين مكانهم، وتسعى مصر في كل سبيل لإفشال هذا المخطط وتثبيت الفلسطينيين في أرضهم سواء من خلال جهودها الدبلوماسية والسياسية، أو المساعدات الإنسانية التي تقدمها لأهل غزة بما يخفف عنهم الأزمة.

ويرى مرصد الأزهر أن هذه الوعود الجديدة تذكرنا بوعد سابق، قطعه من لا يملك لمن لا يستحق، ولكن هذه المرة آن لأحرار العالم أن ينتفضوا، وللعرب أن يتحدوا خلف راية واحدة، على قلب رجل واحد، في وجه كل متغطرس ومحتل تسول له نفسه السطو جهارًا نهارًا على أراضي ومقدرات شعوب ضاربة في جذور التاريخ، وإن الأزهر الشريف ليدعم بكل ما أوتي من قوة الجهود المصرية المبذولة، ويدعو العالم إلى الوقوف أمام مخطَّطات تهجير الفلسطينيين، حيث أكد الأزهر الشريف في آخر بيان له، أن تلك المخططات- "لم تعد تنطلي على أحد مهما بلغت سذاجتُه وغفلتُه، وأن السياقات السياسية في القرن الماضي، التي سمحت بخدعة من هذه الخدع لن تتكرر مرة أخرى على أرض (غزة الحبيبة الغالية)، ولن يسمح بها أهل غزة الشجعان الصامدون، ولن يقبلوا أن يقبضوا ثمن دمائهم الزكية طردًا من أرضهم وتهجيرًا من وطنهم".

وحدة الرصد باللغة الإنجليزية