"مرصد الأزهر": قراءةٌ في كتاب "هل الإسلام في أزمة"؟!
"هل الإسلام في أزمة؟"،عنوانُ كتابٍ جديد صدر مطلع شهر سبتمبر الماضى، في طبعته الأولى، للمؤلف الألماني "ميشائيل بلومة" –الذي وُلدَ عام "1979"- ويشغل منصب رئيس قسم الأديان غيرِ المسيحية والأقليات، في وزارة ولاية "بادن فورتمبيرغ"، وهو باحثٌ معروف في مجال حوار الأديان، وناشطٌ في مجال العلوم الاجتماعية والثقافية والطبيعية.
يتكوّن الكتاب من مقدمة وستة فصول رئيسة، ويبلغ نَيِّفًا وتسعين صفحةً بعد المائة، ويتناول الكتاب وضع الإسلام في ألمانيا، ومدى تمسُّك المسلمين بدينهم وتطبيق تعاليمه، مقارنةً بالديانة المسيحية التي تُعَدّ الديانةَ الأقدم في ألمانيا.
فيوضّح الكاتب في الفصل الأول؛ تراجُع الالتزام الديني للعديد من المسلمين والمسلمات في جميع أنحاء العالم، حتى إن أعداد المسلمين الفعليين لم تَعُدْ واضحة، وكيف فقَد العالَمُ الإسلامي، الذي طالما ازدهر وازداد نفوذُه العسكري تمدُّدًا، دورَه الرائد.
ويتناول الكاتب في الفصل الثاني؛ منْع طباعة بعض الكتب منذ عام 1485، الذى كان مهدًا للتحجُّر ولأزمة التعليم في الحضارة الإسلامية، الموجودة حتى وقتنا الحالي، أما الفصل الثالث؛ فيتناول السيطرة على العديد من الدول الإسلامية العربية، لأجل تجارة النفط مما يؤدي بدوره إلى تحالُفِ وتدخُّل القوات الغربية، وبالتالي إعاقة التطور الديموقراطي والاجتماعي.
ويتطرّق الكاتب في الفصل الرابع؛ إلى تَبَنّى العديد من المسلمين أسطورةَ المؤامرة من الغرب، أثناء تحليلهم للأسباب التي أدّت إلى تأخُّرهم، وهم بذلك يعتبرون أعمال العنف الإرهابية المسلحة لا تلعب دورًا مؤثّرًا، ويرى "بلومة" في الفصل الخامس؛ أنه أثناء فرار الشباب المسلم بأعدادٍ كبيرة إلى الديموقراطية الغربية ذاتِ الطابع المسيحي، فإن مُعَدَّل المواليد تأثّر بشكلٍ مُتسارِع في المجتمعات ذاتِ الطابع الإسلامي؛ بسبب القواعد الصارمة الخاصّة بالجنس والأسرة.
ويَخْلُص الكاتب في الفصل السادس والأخير من الكتاب؛ إلى الجواب بلا لم يمت الإسلام بعد، بل إنه مثل الرجل الذي أعياه المرض، ومن شدة اليأس والألم يَضرب كلَّ مَن حوله. وإذا حاولنا نحن –مسلمين وغير مسلمين- فهْمَ ذلك الواقع واستيعابه؛ فسيكون لدينا فرصة لتحقيق مستقبلٍ مُشترَكٍ أفضلَ.
ينتقد الكاتبُ فكرةَ وجودِ إسلامٍ قويٍّ في ألمانيا ووجود مسلمين متمسكين بدينهم، مخالفًا في ذلك رأيَ كثيرين يعتقدون بوجود إسلامٍ قوي في ألمانيا، التي تَضْعُف فيها التعاليمُ المسيحية.
وعند سؤاله عن السبب الكامن خلف مناقضةِ نتائج أبحاثه لهذا التصوُّر السائد، في حوارٍ أُجري معه، جاءت إجابتُه كما يلي: "نحن نرتكب خطأً فادحًا في إجراء إحصائياتنا، حين نعتبر كلَّ مَن يولد من أبوين مسلمين أو يَصِف نفسه كمسلم، مسلمين فعلًا. ذلك وكأننا نعتبر جميع الناس في ولاية ساكسونيا مسيحيين، ينحدرون من أسلافٍ مسيحيين ويحتفلون بعيد الميلاد، وهكذا تصبح ولاية ساكسونيا مسيحية بنسبة تسعين في المائة، والحقيقة هي أننا نحسب على الجانب المسيحي أعضاء الكنيسة فقط، وهم في ساكسونيا 23 في المائة، وإذا أمعنّا النظرَ في هذا؛ فسنلاحظ أن هناك عملياتِ انفصالٍ قوية عن الدين "عَلْمَنَة" لدى بعض المسلمين أيضًا، فعددٌ غيرُ كبيرٍ من المسلمين لا يزال يؤدّي الصلاة بشكلٍ مُنتظِم، و لدينا في المسيحية عمليةُ الانفصالِ نفسُها عن الدين، بَيْدَ أنها بمعدلاتٍ أسرعَ، ويُعزِّز هذا التصوُّرَ ما يقوم به مَن يُسمّون أنفسَهم تنظيمَ "داعش"، من أعمالِ عنفٍ تُرتكب باسم الإسلام؛ وهذا يدفع الكثيرَ من المسلمين إلى التأمُّل."
كما تَعَرّض الحوارُ الذي أُجرى مع المؤلف حول هذا الكتاب، لبعض الأفكار الجوهرية بالكتاب، وجرى الحوار في شكلِ سؤالٍ وجواب، نعرضه فيما يلي:
هل بمقدوركم ذكر نسبةٍ مئوية لعدد المسلمين الذين مازالوا يمارسون دينهم؟
السؤال الأحرى هنا هو: ماذا تعني الممارسة؟ هل تعني الاحتفالَ بالأعياد؟ فمن ثم يكون الساكسوني الذي يُقدِّم هدايا لعائلته في عيد الميلاد مسيحيًّا متديّنًا، أم تعني أداءَ الصلوات بشكلٍ مُنتظِم؟ فتكون نسبة المسلمين في ألمانيا دون 40 في المائة، وهذا ما يُسمّى بالتراجُع الخافت؛ لأن غالبية المسلمين يعرفون بالطبع أنه أمرٌ خطير، فذلك مرتبطٌ بعقوباتٍ داخلَ العائلة.
وأحيانًا توجد محظوراتٌ حكومية ضد الابتعاد عن المُعتقَد، فهذا يعني أن الغالبية تَعتبِر ذلك قضيّةً خاصة. فهم يُقلِّصون التزامهم الديني ولا يتحدثون كثيرًا عن ذلك، ولا يعلنون أنهم غيرُ متدينين، ولكن عندما نَتَمَعّن في ذلك، نلاحظ أن هناك تراجُعًا قويًّا في التقاليد، لا سيّما في صفوف الشباب والمتعلمين، وبين النساء اللاتي لا يشعرن بالارتياح في الاتحادات التابعة للمساجد.
ولكن من ناحيةٍ أخرى، نلاحظ مثلًا أن بين الأتراك الذين يعيشون منذ أجيالٍ في ألمانيا، شبابًا متمسكين بالدين أكثرَ من الكبار في اتّباع قواعد الصوم في رمضانَ مثلًا، أو نجد مسلماتٍ شابّاتٍ يَلبسنَ الحجابَ أكثرَ من ذي قَبل، كيف ينسجم هذا كلُّه؟
هذا هو المثير؛ لأن الإدراك السائد أنهم يزدادون تديُّنًا، وعندما نسأل عن ذلك، يقول عددٌ كبير من الشباب: نعم أنا مُتديّن وأنا مسلم، ـ ففي دراسةٍ لجامعة "مونستر" الألمانية،حول المسلمين الذين هم من أصولٍ تركية ـ نرى أن نسبة أولئك الذين يُصَلّون بانتظام، و يرتدون حجابًا على الرأس، واللاتى يرفضن المصافحة باليد، تنخفض أعدادُهم بشكلٍ مُتسارِع.
كلتا الحالتين غيرُ متفقتين وغير منسجمتين، بل إن ذلك يحدث مثل ما هو عليه عندنا، بأن يُردِّدَ الكثيرُ من الناس: أنا أنتمي للغرب المسيحي، ولكنني دخلتُ الكنيسة آخِرَ مرةٍ قبل سنتين، وهذا ما نُعايِشه أيضًا في الجانب المسلم. إنه انتقالٌ من الممارسة الدينية إلى الاعتراف الديني، المرء يعترف بانتمائه إلى الغرب المسيحي أو الشرق الإسلامي، لكن الممارسة الدينية تتقلّص.
كيف تُفسِّر تطرُّف بعض المسلمين الذين يستندون في أفعالهم على الدين؟
نعيش هذا دومًا أثناء مواجهة الأزمات ذاتِ الخلفية الدينية، وهو أن الجزء الصغير هو الذي يتطرف والجزء الأكبر هو الذي يتراجع. عايشنا هذا في أوروبا خلال حروب الثلاثين سنة ـ البروتستانت ضد الكاثوليك ـ واليومَ نشاهد هذا لدى المسلمين، حيث نجد التناحُر بين السنة والشيعة، ففي الماضي تطرَّف جزءٌ صغير وبعد مدةٍ تَقَوْقَعَ الجزءُ الأكبر.
وبعد حروب الثلاثين سنة، حصل تراجُعٌ في المُعتَقَد وجاءت فترة التنوير، واحتجنا إلى وقتٍ طويل إلى أن استعادت الكنائسُ مصداقيّتها التي فقدتها في تلك الحروب، وهذا يحدث أيضًا للمسلمين؛ جزءٌ منهم يُفسِّر جميع هذه الحروب والأزمات على أنها نتيجةُ مؤامرات، حيث يقولون: لا يمكن أن يحصل هذا في الإسلام، بالتأكيد هم الماسونيون أو اليهود أو الأمريكيون. هؤلاء الأشخاص يتقوقعون إلى حَدٍّ ما. فعِوَضَ دراسةِ الوَضْع، هم يتجهون لأساطير المؤامرة، وهذا لا يُحَسِّن من الوضع شيئًا.
هل تعتقد أنّ هذه الأزمة في الإسلام قد تكون بداية فترة الإصلاح التي يتمناها الكثير من المسلمين المعتدلين والمجتمعات الغربية؟
يَهدِف كتابي إلى الدفع بالتفكير في هذا الاتجاه وطرْح الأسئلة حول هذا الموضوع، وتَكْمُن المشكلة؛ أن هناك مسلمين يريدون الإصلاح، ولدينا بالفعل في ألمانيا علومُ دينٍ إسلامية لا بأسَ بها، إلّا أن هؤلاء المسلمين بلا تنظيمٍ يُذكر؛ لذا تبقى الاتحادات الإسلامية ذاتُ الرؤية الإصلاحية، والمساجد التي تَتَبَنّى هذه الرؤيةَ، عددها صغيرٌ، ممّا يعني أن الاتحاداتِ الكبرى تظل في غالبيتها قومية ومحافظة، لكن هناك عددًا أكبرَ من المسلمين، ومنهم أيضًا علماء فَطنوا إلى هذه المشاكل ويقولون: يجب علينا تغييرُ شيءٍ، وإلّا سيَصطدم هذا الدينُ بالحائط.
وختامًا، يرى "المرصد"؛ أن تناوُلَ المؤلف في هذا الكتاب موضوعَ تراجُع بعض المسلمين عن التمسُّك بتعاليم دينهم، وطرْحه هذا الموضوعَ للنقاش، هو شيءٌ إيجابيٌّ في حَدِّ ذاتِه، ممّا يجعل مَن يهتمّ بالأمر يقف على حقيقة الوضع، ويدفعه إلى التفكير الجادّ في تَقَصّي أسباب تلك الظاهرة قبل انفلات زِمامها، ومحاولة معالجة أسبابها في وقتٍ مُبَكِّر.
كما يُحسَب للمؤلف أيضًا، انتقاد بعض المؤسسات الدينية التي يتلاشى دورُها الاجتماعي والإصلاحي تدريجيًّا، والكتاب في الحقيقة يُقَدِّم رؤيةً تحليلية نَقْدية جيّدة لوضْع المسلمين في ألمانيا، ويدفع باتجاه حَلّ بعض المشكلات التي تواجه المجتمع الإسلامي من الداخل هناك.
ويُؤخَذ على المؤلف؛ عدم طرْح أيِّ حُلولٍ إيجابية، تكون بدايةً لحوارٍ يَهدِف إلى الخروج ممّا أَطلق عليه "أزمةً" في كتابه، الأمر الذي أثار ضجّةً كبيرة في أوساط المسلمين عامّةً، والتياراتِ المُحافِظةِ خاصّةً في ألمانيا.
ومن جانبنا، نؤكد أن ما طرحه المؤلف، من مشكلاتٍ عامّة تواجه المجتمع المسلم في ألمانيا، لا تَرقى إلى أن تُمثِّلَ نقطةَ انطلاقٍ في الحكم على الإسلام كدينٍ له حضارتُه وتاريخُه، فضلًا عن الاستناد على وجود هذه المشكلات في التعبير عن أن الإسلام "في أزمة"، لا سيّما وأن كثيرًا من هذه المشكلات لم يتسبب الإسلام فيها بذاته من خلال تعاليمه أو أحكامه، بل دَفعتْ إليها مجموعةٌ من المُستجدّات، يأتي في مقدمتها: الإرهاب العالمي، والنزاع المُسلَّح في الشرق الأوسط، ومظاهر "الإسلاموفوبيا" في الغرب، وما تَبِعَها من ظهور المنظمات والأحزاب اليمينية المتطرفة، وفَوْزها في كثيرٍ من الجولات الانتخابية في بعض الدول.
إضافةً إلى مشكلة اللاجئين والمهاجرين، التي راح ضحيَّتها آلافُ المسلمين بين غريقٍ وقتيل، كلّ هذه الأحداث والمُستجدّات لعبت دورًا كبيرًا في ظهور المجتمع الإسلامي في أوروبا بالصورة التي تناوَلَها المؤلف في كتابه، والذي لا يُعَبِّر من وجهة نظرنا – مع الاعترف بجهد الكاتب – عن أنّ الإسلام في أزمةٍ، بل عن أنّ "الإنسانية في أزمة".
وحدة الرصد باللغة الألمانية
3957