إطلالة على مسلمي أمريكا الجنوبية واندماجهم في مجتمعاتهم
لا شك أن قضية التعايش والاندماج المجتمعي بين الأطياف البشرية المختلفة تحتل أولوية كبيرة لتقدُّم المجتمعات ورقيها. ويعد التعايش جزءًا أصيلاً من تعاليم الإسلام، فقد جعل الله تعالى الناس شعوبًا وقبائل مختلفة ليتعارفوا، وبالتالي لا يجب أن يكون الاختلاف سببًا في تغير المعاملة بين بني البشر. كما أن المجتمعات التي تنعم بقيمة التعايش وترسخه بين أبنائها تحظى بقدر كبير من التقدم في مختلف المجالات العلمية والثقافية والعملية؛ وهنا تبرز قيمة التعايش ويتضح أثرها الإيجابي للأطياف البشرية المتعددة؛ إذًا فقبول التعايش ليس اختيارًا، بل هو عين الصواب لمن أراد أن ينهض ويتقدم، ولما فيه من امتثال للتعاليم الدينية السمحة.
وانطلاقًا من هذه الأهمية الكبرى للتعايش والاندماج، يولي مرصد الأزهر لمكافحة التطرف اهتمامًا خاصًا بهذا المعنى وبهذه القيمة الإنسانية، ويقوم على متابعتها في كافة بلدان العالم. ومن هنا تقوم وحدة الرصد باللغة الإسبانية بمتابعة وتحليل الأخبار والمقالات، وعددٍ من الإصدارات المتنوعة المعنية بهذا الجانب المجتمعي ومدى النجاح الذي يحققه المسلمون في عملية الاندماج والتغلب على مظاهر الاختلاف الثقافي والديني في البلدان الناطقة بالإسبانية. وفي هذا الصدد تلقي وحدة الرصد باللغة الإسبانية نظرة عامة على اندماج المسلمين وتعايشهم في دول أمريكا اللاتينية، وكذلك الإشارة إلى الفعاليات والمؤتمرات التي تنعقد بعددٍ من دولها بما يخدم الاندماج، ويحث على الحوار بين الأديان وتقبل الآخر.
وفيما يتعلق بأعداد المسلمين في أمريكا اللاتينية فليس هناك رقمٌ محددٌ، ولكن التقديرات الرسمية تشير إلى أنهم ربما لا يتجاوزون خمسة ملايين مسلم، وبذلك تكون أمريكا الجنوبية هي أقل قارات العالم من حيث أعداد المسلمين. وبالرغم من ذلك، فهناك مؤشرات تدل على تنامي أعداد المسلمين في هذه القارة، وأن السبب في ذلك يرجع إلى اعتناق الأمريكيين أنفسهم للإسلام وليس الهجرة، حيث قلت أعداد المهاجرين خلال العقود الأخيرة.
• فعاليات للتعايش والحوار
من المؤكد أن التعايش ينعكس بصورة جلية خلال التعاملات اليومية بين أبناء المجتمع، ولكن لكي يكون هذا الانعكاس إيجابياً فلا بد من أن تكون هناك أدوات توعوية مختلفة، من شأنها السمو بكل فرد داخل المجتمع؛ حتى يلمس أهمية التآلف ويشعر به. ومن أهم هذه الأدوات الندوات والدورات والمؤتمرات التي تنعقد حول التعايش والحوار بين الأديان. وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الأنشطة في عددٍ من دول أمريكا اللاتينية والتي عُقدت خلال العام الجاري.
ففي بويرتوريكو انعقد (المؤتمر الوطني الثاني للحوار بين الأديان) في العاصمة "سان خوان" والذي جاء تحت شعار "ثقافة الحوار بين الأديان في بناء السلام" وذلك بمشاركة أكثر من 250 شخصية تمثل الطوائف الدينية المختلفة من جميع أنحاء العالم. وخلال هذا المؤتمر، قدّم عدد من رجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي وغيرهم رسالة عامة في سبيل دعم الحوار بين الأديان، وبيان أن الأديان جميعها تقوم على التعاون بين البشر، وليس على التفرقة أو التمييز. وقد ضمت فعاليات هذا المؤتمر العديد من الأنشطة الثقافية المختلفة الخاصة بكل ديانة من المشاركين في المؤتمر، وذلك للتأكيد على تعزيز علاقات الصداقة والاتصال بين الجهات الفاعلة في مجال الحوار بين الأديان. ولم يقتصر المؤتمر على مشاركة رجال الدين فحسب، بل شاركت شخصيات عامة وقيادات سياسية وكذلك مدراء ومسئولون بالحكومة وممثلون عن منظمات غير حكومية.
وفي الأرجنتين عُقدت قمة للحوار بين الأديان بمشاركة المسلمين في مدينة "أوشوايا" تحت عنوان "الإرهاب وتطور الاتجار بالمخدرات والاتجار بالبشر ومعضلة التعليم الديني". من جانبه أوضح "جوستابو جيِّرمى"، نائب رئيس المؤسسة اليهودية المسيحية الإسلامية للأمريكتين، أن مؤسسته تسعى إلى المساهمة في أن تكون حياة المواطنين العاديين أكثر سعادةً واستقرارًا. وقد ضمَّ هذا الملتقى 70 قيادة دينية من مختلف الديانات الموجودة في الأرجنتين، حيث سعى المشاركون إلى تعزيز الحوار ومناقشة عدة قضايا تتعلق بالإرهاب وتطور الاتجار بالمخدرات وبالبشر وبعض المشاكل التي تواجه عملية التربية الدينية. وقد افتتح هذا الملتقى رئيس المؤتمر الأسقفي الأرجنتيني "خوسيه ماريا أرساندو" ومؤسس معهد الإسلام للسلام "سومر نوفورى"، وكذلك الحاخام "أبراهام سكوركا".
لا شك أن مثل هذه الفعاليات تسهم في تعزيز الحوار بين الأديان وتقريب وجهات النظر، ونأمل أن تستمر في الانعقاد على المستويين المحلي والدولي. كما أن حضور المؤسسات الدينية والتعليمية في مثل هذه المؤتمرات يعزز من قدرتها على مناقشة القضايا المعاصرة المطروحة على الساحة، والتي تمثل إشكالية للكثيرين.
كما نظّم المركز الدولي للحوار بين الأديان والثقافات "كايسيد"KAICIID، بالتعاون مع المجلس اليهودي العالمي ومديرية الشؤون الدينية في العاصمة الأرجنتينية "بوينُس آيرس" أنشطة بين طلاب المدارس من مختلف الديانات تحت شعار "الحوار بين الأديان والتعايش بين المواطنين"، تناقش الحوار ودوره في ترسيخ التعايش بين أفراد المجتمع. شارك في هذه الفعالية مسؤولون سياسيون ودينيون من داخل الأرجنتين وكذلك من خارجها. وخلال الاجتماع نوقشت العديد من الموضوعات المهمة مثل الآثار المترتبة على العمل المشترك بين الدولة والطوائف الدينية، وأهمية الحوار بين الأديان في بناء مجتمع يسوده السلام والتعددية والتلاحم بين المواطنين.
وفي بوليفيا نظّم المركز الإسلامي في بلدية "سانتا كروث دي لا سيِّرا" دروساً لتعليم اللغة العربية والقرآن الكريم والتفسير للأطفال والشباب، بالإضافة إلى عقد محاضرات حول الإسلام والثقافة الإسلامية والقيم الإجتماعية والتعايش واحترام خصوصية الأفراد، وذلك ضمن الأنشطة الاجتماعية والتربوية للمراكز الإسلامية. كما استقبل المركز مجموعة من طلاب جامعة NUR البوليفية ومدرسة "خوسيفينا بلسامو" للحديث حول الإسلام وسماحته، وكذلك الرد على أسئلتهم.
وفي دولة شيلي، في بادرة طيبة، قامت رئيسة الدولة بدعوة الجالية المسلمة في البلاد لتناول الإفطار في إحدى ليالي شهر رمضان الماضي، وهو الأمر الذي ترك انطباعًا جيدًا لدى المسلمين، والذي يعكس رغبة الحكومة -وعلى رأسها رئيسة البلاد- في وجود نوع من التعايش بين جميع الطوائف والمعتقدات الدينية المختلفة. ولم يقتصر الأمر على دعوتهم لتناول الإفطار فحسب، بل أمرت بأن يُرفع الآذان داخل القصر الرئاسي لأول مرة في التاريخ لتناول الإفطار والسماح للمسلمين بممارسة شعائرهم الدينية. كما كان لها لفتة طيبة أخرى تمثّلت في استقبال 14 عائلة من اللاجئين السوريين مؤخرًا.
• ننماذج ملموسة
يتمتع المسلمون في أمريكا اللاتينية بقدرٍ كبيرٍ من الاندماج، لا سيّما من خلال التعاملات اليومية مع بقية أفراد المجتمع ومن خلال شَغلهم العديد من المناصب والأعمال العلمية والثقافية والتجارية وغيرها من المجالات، وينعكس هذا في شكل إسهامات تساعد هذه الدول على الوحدة المجتمعية والنهضة والتقدم في المجالات كافة.
وفي هذا السياق نكتفي بذكر مثال للتدليل على اندماج المسلمين، وربما نعرض في تقارير لاحقة نماذج أخرى تؤكد نجاح هذا الاندماج. ونذكر هنا المسلمة "مايبلين ثُريا ألباريث" والتي تبلغ من العمر25 عامًا، وتعمل بالقوات الجوية في دولة الإكوادور منذ عام 2008، والتي كانت قد تخرجت في معهد علوم الطيران. وتعتبر أول مسلمة تعمل كطيّار في أمريكا اللاتينية. وقد أفادت خلال حوار صحفي أن جميع الأبواب فُتحت لها على الرغم من أنه لم تصل أية امرأة مسلمة لهذه الوظيفة بأي من دول أمريكا اللاتينية من قبل، وأكدت أن كل أصدقائها يعرفون أنها مسلمة ويحترمون ذلك، وتشعر بالفخر أنهم بدؤوا في التعرُّف على الإسلام. وأضافت أنها واجهت العديد من الصعوبات في البداية، ولكنها لم تفقد الأمل في تحقيق حلمها لإيمانها القوي بقدراتها، موضحة أن لجنة الاختيار في القوات الجوية أبدت اندهاشًا عند تقدمها لهذه الوظيفة.
وفي بداية مشوارها واجهت "مايبلين" بعض التحديات في العمل، فعلى سبيل المثال كانت تضطر في بعض الأيام إلى شرب المياه فقط لأن الطعام المتاح يُخالف شريعة الإسلام، قائلة: "كان عليّ أن أكون صبورة حتى أتمكَّن من النجاح". وفي تلك الفترة فقدت الطيارة المسلمة 10 كجم من وزنها، وهو ما أثار قلق قادتها، فأوجدوا لها حلًا، وقرروا تخصيص وجبات لا تحتوي على ما هو محرم في الإسلام، كما أنها خصصت فترات محددة خلال عملها لتتمكن من أداء الصلاة. وناشدت "مايبلين" جميع المسلمين بالاتحاد والدفاع عن الدين ضد الجماعات المتطرفة التي تنشر انطباعًا سيئًا عن الإسلام في جميع أنحاء العالم، مضيفة أن هدفها الأسمى والبعيد أن تصبح وزيرة لدفاع للإكوادور.
يمكن القول أن طريق التعايش والقضاء على الأحكام المسبقة الخاطئة عن الإسلام- والمنطبعة لدى البعض خاصة ممن يربطون الإرهاب بالإسلام- ليس ممهدًا سهلًا، بل هناك العديد من التحديات التي تواجه الجمعيات الإسلامية في أمريكا الجنوبية مثل قلة المدارس الدينية وعدم وجود دعم مادي حكومي بما يجعلها تؤدي مهامها بصورة أقوي. كما تمثل قلة أماكن بيع المنتجات الحلال مُشكلة لكثير من المسلمين في أمريكا اللاتينية، حيث يضطرون إلى اللجوء إلى أماكن بعيدة من أجل الحصول على الأطعمة الحلال. ولكن رغم هذه الصعوبات استطاع المسلمون التغلب على كثير منها وتَطلَّب ذلك المساهمة بمجهودات شخصية لخدمة المشروعات الإسلامية والنهوض بصورة الإسلام هناك.
وحدة الرصد باللغة الإسبانية
2996