مسلمو آسيا.. ثقافة واندماج
(ماليزيا نموذجًا)
في إطار سعي مرصد الأزهر لمكافحة التطرف ("المرصد") إلى تعريف المسلمين في العالم ببعضهم بعضًا في كل البلدان، وبأحوال الإسلام والمسلمين في البلاد الإسلامية الواقعة في أقاصي أطراف العالم الإسلامي خصوصًا، تقدم وحدة اللغة الصينية سلسلة من المقالات عن تكوين القوميات والمجتمعات المسلمة، وجذورها التاريخية وتراثها الثقافي. وبالرغم من أن سطوع نور الإسلام قد بدأ من خلال شبه الجزيرة العربية في أقصى الجنوب الغربي من قارة آسيا، فإن انتشار الإسلام في آسيا استمر لقرون متعددة حتى وصل إلى أقصى بقاع تلك القارة.
لا تزال الدراسات والتحليلات التي تتناول الوجود الإسلامي في قارة آسيا بحاجة إلى التعمق والغوص في بحور تلك الثقافات نظرًا إلى وجود أكبر قوميات مسلمة بالعالم في قارة آسيا، وتحديدًا في الهند والصين وبلاد آسيا الوسطى، كما تحتضن آسيا كثيرًا من المسلمين في دول آسيوية غير مسلمة، يعيشون مع أهل الديانات الأخرى جنبًا إلى جنب في حال من الاندماج والتعايش.
تبدأ أولى حلقات تلك السلسلة التي تتناول أهم الدول والمجتمعات المسلمة في آسيا بدولة ماليزيا، التي لديها تاريخ كبير وحاضر مزدهر، وأحد التجارب المهمة في التعايش بين القوميات والفئات السكانية المتنوعة.
مسلمو آسيا
تمتاز قارة آسيا باتساع أراضيها وتنوع أعراق أهلها وثراء ثقافة شعوبها، ومع دخول الإسلام تلك الأراضي حافظ المسلمون على ذلك التعدد الثقافي، وزادوه ثراءً وقوة، فقد استطاعوا أن يمتزجوا مع كثير من القوميات ليكون لهم دور فعال وبارز بتنوعهم الفكري والثقافي. ولم يكن اتصال العرب بمجتمعات قارة آسيا المتنوعة جديدًا، فقد عرف العرب التجارة المبكرة مع الهند والصين وعدد من الشعوب المختلفة، فأصبح الطريق ممهدًا لانطلاق الدعوة الإسلامية. وقد كان أقوى اتصال بين شعوب آسيا مع المسلمين الأوائل من خلال التجارة والمصاهرة، ما جعل الإسلام يختلط بأعراق وأجناس كثيرة، ومن أشهر تلك البلاد البعيدة عن الجزيرة العربية التي دخلها الإسلام بالطرق السلمية: الصين، وجزر دولة إندونيسيا؛ ومن بينها سومطرة وملقا وجاوة، إضافة إلى الفلبين وميانمار وتايلاند.
أصبح الإسلام في القرن الأول الهجري قوة كبيرة في آسيا، وخاصة بعد وصول الإسلام إلى أقصى شرق القارة. وبالرغم من ذلك فقد وُجِدَت أمم كثيرة لم تتعرض للفتوحات الإسلامية، ولكن عرفها التجار والبَحَّارة المسلمون الذين لم يبخلوا بدعوتهم على تلك الأمم، فحملوا العقيدة الإسلامية ونشروها بأخلاقهم التي أبهرتهم. وتتركز أهم تلك الدول الآسيوية التي عرف أهلها الإسلام عن طريق التجارة والمصاهرة في بلاد شرق آسيا - مثل الصين، وبلاد آسيا الوسطى، وبلاد جنوب شرق القارة الآسيوية مثل: إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، حيث تحظى كل دولة من الدول المذكورة آنفًا بتجربة تاريخية فريدة من نوعها من حيث طريقة وصول الإسلام إليها، أو من حيث تأثرها بالحضارة الإسلامية.
نبذة تاريخية عن ماليزيا
تُعد ماليزيا جزءًا من أرخبيل([1]) الملايو الكبير الذي يقع بين جنوب شرق آسيا وأستراليا، وهي شبه جزيرة ذات موقع إستراتيجي، وظل الموقع الإستراتيجي الذي تتمتع به ماليزيا مطمعًا لكثير من القوى الاستعمارية الكبرى، فتعرضت للاستعمار البرتغالي والهولندي والياباني، لا سيما بسبب مضيق ملاكا الإستراتيجي الذي يطل على بحر الصين الجنوبي شرقي ماليزيا. ومنذ العصور الوسطى نهضت دول أرخبيل الملايو (ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وبروناي) بدور حيوي في الممرات البحرية العابرة للأقاليم - مثل بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي.
أصبحت دولة ماليزيا منذ مدة مبكرة مكانًا لتجمع الثقافات المختلفة، وخاصة الثقافة الإسلامية، كما أنها دولة غنية بالموارد الطبيعية، ويعتبر إنتاجها وصادراتها من المطاط وزيت النخيل والفلفل من بين الأفضل في العالم. وفي منتصف الثمانينيات وأواخرها واصل الاقتصاد الماليزي تطوره بوتيرة سريعة حتى صارت واحدة من أكثر الدول الصناعية الناشئة لفتًا للأنظار في آسيا والعالم الإسلامي.
تُعرف ماليزيا بأنها دولة متعددة الأعراق والأديان، فقد حصلت على استقلالها من الحكم البريطاني في عام ١٩٥٧م. وتتمتع الدولة الآسيوية بسمات خاصة، فهي دولة ملكية دستورية ذات نظام فيدرالي، لغتها الرسمية هي اللغة الملايوية، وهي اللغة الرسمية لكل من ماليزيا، وبروناي، وسنغافورة، وتستخدم في تيمور الشرقية، وهي لغة مشابهة إلى حد كبير للغة الإندونيسية. تتكون ماليزيا من قوميات متعددة، من أهمها: الملايو والصينيون والهنود، ويتجاوز عدد سكانها ٣٤ مليون نسمة. تعد قومية الملايو أهم المجموعات العرقية في البلاد وأكبرها، تدين بالإسلام وتفخر بأنه جزء مهم من هويتها؛ علمًا بأن نسبة المسلمين في ماليزيا تتجاوز ٥٥٪. تتكون ماليزيا من اتحاد ولايات أهمها سرواك، ومنطقة لابوان الفيدرالية. وبالرغم من التعدد العرقي والديني، فقد استطاعت ماليزيا تجاوز النعرات العرقية والدينية، التي كانت عقبة أمام الاتحاد، لتصل اليوم إلى مجتمع متنوع متسامح، ليصبح المجتمع الماليزي نموذجًا فريدًا من الأعراق والأديان.
الإسلام في ماليزيا
احتضنت قارة آسيا الإسلام على أرض شبه الجزيرة العربية، ففي القرن السابع الميلادي بدأ الإسلام ينتشر في سوريا والعراق وفلسطين وإيران، ثم وصلت الفتوحات الإسلامية إلى أقصى شرق آسيا، لكن يبقى الجهد الأكبر للعلماء والدعاة المسلمين الذين نشروا الإسلام في أماكن لم تطأها أقدام الفاتحين. ومع بداية القرن الرابع عشر، بدأ الإسلام ينتشر سلميًّا في شبه جزيرة الملايو، فكان لذلك أثر كبير في نهضة التعليم الإسلامي ليكون له قوة متجذرة على تلك الأرض. وكان التعليم الإسلامي التقليدي عاملاً مهمًّا في تشكيل الهوية الوطنية للملايو، وفي وقت لاحق أصبح التعليم الإسلامي عاملًا رئيسًا في مواجهة غزو الاستعمار الغربي، فقد نجحت المدارس الدينية الإسلامية في شبه جزيرة الملايو في نقل الثقافة الإسلامية التقليدية للأجيال المتلاحقة.
للإسلام مكانة سامقة في الدستور الماليزي، إذ ينص الدستور على أن دين الدولة الإسلام، ويجعل ملك ماليزيا راعيًا للإسلام في البلاد، كما أن ماليزيا اليوم عضو فاعل في رابطة العالم الإسلامي، والمسلمون في ماليزيا هم في الغالب من أهل السنة؛ علمًا بأن الدستور الماليزي ينص أيضًا في مادته الثالثة على أن "الإسلام دين الدولة مع صون الحق في ممارسة الأديان الأخرى بسلام".
التعايش في ماليزيا
يتميز المجتمع الماليزي بأنه مجتمع متعدد الأعراق والقوميات المتعايشة في ما بينها على مدار قرون، نما فيها المجتمع لإسلامي، حتى أصبح الدين الأكبر في البلاد. ويُعرف المسلمون في ماليزيا بـاسم "الملايويين"، ومعهم أعراق أخرى من أهمها الصينيون والهنود والأقليات ذات الأصول اليابانية والإندونيسية والأوروبية وحتى العربية، إضافة إلى مجموعة من الأقليات الباقية من سكان الجزيرة الأصليين. ولكل مجموعة عرقية ديانات وثقافات وعادات مختلفة. ويسمح بإقامة الأعياد والمهرجانات لكل العرقيات، إذ تُصان التقاليد والعادات التاريخية القديمة لكل قومية - مثل عيد رأس السنة الصينية، وعيد ثايبوسام (مهرجان هندوسي)، وعيد رأس السنة الهندية في شهر يوليو من التقويم الهندوسي، إضافة إلى الأعياد الوطنية الكبرى والأعياد الإسلامية.
لم يكن التعايش والاندماج بين القوميات في ماليزيا أمرًا سهلًا، فقد مرت عقود بين تلك القوميات حتى استطاعت أن تتخلص من كل تلك النعرات الطائفية والعرقية، بفضل برنامج تعليمي تبنته الحكومة الماليزية، والدعاية الإيجابية التي ركزت على العوامل المشتركة بين تلك القوميات، ورفعت قيم التسامح والمؤاخاة، حتى استطاع المجتمع الماليزي الوصول إلى النهضة العلمية والصناعية الموجودة الآن.
كما سمحت الحكومة الماليزية بتنفيذ سياسات التعليم الوطنية، وتركت أيضًا مجالًا واسعًا لتطوير المدارس الخاصة والمدارس الدينية والمدارس الصينية؛ فقد انتشرت المدارس الصينية في جميع أنحاء البلاد حتى بات عددها يزيد عن ١٢٠٠ مدرسة ابتدائية، و٦٠ مدرسة متوسطة صينية، وعشرات الكليات والجامعات الصينية في ماليزيا، ونتيجة لذلك أصبحت ماليزيا دولة بها أكبر عدد من الطلاب يتعلمون في ظل النظام التعليمي الصيني.
في الختام، يمكن القول: إن المسلمين في دول آسيا -وخاصة في ماليزيا- خاضوا تجارب كثيرة وصولًا إلى هذا التنوع الثقافي والحداثة الاقتصادية، ورأينا كيف أن الإسلام في ماليزيا تمكن من تحقيق توازن فريد بين تراثها الثقافي وتطورها السريع، وحافظ على التنوع السكاني لشعبها، الذي يضم جمهرة من القوميات؛ لذا يشيد مرصد الأزهر بهذا النموذج الفريد ويؤكد دعمه الكامل للاندماج والتعايش بين القوميات.
وحدة الرصد باللغة الصينية
([1]) الأرخبيل: مجموعة متقاربة ومتجاورة من الجزر.
2226