الروهينجا

مسلمو آسيا... ثقافة واندماج

مسلمو آسيا... ثقافة واندماج

(إندونيسيا نموذجًا)

يولي مرصد الأزهر اهتمامًا خاصًّا إلى دراسة أوضاع المسلمين في العالم، ويسلط الضوء على التحديات والفرص التي تواجهها المجتمعات المسلمة في العالم، مع التركيز على دور التعليم والدعوة في الحفاظ على الهوية الإسلامية، وتعزيز قيم الوسطية والاعتدال التي تمسك بها الأزهر الشريف. وتستكمل وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر سلسلة مقالاتها عن مسلمي آسيا، في إطار تعريف مسلمي الأمة الإسلامية بإخوانهم في قارة آسيا؛ لما لهم من دور كبير في إثراء الثقافة الإسلامية بكثير من المعارف والعلوم الدينية.

وفي هذه الحلقة يتناول المقال مسلمي دولة إندونيسيا من حيثُ الموقع والتاريخ والثقافة، وكيفية دخول الإسلام إليها.

تاريخ إندونيسيا وموقعها

ترجع تسمية "إندونيسيا" إلى الكلمتين الإغريقيتين "إندوس" التي تعني الهند، و"نيسوس" التي تعني الجزيرة، ليصبح اسم إندونيسيا بمعنى "جزر الهند"، وظهر الاسم بمعناه الحديث لأول مرة في القرن التاسع عشر. كان الاسم القديم لإندونيسيا جزر "نوسَنْتَرا"، ومعناه "الجزر وما بينها" (أو الأرخبيل)، ولفظ نوسَنْتَرا مصطلح تاريخي جغرافي، استخدم قديمًا للإشارة إلى الأرخبيل الإندونيسي والمناطق المحيطة به في جنوب شرق آسيا. وفي عام 2022، أعلنت الحكومة الإندونيسية رسميًّا عن إطلاق اسم "نوسَنْتَرا" على العاصمة الجديدة الجاري بناؤها في كليمنتان الشرقية، وذلك بعد أن قررت الحكومة نقل العاصمة من جاكرتا بسبب مشكلات الازدحام والتلوث البيئي في المدينة.

تقع دولة إندونيسيا في جنوب شرق آسيا، وتتألف من أرخبيل يضم أكثر من 17,000 جزيرة، ما يجعلها أكبر دولة جزرية في العالم. كما أنها من الدول التي تطل على المحيطين الهادئ والهندي، ما يمنحها موقعًا إستراتيجيًّا بحريًّا مهمًّا للتجارة والملاحة. كما أنها تتميز بالتنوع الجغرافي والثقافي وبها كثير من المناطق الطبيعية البكر، وهي أكبر دولة في جنوب شرقي آسيا، ورابع دولة عالميًّا من حيث عدد السكان، بعد الصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية. ولإندونيسيا دور مهم في الشئون الإقليمية والدولية، بوصفها واحدة من أكبر دول العالم من حيث عدد السكان.

تحد إندونيسيا دول بحرية وبرية، منها:

ماليزيا - من الشمال، وتحد إندونيسيا عند جزيرة بورنيو.

بابوا غينيا الجديدة - من الشرق، وتشارك إندونيسيا الحدود في جزيرة غينيا الجديدة.

تيمور الشرقية - من الجنوب الشرقي، وهي جارة لإندونيسيا على جزيرة تيمور.

الفلبين - من الشمال الشرقي، وتشترك معها في الحدود البحرية.

سنغافورة - تقع شمال غرب إندونيسيا عبر مضيق سنغافورة.

أستراليا - من الجنوب، عبر البحر.

الإسلام في إندونيسيا

يُعد الإسلام في إندونيسيا قصة نجاح دينية وثقافية واجتماعية؛ إذ يجسد حقيقة انتشار الإسلام بالدعوة، ويدحض مزاعم انتشاره بحد السيف، فلم يكن دخول الإسلام بفتوحات عسكرية، بل عبر الدعوة السِّلْمية والتجارة والتفاعل الاجتماعي، فقد وصل الإسلام إلى إندونيسيا عبر التجار المسلمين من العرب والهنود في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري)؛ حيثُ كان التجار العرب والمسلمون جزءًا من شبكات التجارة البحرية التي ربطت العالم الإسلامي بجنوب شرق آسيا. وفي ذلك الوقت كان معظم السكان يؤمنون بالهندوسية والبوذية. وقد تميز انتشار الإسلام في البلاد بالتدرج، فبالرغم من وجود التجار المسلمين في أرخبيل الملايو وبداية دعوتهم مبكرًا، فإن الوجود الإسلامي ظل ينمو عبر مئات السنين، وقد استدل الباحثون بالآثار التاريخية الموجودة في المساجد القديمة في جاوة، لإثبات وجود مسلمين قادمين من الصين في القرن التاسع الميلادي، إضافة إلى مسلمي الهند الذين كان لهم دور في نشر الإسلام في المنطقة.

تذكر المصادر التاريخية أن الانتشار الأوسع للإسلام حدث في القرون: من الثالث عشر إلى السادس عشر؛ إذ انتشر الإسلام تدريجيًّا في أجزاء كبيرة من الأرخبيل الإندونيسي، وسجل ذلك الرحالة البندقي "ماركو بولو"، فذكر أن سومطرة الشمالية عام ٦٩١هـ (أي ١٢٩٢م) هي مملكة مسلمة. يُرجِع المؤرخون الفضل للانتشار الواسع للإسلام في الجزر الإندونيسية إلى السلاطين المحليين، فقد كان السلاطين قادة دينيين وسياسيين، وكان شعب الملايو معروفًا بالولاء الكامل لملوكه، وأدى هذا الولاء إلى سهولة انطلاق الدعوة لسكان هذه البلاد، ما أسهم في تعزيز الإسلام بوصفه الدين السائد. ومن أهم أولئك السلاطين سلطان مملكة ملقا (MELAKA)، وهى أكبر دولة إسلامية في أرخبيل الملايو، حيث أسلم سلطانها المسمى "بارا مسوارا" ثم غير اسمه إلى السلطان "مجت إسكندر شاه" في سنة ١٤١٤م، متأثرًا بأخلاق التجار المسلمين، وقد استمر رعاية سلاطين "ملقا" للدعاة، وعاملوهم بكل احترام، وأعطوهم بيوتًا ليسكنوا فيها، وأرضًا ليبنوا عليها مساجدهم، ما أسهم في جعل الإسلام دينًا لغالبية شعب إندونيسيا.

ظلت منطقة أرخبيل الملايو مطمعًا لقوى الاستعمار الغربية، فقد تعرضت لهجمات استعمارية متعددة؛ وكان للإسلام دور حاسم في مقاومة الجيوش الاستعمارية بمنطقة جنوب شرق آسيا عمومًا، وفي إندونيسيا خصوصًا. وكان الدين الإسلامي مصدرًا للقوة والهوية، وقدم إطارًا معنويًّا وأخلاقيًّا للمقاومة ضد القوى الاستعمارية. شهدت إندونيسيا هجمات استعمارية من دول مختلفة، منها الاستعمار الهولنديّ لمدة تجاوزت ثلاثة قرون، والاستعمار البرتغالي والإنجليزي والياباني، وفي كل تلك الحقب كان الإسلام محورًا رئيسًا في توحيد الشعب والتحفيز على الكفاح ضد الاستعمار. وكانت القيم الإسلامية -مثل العدالة والمساواة ومقاومة الظلم- نقاطًا محورية في تشكيل الخطاب الوطني، واستخدم العلماء والمدرسون التعليم الإسلامي لنشر الوعي السياسي والديني، ما حفَّز الشعب على مقاومة الاستعمار. كانت الدروس الإسلامية تتضمن مفاهيم الجهاد والتحرر من الطغيان، ما جعل التعليم وسيلة لنشر فكرة التحرر.

 

الإسلام وقبول الآخر في إندونيسيا

تُظهر قصة الإسلام في إندونيسيا كيف يمكن للدين أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وفي الوقت نفسه، يحترم التعددية ويشجعها، فقد تعايش الإسلام في إندونيسيا مع تراث غني من التقاليد المحلية والتنوع الديني، فالمساحة الشاسعة لإندونيسيا جعلتها من أكبر الدول صاحبة التعدد العرقي، إذ يعيش فيها أكثر من ١٠٠ مجموعة عرقية، منها الجاوية (47%)، والسوندانية (14%)، والمادورية (7%)؛ فضلًا عن تعدد اللغات في البلاد بما يزيد عن أكثر من 200 لغة لمختلف المجموعات العرقية، لكن تبقى اللغة الإندونيسية هي اللغة الوطنية والرسمية للبلاد، وتستخدم في جميع أنحاء البلاد. على الرغم من أن الإسلام هو الدين السائد (يشكل المسلمون نحو 87% من السكان)، فإن الحكومة تعترف بتعدد الأديان بما في ذلك المسيحية، والهندوسية، والبوذية، والكونفوشية. كما يعد الإسلام في إندونيسيا نموذجًا للاعتدال والتسامح، مع تأثير كبير في السياسة والثقافة في البلاد، كما تُعرف إندونيسيا بتسامحها الديني، واحتضانها للتعددية الثقافية؛ حيث يعيش المسلمون جنبًا إلى جنب مع أتباع الأديان الأخرى. وعلى الرغم من أن الإسلام في إندونيسيا معروف بالاعتدال، فإن المسلمين في إندونيسيا يواجهون تحديات العصر الحديث مثل تحديات العولمة والتحديث، لكنهم يسعون جاهدين للحفاظ على التوازن بين التقاليد الإسلامية ومتطلبات العصر.

العلاقة بين الأزهر وإندونيسيا

تمتاز العلاقات بين الأزهر وإندونيسيا بعمقها التاريخي، وقوتها المتجذرة في التعاون الديني والتعليمي، ففي أروقة الأزهر برز العديد من العلماء الإندونيسيين الذين درسوا في الأزهر وعادوا إلى بلادهم لنشر العلوم الإسلامية، ومنهم من كان له دور بارز في نشر الفكر الإسلامي في إندونيسيا، فقد بدأت تلك العلاقة منذ قرون طويلة، حيث كان الحجاج الإندونيسيون يلتقون في أثناء زيارتهم لبيت الله الحرام بعلماء الأزهر الشريف، ويسألون عن شئون حياتهم، ومسائل الفقه والشريعة؛ ومن هنا انطلقت أول شرارة لدور الأزهر الشريف في تدوين العلم، ونشر الثقافة الإسلامية في تلك البلاد البعيدة. ولم يكن استضافة الأزهر الشريف لآلاف الإندونيسيين سنويًّا للدراسة في مختلف التخصصات الشرعية وليدة اليوم، فقد استحق طلاب العلم الإندونيسيون أن يُخصص لهم رواق باسمهم داخل الجامع الأزهر، وهو رواق الجاوة.

امتازت الرحلة العلمية للطلبة الإندونيسيين بالاجتهاد والمثابرة، فلم تكن الرحلة من جنوب شرق آسيا إلى القاهرة سهلة، في وقت لم يكن العالم يعرف أدوات النقل الحديثة، بل كانت رحلة الطالب من أبناء الجزر الإندونيسية إلى مصر للتعلم في الأزهر الشريف تستغرق وقتًا طويلًا؛ حيث كانت تبدأ من جزر إندونيسيا إلى جنوب اليمن، وتحديدًا إلى مدينة تريم - وهي إحدى مديريات حضرموت- حيث وجدوا الرعاية والعناية، ويحفظ الطالب في مدارسها القرآن الكريم، ومتون العلوم الإسلامية والعربية مع إخوانهم اليمنيين، وفور إتمام الطالب العلوم الشرعية المطلوبة، يُقام له احتفال مهيب استعدادًا للذهاب إلى الجامع الأزهر، ليلتحق بزملائه ممن سبقوه من الطلاب، فيسجل اسمه بالسجل العمومي الخاص بالطلاب، وينخرط مع زملائه في حلقات العلم بالأزهر في رواق الجاوة -وهو أحد الأروقة الشهيرة في الأزهر الشريف، وقد أُنشئ خصيصًا لاستقبال الطلاب القادمين من منطقة جنوب شرق آسيا- حتى إذا حصّل العلم الكافي اختبره شيوخ المرحلة الأولية، وبمجرد قدرته على تجاوز الاختبار يُنقل إلى المرحلة الثانية لدراسة شروح أوسع وأكبر، ثم المرحلة الثالثة لدراسة الموسوعات في العلوم الدينية والعربية، وفور انتهائه من الدراسة يطلب من شيوخه الإجازة، فيعقدون له اختبارًا في أحد العلوم التي يختارها. ومع مرور الزمن، تطورت نُظُم الدراسة والتعليم في الأزهر، ولا تزال العلاقة بين الأزهر وطلاب إندونيسيا قوية، وليس أدل على ذلك من استقبال آلاف الطلاب من إندونيسيا وغيرها من دول العالم.

في الختام، يمثل مسلمو آسيا، وتحديدًا في إندونيسيا، نموذجًا حيًّا للتعايش بين الهوية الإسلامية والثقافات المحلية المتنوعة؛ إذ نجح الإسلام في استيعاب التقاليد والعادات الإندونيسية وتهذيبها، وتمثل تجربة الإسلام في إندونيسيا درسًا مهمًّا للعالم لإسهام الدين بإيجابية في بناء مجتمع متنوع مزدهر.

وحدة الرصد باللغة الصينية


 

الموضوع السابق مسلمو آسيا.. ثقافة واندماج
الموضوع التالي دراسة تحليلية بعنوان مسلمو أوروبا ضحايا "التنميط والتمييز العنصري".. فرنسا أنموذجًا
طباعة
1203