نرى أن كل هذه الخطوات تمثل تغيرًا إيجابيًا فى خطاب الحكومة الألمانية فى مواجهة التطرف اليمينى .
الخطاب الرسمى الألماني ..هل تغير فى مواجهة اليمين المتطرف؟
مواصلةً للمقالات التى نشرتها الوحدة الألمانية بمرصد الأزهر الشريف فى شأن الإسلام والمسلمين فى ألمانيا وكذلك الشأن الخاص باللاجئين وأوضاعهم هناك والهجمات التى تعرضوا لها على مدار الأشهر الماضية، نحاول فى هذا المقال إلقاء الضوء على جانبٍ آخرٍ من جوانب القضية ألا وهو الموقف الرسمى للمسئولين الألمان من ظاهرة الإسلاموفوبيا سواء على أرض الواقع أو فى العالم الافتراضى على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. إذ بلغ معدل الجرائم المرتكبة بحق المسلمين من بداية العام المنصرم وحتى منتصف نوفمبر 1650 جريمة فى عموم ألمانيا، وكان أكثر أنواع تلك الجرائم شيوعًا حرق مقرات إقامة اللاجئين. أما موقف السلطات الألمانية من هذا الأمر فكان محيرًا للغاية لعدم اتخاذها الإجراءات الكافية لحماية هذه المقرات. مما حدا بأحد برامج التلفزة الساخرة أن تخصص فقرة من برنامجها بتاريخ 6 نوفمبر 2015 لهذا الأمر ونشرت صورة على موقعها ساخرة من عدم اتخاذ الشرطة الإجراءات الكافية. كتب عليها: (كل ليلة تشتعل النيران فى مقرات اللاجئين، وكل مرة تصرح الشرطة: "لم يتضح بعد إن كان للأمر علاقة بعداء الأجانب". ما هو إذن؟ هل هو نقد عملى للفن المعمارى لهذه المقرات؟) ربما كان لهذه التعليقات وغيرها أثر فى توجيه بوصلة المسئولين الألمان فى تعاطيهم مع هذا الأمر الشائك. حيث شهدت الفترة الماضية عددًا من التصريحات من جانب المسئولين الألمان قد تنبئ باتخاذ الحكومة قرارًا واضحًا بالوقوف فى وجه التطرف اليمينى الذى يوجه جرائمه تجاه اللاجئين والمسلمين فى ألمانيا عمومًا. تصريحات من شأنها أن تنبئ عن تغير لهجة هؤلاء المسئولين إزاء التطرف اليمينى بجماعاته وأحزابه. ولكن هل يرافق هذا التغيير فى لهجة المسئولين إجراءاتٍ تتخذ على أرض الواقع للحيلولة دون تزايد هذه الهجمات وحماية اللاجئين؟ أم تبقى مجرد دعاية يطلقها هؤلاء السياسيون لكسب مزيدٍ من التأييد لأحزابهم؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه فى هذه السطور..
صوت الأغلبية الصامتة
فى الأسبوع المنصرم طالعتنا جريدة دى تسايت Die Zeit بخبرٍ عنوانه "وزير العدل الألمانى يريد سماع صوت الأغلبية الصامتة". حيث طالب الوزير هايكو ماس - المنتمى للحزب الديمقراطى الاجتماعي- فى مقابلة مع وكالة الأنباء الإنجيلية المواطنين الألمان بإبداء معارضتهم لعداء الأجانب فى مقار العمل وفى المقاهى وملاعب كرة القدم، داعيًا بذلك الشعب الألمانى لاتخاذ موقفٍ أكثر وضوحًا من الأعمال العدائية للأجانب. وقال ما نصه "لا ينبغى للأغلبية الصامتة أن تصمت أكثر من ذلك". فهذه المشكلة تمس الجميع حسب قوله. وطالب الوزير أيضًا بمساواة الجمعيات الإسلامية بنظائرها المسيحية لتكون هذه خطوة على طريق تقوية مكانة الإسلام فى المجتمع الألماني. كما رأى أن تدريس الدين الإسلامى فى المدارس والجامعات من شأنه أن يساهم فى هذا الأمر. ولم يفت الوزير أن يطالب الروابط الإسلامية بتحمل مسئوليتها فى هذا الأمر، فحتى يتسنى للحكومة عقد اتفاقيات معهم، فإنه ينبغى عليهم أن يكونوا أكثر تنظيماً، وفى الموقف الحالى عليهم أن يتحملوا جزءًا من المسئولية، لأنه لا ينبغى إهمال ازدياد الأصولية الدينية فى أى من هذه التجمعات الدينية. رفض الوزير أيضًا حظر مظاهرات حركة بيجيدا اليمينية المتطرفة ومثيلاتها متعللًا بحرية التعبير التى تكفل حق التظاهر فى المجتمع الألماني.
تعليقات الكراهية
ومع تزايد دور وسائل التواصل الاجتماعى فى صناعة الوعى والمزاج الشعبى أولت الحكومة الألمانية ممثلةً فى وزير العدل هايكو ماس اهتمامًا بهذا الأمر أيضًا. ففى تفاهم بينه وبين أهم الشركات فى مجال التواصل الاجتماعى مثل فيسبوك وتويتر وجوجل فى منتصف ديسمبر الماضى توصل الوزير إلى اتفاقية تسمح بتغليب قواعد القانون الألمانى على شروط الاستخدام فى مواقع هذه الشركات فيما يخص التعليقات والمنشورات المعادية للأجانب أو ذات الطبيعة العنصرية. حيث من المفترض طبقًا لهذه الاتفاقية تشكيل قوة عمل للاضطلاع بالمهام التى يمليها هذه التفاهم بين وزارة العدل والشركات المعنية. وبمقتضى هذا التفاهم تخضع هذه التعليقات للفحص فى خلال أربع وعشرين ساعة من تاريخ نشرها ومن ثم تُحذف أو تبقى. ولهذا الغرض ستستعين تلك الشركات بخبراء ألمان مؤهلين للقيام بعملية الفحص كما ستقدم الشركات إمكانيات أكثر سهولة للتبليغ عن هذه التعليقات العنصرية. كما ستهتم تلك الشركات بدعم الأصوات المعارضة للعنصرية وعداء الأجانب. وأكد الوزير على الالتزام بالشفافية بهذا الصدد، وضرورة إبلاغ الجمهور بشروط الاستخدام المتبعة لحذف هذه التعليقات المُبلغ عنها. وقال إنه راضٍ عن هذه الإجراءات باعتبارها بدايةً للمشروع، ولكنه غير راضِ عن النتائج التى جرى التوصل إليها حتى الآن. وأكد الوزير على ضرورة زيادة الضغط على هذه الشركات بهذا الصدد وكذلك على الطبيعة المجتمعية لهذه المشكلة مطالبًا أيضًا الأغلبية الصامتة برفع صوتها فى هذا الشأن.
نخب سياسية ..محرضة
ربما كانت تصريحات وزير الخارجية الألمانى فرانك فالتر شتايمناير - الحزب الديمقراطى الاجتماعي- التى أدلى بها الأسبوع الماضى هى الأكثر قوة بين تصريحات المسئولين الألمان بهذا الشأن. إذا هاجم الوزير الأحزاب اليمينية واعتبرها شريكة فى المسئولية عن الهجمات التى تطول المسلمين والعرب. وقال إنه لأمر خطير أن يحاول البعض اصطياد الأصوات الانتخابية عن طريق الحديث عن موضوعات اللاجئين، فهذا يبين لنا أسباب تصاعد العنف من المتطرفين اليمينيين فى ألمانيا. وقد استخدم الوزير مصطلح "النخب المحرضة" فى تصريحاته للصحف. كما طالب باتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة ضد هذا الأمر، وبين أن اتخاذ التدابير اللازمة ضد مثيرى مشاعر الكراهية عل الانترنت يعتبر الرد الأمثل على خطر اليمينيين، ولكنه لم يذكر أسماء منظمات أو أحزاب بعينها. علاوةً على ذلك رفض الوزير وضع اللاجئين مع الإرهابيين فى بوتقةٍ واحدة. مؤكدًا أن معظم منفذى الهجمات على الأراضى الأوروبية أوروبيون، كما هو الحال فى هجمات باريس فى نوفمبر الماضي. وبين أن الحملة التى أجراها وزير العدل الألمانى والمنتمى للحزب الديمقراطى الاجتماعى أيضاً ضد رسائل الكراهية على الانترنت تعتبر ردا مهماً على خطر اليمنيين أيضاً.
مواجهة أم دعاية سياسية ؟
إن كثافة تصريحات المسئولين الألمان وقراراتهم فى الأسبوعين الماضيين بشأن قضية التطرف اليمينى وتركيزهم على توجيه النقد للأحزاب والجماعات اليمينية صراحةً أو تلميحًا تلفت الانتباه إلى وجود تغيرٍ فى لهجة الحكومة الألمانية بخصوص الاعتداءات على الأجانب بصفةٍ عامة واللاجئين بصفةٍ خاصة. ويمكننا أن نرجع هذا التغير إما إلى الاستجابة لموجة النقد التى طالتها فى وسائل الإعلام أو إلى شعورها بالخطر الفعلى لمثل هذه الأعمال الإجرامية من جانب اليمين المتطرف وصعوبة السيطرة عليها فى حالة تفشيها وارتفاع معدلاتها أو لمجرد الدعاية السياسية وكسب مزيد من الأرض فى المعارك الانتخابية القادمة. ولا نستطيع أن نقلل فى هذا السياق من التفاهم الذى توصلت إليه وزارة العدل مع وسائل التواصل الاجتماعى لحذف التعليقات والمنشورات المسيئة للأجانب واللاجئين، نظرًا للأهمية الكبيرة التى تحظى بها هذه الوسائل فى وقتنا الحاضر وتأثيرها الكبير على المجتمع فى تشكيل وعيه وإدراكه بالقضايا المحيطة به والتى تؤثر عليه سلبًا وإيجابًا. وعلى الرغم مما سبق ذكره من تصريحات وزير العدل بصعوبة حظر تظاهرات حركة بيجيدا اليمينية المتطرفة انطلاقًا من مبدأ حرية التعبير على الرغم من عدم رضاه عما تقوم به بيجيدا، إلا أن الأيام الماضية شهدت محاولات من الحكومة الألمانية فى بعض الولايات حظر الحزب القومى الديمقراطى حسبما ورد فى جريدة دى فيلت، وهو الحزب الذى يمثل غطاءً لكثير من أنشطة اليمين المتطرف فى ألمانيا. وهذا يمثل بلا شك خطوةً واقعية على الأرض لمواجهة أعمال العنف التى تقوم بها جماعات اليمين المتطرف فى ألمانيا وسحب الغطاء الشرعى والسياسى من تحت أقدامها. كما أن تصريحات وزير الخارجية أيضًا تصب فى سياق توجيه سهام النقد لهذه الحركات والأحزاب وذلك بهجومه الصريح عليها وتوجيه الاتهام لها باستغلال قضية اللاجئين لجمع الأصوات فى المعارك الانتخابية القادمة ومغازلة مشاعر التطرف والوطنية الزائفة لدى بعض قطاعات الناخبين المتعاطفين مع الأحزاب والحركات اليمينية. وكذلك رفض وزير الخارجية وصم اللاجئين بتهمة الإرهاب مؤكدًا أن أغلب منفذى العلميات الإرهابية التى وقعت على الأراضى الأوروبية يحملون جنسياتٍ أوروبية، مستشهدًا بهجمات باريس فى نوفمبر الماضي. ومن الملاحظ أن معظم هذه التصريحات والقرارات تأتى من جانب الحزب الديمقراطى الاجتماعى -وهو الحزب الشريك فى الائتلاف الحاكم فى ألمانيا ممثلًا ليسار الوسط-مع حزب الاتحاد المسيحى الديمقراطى – ممثلًا ليمين الوسط- تحت قيادة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. من جانبها انتهزت ميركل فرصة أعياد رأس السنة الميلادية للحديث عن اللاجئين وكيفية استفادة الدولة من تجربة الهجرة الناجحة ومناشدتها المجتمع للتماسك فى وجه دعوات العداء للأجانب، وهذا سيتحقق – حسب قولها- إن لم نتبع أولئك الذين ببرودتهم وكرههم يطالبون بأن تكون ألمانيا لهم وحدهم ويريدون إقصاء الآخرين. كان هذا الحديث جزءًا من خطاب أذاعته المحطات الرسمية الألمانية مترجمًا بالكامل إلى اللغة العربية بمناسبة رأس السنة الميلادية.
إننا إذ نرى أن كل هذه الخطوات تمثل تغيرًا إيجابيًا فى خطاب الحكومة الألمانية فى مواجهة التطرف اليمينى من قبيل محاولة حظر الحزب القومى الديمقراطي، فإننا نأمل فى رؤية المزيد من الخطوات على الأرض لمواجهة خطر التطرف اليمينى الذى فاق أعداد مناصريه وفقًا لإحصائيات هيئة حماية الدستور أعداد المتطرفين الإسلاميين بعشرة أضعاف. وإلى أن نرى مزيدًا من الخطوات على أرض الواقع تبقى بعض هذه التصريحات حبيسة الجدران التى أطلقت بين جنباتها، وتبقى الهجمات على مقار إيواء اللاجئين ناقوس خطر يدق فى المجتمع الألمانى الذى يفخر بكونه مجتمعًا متعدد الثقافات والأديان يسعى لاحتواء كافة البشر الذين يعيشون على أراضيه دون تمييز على أساس دين أو عرق أو لون.
* وحدة الرصد باللغة الألمانية