| 18 يونيو 2025 م

الشيخ عياد الطنطاوى .. "أزهري" علم الغرب لسان العرب

  • | السبت, 9 سبتمبر, 2017
الشيخ عياد الطنطاوى .. "أزهري" علم الغرب لسان العرب

تتجلى عالمية الأزهر الشريف، فى العديد من الجوانب أهمها الانفتاح على الحضارات الأخرى لتحقيق الاستفادة والتبادل العلمى فى شتى مناحى العلوم الحديثة، فمنذ نشأته التى تزيد عن الألف عام جسد علماء ومشايخ الأزهر الواقع العملى للتبادى الثقافى والحضارى مع مختلف ثقافات وحضارات العالم؛ فلولا الأزهر وشيوخه ما تعرف العرب على حضارة وثقافة الغرب، وفى الوقت ذاته ما تعرف الغرب على وسطية الإسلام وحضارة المسلمين الممتدة لما يربو عن الأربعة عشر قرناً.

وفى السطور التالية نلقى الضوء على واحد من علماء الأزهر الشريف، الذى حمل منذ ما يزيد عن المائة وخمسين عاماً راية نشر اللغة العربية والحضارة الإسلامية فى روسيا، وكان أول عربى يعين بمرسوم ملكى أستاذاً للغة العربية بجامعة بطرسبورج ومستشاراً للدولة الروسية ومشرفاً على الاحتفالات الملكية، ويُمنح تقديراً لجهوده أعلى وسامين ملكيين هناك.. إنه الشيخ محمد عياد الطنطاوي؛ الذى وصفه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، قائلاً: «هو أزهرى مشهور فى مدينة بطرسبورج الروسية حتى الآن» بأنه هو الذى غزا باللغة العربية، وبركاته موجودة هناك حتى الآن، حيث نجد الاستشراق الروسى قويا جداً فى اللغة العربية، وقد لمست هذا بنفسى فى زيارة لجامعة بطرسبورج ووجدت المستشرقين كأنهم عرب».

مولده ونشأته

ولد الشيخ محمد بن عياد بن سعد بن سليمان الشافعي؛ عام 1810 ميلادية، فى قرية نجريد التابعة لمركز طنطا - التى أخذ منها لقبه - بمحافظة الغربية، وعندما بلغ عامه السادس تردد على كُتاب القرية، وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم أرسله والده إلى الجامع الأحمدى بطنطا حيث حفظ هناك على يد الشيخ محمد الكومى والشيخ محمد أبوالنجا والشيخ مصطفى القناوى متوناً كثيرة مثل: متن المنهج فى علم الفقه، وألفية ابن مالك؛ قبل أن يبدأ فى دراسة الشروح والتعاليق على المتون.

وفى بداية دراسته بطنطا تأثر بالشيخ مصطفى القناوى، شيخ الجامع الأحمدي - آنذاك - والذى أعجب بنبوغه وقدرته الفائقة على تحصيل العلوم الشرعية فأعطاه إجازة فى تدريس الحديث من الكتب الستة؛ بالإضافة إلى موطأ الإمام مالك.

وعندما بلغ الثالثة عشر من عمره انتقل إلى القاهرة؛ ليبدأ دراسته بالجامع الأزهر الشريف، وتلقى العلم من كبار العلماء أمثال إمام المجددين الشيخ حسن العطار، والشيخ محمد بن أحمد البيجورى، والشيخ برهان الدين إبراهيم السقا.

التدريس بالأزهر

بدأ الشيخ عياد الطنطاوى، عقب أن أنهى دراسته بالأزهر الشريف؛ فى تدريس علوم تفسير القرآن والمنطق بالجامع الأزهر، ولأنه كان مولعاً بعلوم اللغة العربية وآدابها منذ الصغر، فقد انتقل إلى تدريس الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، وفى غضون شهور قليلة ذاع صيته فى هذا المضمار وأصبح سيده بلا منازع، وبسبب ضيق ذات اليد اضطر إلى العمل - بجانب التدريس بالأزهر - فى المدرسة الإنجليزية بالقاهرة؛ حيث عمل على تعليم اللغة العربية للأجانب الذين وفدوا إلى مصر بدعوة من محمد على باشا، للعمل بمختلف وظائف الدولة وبغرض إثراء الحركة العلمية التى بدأها فى عصره.

كان اتجاه الشيخ عياد الطنطاوى، إلى تعليم اللغة العربية للأجانب بالمدرسة الإنجليزية بالقاهرة؛ سبباً مباشراً فى تغيير مسار حياته فقد كان من تلاميذه المقربين المستشرقين الروسيين «موخين» و«فرين» اللذين عادا إلى موسكو عقب تخرجهما للعمل بالقسم التعليمى التابع لوزارة الخارجية الروسية، وذات يوم ترك البروفسيور «يوليان» معلم اللغة العربية بهذا القسم عمله؛ فأرسل وزير الخارجية الروسي - آنذاك - السيد «نيسيلرودى» برقية عاجلة إلى قنصله العام فى الإسكندرية «الكونت ميديم» يطلب منه البحث عن معلم ضليع فى قواعد العربية والشريعة الإسلامية ليدرس فى قسم اللغات الشرقية فى الوزارة، فما كان من الأخير إلا أن رشح الشيخ الطنطاوى للقيام بهذه المهمة.

وعلى الفور وافق وزير الخارجية الروسى على هذا الاختيار عقب تزكية وثناء من تلميذى الشيخ «موخين» و«فرين»، وهو ما دعا محمد على باشا عند علمه بهذا الأمر إلى الاجتماع بـ«الطنطاوى» وحثه على تعلم اللغة الروسية وإتقانها حتى يكون خير رسول للأزهر ومصر فى بلاد الروس.

الرحلة إلى روسيا

غادر الشيخ عياد الطنطاوى، القاهرة فى مارس عام 1840 ميلادية - وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عاماً - متوجهاً إلى بطرسبورج العاصمة الروسية آنذاك، التى وصل إليها فى مايو من العام ذاته، وبمجرد وصوله احتفت بمقدمه الصحافة والدوائر العلمية والفكرية والاستشراقية الروسية، واعتبرت مجيئه بمثابة حدث ثقافى وعلمى مهم، ولم تكن هذه الحفاوة محض صدفة؛ فقد كان اسم الشيخ الطنطاوى فى ذلك الوقت معروفاً لدى غالبية المستشرقين والرحالة الأوروبيين.

وقوبلت حفاوة استقبال رجال الفكر والأدب والصحافة والاستشراق الروسى للشيخ الطنطاوي؛ بحفاوة استقبال أخرى هى الأهم وذلك حين أصدر القيصر الروسى «نيقولاى الأول» مرسوماً فى الثانى من يوليو عام 1840، بتعيين «الطنطاوى» مستشار دولة ومشرفاً على الاحتفالات الملكية، بجانب عمله الأساسى كأستاذ للغة العربية فى القسم التدريسى بالدائرة الآسيوية لوزارة الخارجية الروسية، وهكذا صار الشيخ الأزهرى الذى ينتمى إلى طائفة علماء التنوير المسلمين يؤدى مهام عمله الجديد بصفته موظفاً فى جهاز الدولة الروسية، وعضواً فى طبقة النبلاء، وأحد المقربين من البلاط القيصرى الروسى.

وفى عام 1847 ميلادية، عُين الشيخ عياد الطنطاوى، أستاذاً بكلية اللغات الشرقية فى جامعة بطرسبورج بعدما أصبح يتقن اللغة الروسية كأى مواطن روسى، بجانب إتقانه اللغات الفرنسية والفارسية والتركية والتترية، وظل يعمل بالتدريس بالإضافة إلى كونه مستشار دولة ومشرفاً على الاحتفالات الملكية حتى نهاية عمره، ولم يغادر روسيا منذ قدومه إليها إلا مرة واحدة عام 1844، حيث عاد إلى مصر فى زيارة قصيرة إلى القاهرة وطنطا، اهتم خلالها بجمع المخطوطات الشرقية، واصطحب معه زوجته وابنه «أحمد» عائداً مرة أخرى إلى بلاد الروس.

شخصية متفردة

جمع «الطنطاوى»، خلال سنوات تدريسه بجامعة سانت بطرسبورج، بين الطرق العملية والنظرية، فقد كان يدرس قواعد اللغة ويشرح أمثال لقمان، ويقرأ قطعاً من مؤلفات تاريخية، ومن مقامات الحريري؛ كما كان يدرس الترجمة من الروسية إلى العربية، والخطوط الشرقية، وقراءة المخطوطات، والمحادثة باللغة العربية، وزاد على ذلك أن أدخل عام 1855 ميلادية، ولأول مرة فى تاريخ كلية اللغات الشرقية تدريس تاريخ العرب؛ كما لعب دوراً مهما فى إرساء حركة الاستشراق بروسيا، ووضع اللبنات المبكرة للحوار الثقافى «العربي - الروسى»، ولعل أدق وصف للتأثير الذى أحدثه «الطنطاوى» داخل المجتمع الروسى هو ما كتبه المستشرق الروسى الكبير «أغناطيوس كراتشكوفسكى» فى مؤلفه «حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوى»، حيث كتب واصفاً إياه: «الشيخ الطنطاوى، شخصية متفردة وغير متكررة فى تاريخ الاستشراق الروسى والأدب العربى الحديث».

لم يتوقف نشاط الشيخ عياد الطنطاوى، على ما سبق ذكره، فقد أسهم فى نقل علوم الحضارة العربية والإسلامية إلى روسيا، كما أعد مجموعة من المخطوطات الشرقية بلغ عددها 300 مخطوطة، تتناول موضوعات فى تاريخ الإسلام، والصوفية، والطب، والأخلاق، والفلسفة، والدين، واللغة العربية، والعروض، واللهجة المصرية العامية، ونظراً لهذه الجهود ودوره الملموس فى نقل علوم اللغة وتعليم لسان العرب إلى الطلاب الروس وتميزهم فى آليات ومناهج البحث باللغة العربية؛ قلده كل من القيصر الروسى «نيقولاى الأول» وسامى «ستانيسلان» و«القديسة حنة»، ومنحوه خاتم مرصع بالألماس باهظ الثمن.

تراث زاخر

ترك الشيخ عياد الطنطاوى، تراثاً زاخراً من الكتب والمؤلفات، أشهرها: «تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا»، والذى يعد أهم مؤلفاته، وينقسم إلى جزءين، أولهما: رواية الرحلة وأخبارها من القاهرة إلى سانت بطرس بورج، والجزء الثانى يتناول فيه كل ما شاهده وعاشه خلال وجوده فى روسيا؛ كما ألف كتاباً لا يقل أهمية عن المؤلف السابق، وهو: «أحسن النخب فى معرفة لسان العرب»، وكتبه باللغة الفرنسية وقد أكسبه هذا الكتاب شهرة واسعة فى كل دول أوروبا.

وللشيخ الطنطاوى، أيضاً العديد من المؤلفات والتراجم نذكر منها: «ترجمة تاريخ روسيا الصغير» لـ«أوسترالوف»، و«قاموس عربى فرنسى» طبع فى قازان عام 1849 ميلادية، و«ترجمة الباب الأول من كلستان» لـ«سعدى الشيرازى»، و«مجموعة الحكايات»، و«ملاحظات فى تاريخ الخلافة والشرق الإسلامى»، و«قواعد اللغة العربية» وهو مكتوب بالروسية، ومجموعة أمثال عربية مترجمة للروسية، وثلاث مقالات باللغة الفرنسية؛ بالإضافة إلى مجموعة من المصنفات الخاصة فى العقائد، وقواعد اللغة، والبلاغة، والعروض والقوافى، والجبر والميراث والحساب، وأسماء الناس والخيل الأصيلة وتدبيج الشروح والحواشى على مصنفات غيره.

نهاية الرحلة

وفى سبتمبر من عام 1855 ميلادية؛ أصيب الشيخ عياد الطنطاوى، بشلل فى أطرافه السفلى، وسرعان ما امتد إلى يديه، ومع ذلك فقد ظل يعمل لمدة 6 سنوات بعد إصابته بهذا المرض، متغلباً على صعوبة الحركة ومتحدياً ما كان يواجهه من مشاق، وفى 31 يناير عام 1861 ميلادية، أعفى من العمل بعد أن تمكن المرض من جسده النحيل.

وفى 29 أكتوبر من عام 1861 ميلادية، لفظ أنفاسه الأخيرة، وورى الثرى بمقبرة «فولكوفو» الإسلامية بمدينة سانت بطرس بورج، وكتب على شاهد قبره: «هذا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوي - كان مدرس العربية فى المدرسة الكبيرة الإمبراطورية بسانت بطرس بورغ المحروسة، وتوفى فى 29 أكتوبر 1861 ميلادية».

احتفاء بعد الموت

لم يتوقف احتفاء الحكومات الروسية المتعاقبة منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، بالشيخ عياد الطنطاوى، فمؤخراً دشنت الحكومة الروسية الحالية مشروعاً علمياً يهدف إلى ميكنة مؤلفات ومخطوطات الشيخ الطنطاوى، وإعدادها إلكترونيا لكى تكون فى متناول الدارسين لتراث الشيخ الجليل.

كما نظمت جامعة سانت بطرسبورج الروسية، فى الفترة من 2 وحتى 3 نوفمبر من العام 2010، مؤتمراً علمياً دولياً، احتفاء بالمئوية الثانية لميلاد الشيخ عياد الطنطاوى، وأصدرت كتاباً من 301 صفحة، تضمن جميع الأبحاث التى تناولت سيرة الشيخ الراحل ونوقشت فى المؤتمر، وكتب على غلافه إهداء إلى الشيخ الطنطاوى، وعنوانا فرعياً يحمل اسم: «روسيا والعالم العربى».

وفى مارس من العام 2016، أقامت المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم، احتفالاً شعبياً إحياء لذكرى مرور 155 عاماً على وفاة الشيخ عياد الطنطاوى، ووضعت بالمواكبة لهذه الذكرى تمثالاً للشيخ الراحل بمسقط رأسه فى قرية نجريد بمركز طنطا بمحافظة الغربية، وقد روعى فى صنع هذا التمثال أن يكون نسخة طبق الأصل من ذلك التمثال المنصوب له فى مدخل مدينة بطرسبورج من قبل الحكومة الروسية.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2025 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg