| 14 مايو 2024 م

رئيس التحرير يكتب.. جعلونى مجرما!

  • | الخميس, 28 أبريل, 2016
رئيس التحرير يكتب.. جعلونى مجرما!

جلست مرغما أستمع لفاعله المنصوب ومفعوله المرفوع وحكاية الأسد الذى يحرس ذلك الرجل الصالح، وكيف أن أحدهم كان يحج لبيت الله الحرام وهو جالس فى بيته بـ " إمبابة" ؛ لأنه من أصحاب "الخطوة"!!

تعددت الحكايا وتوالى كسر أنف سيبويه، إلى أن رأيتنى أقود انتفاضة فكرية ضد خطيب مسجد قريتنا الذى "مرغ" أنف لغتنا الجميلة فى التراب، ورفع ضغطى المرفوع أصلا باختصاره الإسلام فى " الأسد وصاحب الخطوة.." الانتفاضة أو ثورة الربيع الفكرى انتهت بى أنا ومجموعة من " الثورجية" بصعودنا المنبر وإلقاء خطبة الجمعة ومحاضرات دينية فى الأندية، طبعا بعد اجتياز اختبارات وزارة الأوقاف والحصول على تصريح رسمى بالخطابة، مازلت أحتفظ به حتى الآن.
كنا مجموعة من الخطباء تضم كوكبة من أساتذة الأزهر وصحفيين وطلابًا جامعيين، جمعهم فكر وسطى مستنير وإسلام لا يعرف منطق " الأسد" فى تغييب وعى الناس وتعليب فكرهم، ومضيت أصعد المنابر، محاولا تقديم وجبة فكرية لزوار بيوت الله، تخلو من التوابل الأسطورية، والحكايا التى نسج خيوطها بمهارة أعداء الإسلام، وروج لها بحسن نية أقزام الفكر وسماسرة الكلمة.
كان الشيخ محمد الغزالى يلازمنى كظلى وأنا أصعد المنبر، أنطق بلسانه، ألتفت التفاتاته، أسكت سكتاته، فكره يمسك بيدى أينما ذهبت، لدرجة أن أصدقاء الصبا كانوا يطلقون على "الغزالى الصغير" إلى أن بدأ ريش وعيى الفكرى ينبت، ولما اكتسى خبرة، رأيتنى أخصص الخطبة الثانية فى كل جمعة للحديث عن أحداث سياسية أو مجتمعية، وحدث ذات مرة بعد اجتياح العراق للكويت وقتلها أشقاء مسلمين منهم أحد أمراء الأسرة الحاكمة، وبينما أنا على المنبر، أوضح رأى الإسلام فى ذلك، إذ بأحدهم يصيح بأعلى صوته : " ياشيخ بلاش سياسة " تجاهلت الكلام والمتكلم، ووصلت حديثى، ورأيتنى أقول لأول مرة على المنبر: " إننى أعمل صحفيا فى جريدة قومية، وما قلته الآن عن الاجتياح العراقى، كتبته فى الصحيفة التى تعبر عن رأى الدولة الرسمى، ولو ما قلته عكس السياسة العامة للدولة لكنت الآن فى مكان آخر، ثم إن شربة الماء سياسة، والصرف الصحى سياسة، ورغيف الخبز سياسة، وحقنة البنسلين سياسة، إذا كنتم لا تريدون أن نتكلم فى كل هذا، فهل نقف على المنابر صامتين أونخطب بلغة الإشارة؟! " بمجرد أن انتهينا من الصلاة، إذ بالمشرف على إدارة المسجد وكان رئيس مجلس مدينة، يصافحنى ومعه رجل طويل عريض يرتدى جلبابا متخلفا، وقدمه لى : " هذا فلان .. أمن دولة " ؛ بلعت غيظى وأنا أسأله: " إذن أنت من طلبت منى عدم الكلام فى السياسة .. أنت عارف أنا قلت إيه ؟" هز الرجل رأسه : " يابيه أوامر .." ، ثم مد يده بكراسة كانت فى " سيالة" جلبابه، وطلب بأدب: " ممكن تكتب لى اسم حضرتك وعنوان الخطبة ؟" فقلت مازحا: "طيب ما سيادتك سمعتها .. فاكتب أنت، فرد: أنا مابعرفش أقرا ولا أكتب "، ظننتها حيلة مباحثية، وأن " المخبر" يريد أن أكتب بخط يدى دليل إدانة ..ربما، المهم .. كتبت بخبث تحت اسم خطيب المسجد : " فريد شوقى " ، وعنوان الخطبة " جعلونى مجرما" .. وأخذ " المخبر" الكراسة ونظر فيها ببلاهة، ثم ولى وجهه شطر باب المسجد وهمّ بالانصراف، فتأكدت أن الرجل فعلا " بصمجي" ، وصححت ما كتبته له مازحًا .
كان ذلك فى أواخر سنوات دراستى الجامعية وأوائل عملى بالصحافة، ولسفرى للخارج، ابتعدت عن المنابر، ولما عدت، قابلنى نفس " المخبر" لكن هذه المرة ببدلة أنيقة وسيجار ولقب " كاتب صحفى كبير" ، فقد حدث ذات مرة ونحن فى صالة " المونتاج" ـ المكان الذى يتم فيه توضيب وتجهيز الجريدة ـ أن ارتفع صوت أحدهم مستنكفا، ورأيته يضرب كفا بكف، فحدثتنى نفسى بأن " الكاتب الصحفى الكبير" اكتشف مصيبة وأنقذ الجريدة منها فى اللحظة الأخيرة قبل النشر، وما إن اقتربت منه حتى بادرنى متعجبا : " تصدق .. بيألفوا فى القرآن .. كاتبين : " .. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِى الْحَيَوَانُ.." الحيوان .. معقولة دا كلام .. ثم هاج وماج وأرغى وأزبد .. همست فى أذنه؛ فالمكان مليء بالعمال والفنيين : " أيوه دى آية" .. ، فعلا صوته وكاد يخرق أذنى؛ فكسرت كل الهمس وأسمع صوتى من به صمم ..رحم الله زمانا قال فيه حمار حكيم لصاحبه: " لو أنصف الدهر يوما كنت أركب ..فأنا جهلى بسيط وصاحبى جهله مركب " .. لكن " الصحفى الكبير" استمر "ينهق"!
مشهد " المخبر" وما كان من " الصحفى الكبير" مر عليها ما يقرب من من ربع قرن .. أعادنى إليها حديث " إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"؛ فقد قرأت بالأمس أقوال علماء الحديث فى معناه، قالوا: "إذا وسد الأمر لغير أهله فادعوا الله أن يعجل بقيام الساعة؛ لأن موازين الأمور ستنقلب ومعايير الأشياء ستختلف، فالحق يصير فى نظرهم باطلا والباطل حقا، وستغرق لا محالة سفينة الوطن بالجميع" .. وضعت يدى على خدى، وحاولت التقاط نفس عميق، لكن الطبالين والبلداء وسماسرة السياسة سدوا على كل نوافذ الهواء .. فرأيتنى أغرق، أغرق، أغرق، فرفعت يدى من بين أمواج ودوامات غبائهم: وطنى يارب !
عطر الكلام:
إذا كان الساكت عن الحق شيطانا أخرس، فأحرى أن يُسمى الناطق بالباطل: شيطانا ناطقا.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg