قاضي القضاة :
جريمة تعكس قمة شذوذ المشاعر وتبلد الأحاسيس .. والإسلام يحرم تحريق المجرمين ..فكيف بالأبناء ؟
تجردت ربة منزل من كل مشاعر الأمومة وعذبت طفلتها البالغة من العمر 13 سنة بمنطقة عين شمس وكوتها بالنار بحجة أنها لا تطيع كلامها حتى فارقت الحياة، وتم القبض على المتهمة وقرر المستشار أحمد حسين مدير نيابة عين شمس حبسها 4 أيام على ذمة التحقيق.
بدأت تفاصيل الواقعة بوصول المجنى عليها طفلة إلى المستشفى جثة هامدة وبها أثار حروق وكدمات فى أنحاء متفرقة من جسدها.
تبين من التحقيقات والتحريات أن المتهمة "منصورة، و" والدة الطفلة أقامت لها حفل تعذيب كى بالنار والتعدى عليها بالضرب حتى لفظت الطفلة أنفاسها الأخيرة، وذلك بسبب عدم إطاعة كلامها.
قاضي القضاة:
يقول الدكتور عبد الحليم منصوروكيل كلية الشريعة والقانون بالدقهلية :
تجسد هذه القضية مجموعة من الأمور المهمة تتعلق بالأمومة وعواطف الرحمة والحب الناشئة عنها ، وقضايا التربية ، ومفاهيمها وأساليبها ، وأيضا الاعتداء المفضي إلى الموت ، وانتهاك حرمة الجسد ، وحاجة المجتمع إلى التثقيف ومعرفة أساليب التربية الصحيحة ، بعيدا عن العنف حتى يتربى الأطفال تربية صحيحة ، وهاكم تفصيل ما سبق .
1 – إن الأمومة ليست كلمة تقال ، وإنما الأمومة هي كل معاني الرحمة والحنان ، والحب ، والعطف ، هي حرمان الأمن نفسها من كل المتع من أجل أبنائها ، فهي المدرسة التي يتخرج منها البنين والبنات ، وفيها يتعلم الجميع معاني العطاء بلا حدود ، سواء فيما يتعلق بالمشاعر ، أو بالإنفاق ، أو بغير ذلك ، وهذا المعاني لا يختص بها الإنسان وحده ، فهي وإن كانت متأصلة في الإنسان ، إلا إنها موجودة أيضا لدى الحيوان .
فعن عمَرَ بن الخَطَّابِ أنَّهُ قال قَدمَ على رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم بسَبْيٍ فإذا امرَأَةٌ من السَّبيِ تبتغى إذا وجَدَتْ صَبيًّا في السَّبيِ أَخَذَتهُ فَأَلصَقَتْهُ ببَطْنِهَا وَأَرضَعَتْهُ فقال لنا رسول اللّهِ أَتَرَونَ هذه المَرْأَةَ طَارحَةً ولَدَهَا في النّارِ قلْنَا لا والله وهى تَقْدرُ على أنْ لا تَطرَحَهُ فقال رسول اللّهِ : للَّهُ أَرحَمُ بعِبَادِهِ من هذه بوَلَدِهَا.
وروى البخاري ومسلم عن الزُّهرِيِّ أخبرنا سعِيدُ بن المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيرَةَ قال سمعت رسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول جعَلَ الله الرَّحمَةَ في مِائةَ جُزءٍ فَأَمسَكَ عِندَهُ تِسعَةً وَتِسعِينَ جُزءًا وَأَنزَلَ في الأرض جُزءًا واحِدًا فمِنْ ذلك الجُزْءِ يتَرَاحَمُ الخَلْقُ حتى تَرفَعَ الفَرَسُ حافِرَهَا عن ولَدِهَا خَشيَةَ أنْ تُصِيبهُ.
2 - هذه الجريمة تجسد تحولا في عالم الجريمة اليوم ، فبدلا من أن تحمي المرأة بنتها من كل ما يؤذيها ، وتحوطها بسربال من حنان الأمومة ، وسياج من الرحمة إذا بها تكون هي القاتلة ، المعتدية ، حيث نزعت عنها لباس الأمومة ، وعباءة الحنان ، وسربال العطاء ، وكشفت عن وجه قبيح ، وأنياب ومخالب وحش كاسر ، فتقتل بنتها فلذة كبدها ، ومآقي عيونها ، ونبض قلبها ، بطريقة وحشية ، غير آدمية ، بل وغير حيوانية أيضا ، لاسيما إذا كان المعتدي هو الأم ، والمعتدى عليها هي فلذة الكبد .
3 – تمثل هذه الجريمة أيضا خروجا على المألوف في عالم البشر ، في التلذذ بتعذيب الغير ، حتى وإن كان هذا الغير هو البنت ، وهذا قمة الانحراف السلوكي ، وقمة الشذوذ في المشاعر والعواطف ، من أم تجاه بنتها
كما أن هذه الجريمة تنطوي على عنف أسرى ضد الأطفال والزوجة ، والتي يجب أن يقاومها المجتمع المصري بشكل حاسم وحازم ، ذلك أن هذه الظاهرة من شأنها أن تؤثر على المجتمع سلبا عن طريق التفكك الأسري الذي يحدث نتيجة له ، وعن طريق إيجاد نماذج من الأطفال تربوا على العنف والقهر ، ضعاف الشخصية ، ومرضى نفسيين ، لا يقدرون على مواجهة صعاب الحياة ومتطلباتها بشكل كاف .
4 – إن هذه الأنواع من القمع ، والترويع ، والعنف ، التي يفعلها بعض المسلمين لا يمكن نسبة تصرفاتهم للإسلام أو حملها على أنها من الإسلام ، وذلك ما يشوه صورة الإسلام في العالم داخليا ، وخارجيا ، بسبب تصرفات بعض المنتسبين إليه فالإسلام بريء من هذه الأفعال ، ومن كل صور وأشكال القمع والعنف ، التي يتهم بها ، وكل فعل ينسب إلى العنف والخشونة بهذا الشكل المفرط لا ينسب إلى الإسلام بحال ، حتى وإن فعله بعض من يحسبون أنفسهم على الإسلام وهو منهم براء .
5 – إن تحريق هذه الطفلة بالنار على النحو المذكور في القضية التي معنا يشي بانحراف في فطرة هذه المرأة ، وتبلد أحاسيسها ومشاعرها ، نحو أقرب الناس إليها ، إن الإسلام يحرم ويمنع تحريق المجرمين بالنار كجزاء لما فعلوه بالناس والمجتمع ، ففي الحديث الشريف :" لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ " هذا في حق القتلة والمجرمين وسفاكي الدماء الإسلام ينهانا عن قتلهم بالتحريق ، لما فيه من المثلة على النحو السابق ، فما بالنا بهذه الأم الذي تجردت من كل معاني الإنسانية والحنان ، وتحرق بنتها الطفلة في جسدها على هذا النحو المفزع .
6– يقول ابن خلدون في مقدمته :" من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النفس فى انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما فى ضميره خوفـًا من انبساط الأيدى بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقـًا، وفسدت معانى الإنسانية التى له من حيث الاجتماع والتمرن، وهى الحَمِية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره فى ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد فى أسفل السافلين. "
وفي الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام :" وأنفق من طولك على أهلك ولا ترفع عصاك على أهلك " وأخفهم في الله عز وجل " أي لا ترهبهم ولا تهددهم بالضرب. لأن المسلم المؤمن لا ينبغي له أن يكون فظا غليظا لا مع أهله في بيته ولا مع الناس خارج بيته. أي ذكرهم بالله تعالى، ويكفي إذا رأيت منهم ما لا يعجبك أن تقول لإحداهن أو أحدهم اتق الله.
7 - إن النبي عليه الصلاة والسلام وهو المعلم الأول للبشرية كلها ، ما ضرب امرأة قط ، ولا علم الأمة إهانة الصبيان وتربيتهم على القهر والذل على هذا النحو ففي الحديث عن عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قالت : ما ضَرَبَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شيئا قَطُّ بيده ولا امْرَأَةً ولا خَادِمًا إلا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ وما نِيلَ منه شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ من صَاحِبِهِ إلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ من مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل .
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضب في وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة فقالت : ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقالت : لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك "
وهذا في شأن الجارية ، وليست الابنة التي هي فلذة كبد أمها ، ونبضها المتحرك في قلبها ، وروحها التي تتردد في أحشائها ، فكيف تهين ابنتها على هذا النحو المشين المهين بما يؤدي إلى قتلها .
8 - قال عليه الصلاة والسلام :" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وقال أيضا :" أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطأون أكنافا الذين بألفون ويؤلفون "
فالأخلاق الفاضلة الحميدة لا تسمح للإنسان سوي الفطرة أن يفعل مثل هذا السلوك المجرم .وأيضا الاعتداء على معاني الأمومة التي تجسد العطاء والتفاني من أجل الأبناء .
9 - تجسد هذه القضية مشكلة متكررة في المجتمعات العربية والإسلامية وهي مشكلة الاختيار : فعندما يختار الرجل امرأة لتكون زوجة له ، أو العكس لا بد أن يراعيا عدة أمور منها :
– كون المرأة من أصل طيب ، لما ورد في الحديث النبوي الشريف عن عَائِشَةَ قالت قال رسول اللَّهِ : تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ " أي تخيروا من النساء ذوات الدين والصلاح وذوات النسب الشريف .
– كونها ذات صلاح ودين ، قال صلى الله عليه وسلم :" من تزوج امراة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ، ومن تزوج لمالها لم يزده الله إلا فقرا ، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة ، ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه ، أو يصل رحمه ، بارك الله له فيها ، وبارك لها فيه "
– لا يمنع الإسلام من الارتباط بالمرأة ذات المال ، والجمال ، والحسب ، لكن بشرط أن يقترن بما سبق الخلق والدين لما روي عن أبي هرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" قال تنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ : لمَالِهَا ، وَلحَسَبِهَا ، وَجَمَالهَا ، وَلدِينِهَا ، فَاظفَرْ بذَاتِ الدّينِ تَربَتْ يدَاكَ "
– وفضلا عما سبق لابد من وجود توافق في الأفكار والصفات ، وتقارب في طريقة التفكير ، والطموحات ، والسن ، فضلا عن وجود رغبة مشتركة من كلا الطرفين في الاقتران بالآخر ، مصحوبة بالاقتناع الكامل به ، وبقدرته على النجاح معه في تكوين أسرة ، والعمل معا في مواجهة صعوبات الحياة .
10– تجسد هذه الجريمة أيضا الاعتداء على النفس الإنسانية وقتلها بغير حق ، وهذا أعظم جرم وأكبر ذنب يمكن أن يرتكبه إنسان بعد الإشراك بالله عز وجل .
قَالَ صلى الله عليه وسلم :(لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا { وعَنْ مُعَاوِيَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : } كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ ، إلَّا الرَّجُلَ يَمُوتُ كَافِرًا ، أَوْ الرَّجُلَ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا { وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ }: لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ { وقَالُ صلى الله عليه وسلم : لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ ، لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّار { وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ } : مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
11 - يجب على رجال الأزهر وعلمائه وشيوخه ، ورجال الأوقاف من الخطباء في المساجد وفي المدارس والمعاهد بيان موقف الإسلام الحقيقي من وسائل التربية ، وموقفه من الضرب والعنف ضد المرأة والطفل ، ويجب على رجال الإعلام بكل ألوانه وأشكاله ، أن يوضحوا للناس الآثار السيئة والمدمرة على كل أفراد الأسرة والمجتمع لهذا العنف ، كما يجب عمل برامج ومسلسلات توضح وتجلي هذه الحقائق للناس جميعا ، حتى يعلم الناس خطورة هذه الأمر وأثره الشيء على الجميع ، مع بيان موقف الإسلام السمح من كل ذلك ، وأنه بريء من أفعال وتصرفات أولئك الغلاة المتطرفين في الفكر والسلوك ، ويريدون أن ينسبوا تصرفاتهم إلى الدين وهو منها بريء .