يحلو لكثير من غير المؤهلين التصدى لإصدار الفتاوى - وربما كان ذلك مباشرة على الفضائيات - فى المسائل الفقهية التى تحتاج إلى نظر دقيق وفهم عميق، غير مدركين لخطورة التجرؤ على الفتوى دون علم واقتحام مجالها دون فهم، وغير واعين أن مسلكهم هذا يجر عليهم تحمل ذنب مَن يأخذ بفتاواهم، وربما الوقوع فى المساءلة القانونية أو التأديبية، بالإضافة إلى سخط الله عز وجل لافترائهم عليه. وهذا التجرؤ على الفتوى ممن لا يحسنون سلوك دروبها له دوافع كثيرة لعل أبرزها حب الشهرة والظهور الإعلامى، والوجاهة الاجتماعية، وغير ذلك من الأغراض الدنيوية الزائلة التى لا قيمة لها إذا ما قيست بنصوص الوعيد الشديد فى حق من يضل الناس أو يلبِّس عليهم أو يدلس ويكذب على الله ورسوله.
ولقد رأينا من هؤلاء المتجرئين العجب العجاب فى فتاواهم التى لا تحمل إلا ضعف عقل قائلها، فمنهم من أفتى برضاع الكبير، ومنهم من أباح تناول المشروبات الكحولية المصنوعة من غير العنب أو التمر، مما يعنى حل جميع أو غالب ما يشربه الناس من المسكرات فى زماننا، ومنهم من نسب زوراً وبهتاناً إلى بعض سلفنا من الفقهاء حل وطء البهائم، وذهب بعضهم إلى القول بعدم فرضية الحجاب، ووصل ببعضهم الجهل والسفه إلى حد أن قال إنه لا يجد دليلاً على تحريم الخمر! ولو كان لهؤلاء أثارة من علم وذرة تقوى وخوف من الله تعالى ما تجرأ واحد منهم على اقتحام ميدان الفتوى دون التسلح بمؤهلات الإفتاء وأدواته، فليس الإفتاء كلأ مباحاً لمن أراده، بل هو صناعة ثقيلة لا يجيدها إلا مَن صقلت عقولهم بمجموعة من العلوم الشرعية والعربية والمعارف الحياتية، ووقفوا على المنقولات من اجتهادات سابقيهم، وأدركوا واقع عصرهم وأحوال معاصريهم، ويستطيعون الاهتداء بالنصوص الشرعية بعد إمعان النظر فى دلالاتها أو بالقياس عليها أو بتطبيق القواعد المستخلصة منها إلى الفتوى التى تراعى حال السائل وتناسب زمانه ومكانه.
وهؤلاء الذين أخذوا بأسباب العلم وامتلكوا أدوات المفتى وتجردوا فى افتائهم عن العصبية والهوى وتحروا موافقة ما يفتون به لمقاصد الشرع إن لم يكن هناك نص قاطع، فلهم الأجر على افتائهم من غير نظر إلى صوابه أو خطئه، غاية الأمر أنهم إذا أصابوا ظفروا بأجرين: أجر الاجتهاد وبذل الوسع لاستخلاص الحكم وأجر الإصابة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فأجر واحد»، وهو ما يعنى أن المفتى مأجور فى كل حال متى تأهل وتجرد وبذل وسعه لتحرى المسألة. وعدم تأثيم المفتى المؤهل المتجرد عن العصبية والهوى بدهي؛ لأن الإثم يكون عند التفريط والتقصير، وإفتاء المفتى فيما لا نص فيه يتعذر معرفة عين الصواب فيه، فهو فى علم الله وحده، ويتوقف إدراكه على نزول الوحى به، ولا وحى بعد وفاة رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم.
أما هؤلاء الذين يقتحمون ميدان الإفتاء من دون التأهل وامتلاك الأدوات فليعلموا أن كل ما يصدر عنهم إنما هو مجرد آراء، وعليهم أن يتحملوا إثمها، وليتذكروا قول النبي - صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضٍ فى الجنة وقاضيان فى النار. أما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به بين الناس، وأما اللذان فى النار فرجل عرف الحق فقضى بغيره فهو فى النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو فى النار»، وما يصدق على القاضى يصدق على المفتى، فكلاهما يحكم وإن كان حكم القاضى ملزماً بخلاف الفتوى؛ حيث يبقى الأخذ بها أو عدم الأخذ مسئولية المستفتى. ويلاحظ أن الحديث حين تعرض للقاضى الجاهل لم يشر إلى حكمه ولم يفرق بين من أصاب ومن أخطأ، بل مجرد تصديه من دون تأهل ساقه إلى النار، مع أن هذا القاضى الجاهل قد يصيب فى بعض ما يحكم به. ومن ثم، فإن على هؤلاء الجهلاء الذين يفتون الناس بغير علم أن يختاروا بين أمرين: إما التوبة إلى الله والابتعاد عن ساحة الإفتاء وإبداء الندم والتبرؤ مما أفتوا به علناً، وإما الاستعداد لدخول جهنم وبئس المصير، إلا أن يتغمدهم الله برحمته!
وفى هذا السياق، ينبغى التنبيه على وجوب الدقة فى النقل عن العلماء والمفتين؛ حيث كثيراً ما يُنقل الرأى أو الفتوى بمضمون مغاير لما قاله مَن أصدرها، ولا يخلو ذلك من احتمالين: إما عدم الفهم الصحيح لمنطوق الكلام المنقول، وهذا الاحتمال هو الأخف وطأة، وإن كان لا يغنى عن صاحبه؛ وذلك بسبب ما يحدثه هذا النقل من بلبلة وإثارة بين أفراد المجتمع، وما يسببه من تجنٍّ على مصدر الفتوى، فضلاً عن الذنب الذى يتحمله الناقل جراء تلقف بعض الناس ما ظنوه فتوى وعملهم بمقتضاه، فوزره يعود على الناقل وليس على المفتى. ومثال هذا النوع أن يُسأل أحد المتخصصين عن وطء الزوجة بعد موتها هل هو من الزنى أو لا، فيجيب بأنه ليس من الزنى، فيفهم هذا الناقل للفتوى أن هذا يعنى أنه حلال فينقله للناس بأن فلاناً يحل وطء الزوجة بعد موتها، مع أن المفتى لم يقصد هذا المعنى، وإن كان قد فاته أن يعقِّب بعد قوله إنه ليس من الزنى فيقول إنه مع ذلك حرام؛ لانتهاك حرمة الموت، فضلاً عن كونه عملاً مقززاً تنفر منه النفوس السوية وينافى أخلاقيات المسلمين وما ينبغى أن يكون عليه الزوج من الحزن على وفاة شريكة حياته. ولو فعل المفتى هذا ما استطاع الناقل أن يدعى أنه أباح نكاح الزوجة بعد وفاتها. أما الاحتمال الثانى فهو سوء النية والتربص من قبل بعض النقلة فاقدى الوازع الدينى بقصد فتح منصات قصف ضد العلماء وملء مساحات البث الفضائى جلباً لرزق حرام!
ولا يسعنى فى النهاية إلا أن أقدم نصيحة خالصة أراها واجبة فأقول للجميع: اتقوا الله فى أنفسكم وفى مجتمعكم، واعلموا أنكم ستسألون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وليبتعد غير المؤهل عن تصدر مشهد الإفتاء، فقد كان يفر منه كثير من المؤهلين من صحابة النبى خوفاً من عاقبته، فكيف بالجاهل الذى يعلم أنه جاهل؟! وإلى العلماء المؤهلين أقول تمهلوا ولا تترددوا فى قول (لا أدرى)، فقد كان يقولها من هو أفضل منى ومنكم إذا سئل حتى ينزل عليه الوحى من ربه، وإن قلتم فاختاروا كلماتكم بعناية واجعلوها غير قابلة للتأويل أو الاحتمال لتغلقوا الباب فى وجه المغرضين والمتربصين والحاقدين، وليعلم الناقلون لكلام أهل العلم وغيرهم أيضاً أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأن جمعاً غفيراً من أهل النار ما أوصلهم إليها وكبَّهم فيها إلا حصائد ألسنتهم!