| 01 مايو 2025 م

كلام يهمنا

احتفالاً بيوم السابع من رمضان .. الأزهر الشَّريف.. جهود تاريخيَّة فى رفعةِ الوطنِ وتحقيقِ أهدافِه

  • | الأحد, 16 مارس, 2025
احتفالاً بيوم السابع من رمضان .. الأزهر الشَّريف.. جهود تاريخيَّة فى رفعةِ الوطنِ وتحقيقِ أهدافِه
بقلم: فضيلة الدكتور/محمد الضويني .. وكيل الأزهر الشريف

فما زالتْ رحماتُ اللهِ تتوالى على هذه الأمَّةِ المرحومةِ، شعيرةً بعد شعيرةٍ، وموسمَ خيرٍ بعد موسمِ خيرٍ، وها هي أيَّامُ رمضانَ قد أقبلتْ ومعها ألسنةٌ مسبِّحةٌ، وقلوبٌ مشتاقةٌ، ومحاريبُ بالقرآنِ صادحةٌ، ومساجدُ بالصَّلواتِ عامرةٌ، وأيدٍ بالعطاءِ كريمةٌ، وقد اجتمعت أسبابُ الفرحِ والسَّعادةِ والسُّرورِ، فها هو شهرُ رمضانَ شهد افتتاحَ أحد أهم مشاعلِ النُّورِ والخير على أرض مصر الطاهرة، ليعود خيرُه على شعبِ مصرَ الكريمِ، وعلى العالمِ أجمع.

وإنَّ هذا الصَّرحَ الكبيرَ -الجامع الأزهر الشريف- بمبانيه ومعانيه، وما يدورُ فيه؛ ليدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ مصرَ الضاربةَ بجذورِها فى عمقِ الحضارةِ قادرةٌ على أن تقدِّمَ كلَّ حينٍ شواهدَ وأدلَّةً على أنَّها بلدٌ أصيلٌ، أقدامُه فى الأرضِ راسخةٌ، وعيونُه إلى العالمِ كلِّه ناظرةٌ، فقد استصحبت مع البناءِ الحضارىِّ المعاصرِ، والمدنيِّةِ الحديثةِ المتطوِّرةِ قِيماً تحفظُ من الزَّيغِ، فجمعت بذلك بين الحضارةِ الماديَّةِ والمعنويَّةِ، ودلَّت بهذا على الاتِّصالِ الحضارىِّ بين القديمِ والجديدِ.

وإنَّ هذا الصَّرحَ العملاقَ بما يتبنَّاه من قيمٍ حاكمةٍ تربطُ الدُّنيا بالآخرةِ، وتجمعُ العقلَ مع القلبِ، والإيمانَ مع العملِ قادرٌ على أن يقودَ إلى الرَّشادِ، وأن يدلَّ النَّاسَ –كلَّ النَّاسِ- على علاجٍ ناجعٍ تبرأُ به جراحُهم، وتسكنُ به قلوبُهم، بعد أن أسرفَ العالمُ فى ماديَّةٍ مفرطةٍ جلبت الشَّقاءَ على بنى الإنسانِ، وحيرةٍ مهلكةٍ، لم يجد لها حلاً إلَّا فى ظلِّ إيمانٍ عاصمٍ، وفقهٍ حاكمٍ.

إنَّ احتفالَنا يوم السابع من رمضان سنوياً بهذه المؤسَّسةِ العريقةِ فى حقيقتِه احتفالٌ بمنحةٍ ربانيَّةٍ مَنَّ اللهُ بها على الأمَّةِ، لتحملَ لواءَ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، وتَتَّخذَ الوسطيَّةَ سبيلاً ومنهجاً، فلا إفراطَ ولا تفريطَ، ولا مغالاةَ ولا تهاونَ، ولتكونَ حصناً حصيناً، وسداً منيعاً أمامَ الدَّعواتِ المتطرِّفةِ، والمناهجِ الهدَّامةِ، وستظلُّ هذه المؤسَّسةُ مقاومةً ومدافعةً عن الإسلامِ الحنيفِ ما بقىَ اللَّيلُ والنّهارُ دون ضعفٍ أو تخاذلٍ؛ ولذا فمِن حقِّنِا أن نفرحَ بمؤسَّستِنا، ومن واجبِنا أن نتذاكرَ منهجَه بين الحينِ والآخرِ حتَّى تقومَ الحجَّةُ على المبطلين والمغالين، وتعودَ الحقوقُ إلى أصحابِها.

إنَّ الأزهرَ الشَّريفَ على مرِّ التَّاريخِ لم يقفْ فى مواجهةِ الأزماتِ والتَّحديَّاتِ الَّتى يواجهُها وطنُنا الحبيبُ موقفَ المتفرِّجِ، ولم يتخلَّ لحظةً عن دورِه وواجبِه، وإنَّما قرَّرَ انطلاقاً من الأمانةِ الَّتى تحمَّلَها أن يعايشَ النَّاس مشكلاتهم وهمومهم وواقعهم، وها هو بقيادةِ فضيلةِ الإمامِ الأكبرِ يخوضُ حرباً شرسةً لمواجهةِ غيابِ الوعىِ المجتمعىِّ، فيسخِّرُ كلَّ إمكاناتِه وقطاعاتِه لتثقيفِ النَّاسِ وتوعيتِهم وإثراءِ معارفِهم، بما يمكِّنُهم من التَّمييزِ بين الحقِّ والضَّلالِ، وإدراكِ قيمةِ الوطنِ، والعملِ يداً بيدٍ على مواجهةِ ما يعرقلُ مسيرةَ تنميتِه وبنائِه.

منذ أن منَّ اللهُ على البشريَّةِ بوجودِ الأزهرِ الشَّريفِ واستراتيجيَّته تدورُ حولَ الحرصِ على ما استقرَّ فى وجدانِ النَّاسِ من ثوابت دينيَّة وقيمٍ أخلاقيَّة، وتعملُ على مواجهةِ تيَّاراتِ العنفِ والتَّطرُّفِ؛ ولذا جَنَّدَ رجالَه فى كلِّ زمانٍ ومكانٍ للمشاركةِ فى تنفيذِ رؤيتِه وأداءِ رسالتِه فى جنباتِ الوطنِ، فانتشرَ دعاتُه ووعاظُه وعلماؤُه يجوبون محافظاتِ مصرَ شرقِها وغربِها وشمالِها وجنوبِها، ينقلون رسالتَه السَّمحةَ ومنهجَه الخالدَ فى وسطيَّةٍ واعتدالٍ وفكرٍ مستنيرٍ يقدِّمُ صحيحَ الدِّينِ الَّذى أرادَ اللهُ به للبشريَّةِ الخيرَ والأمنَ والأمانَ.

وفى سبيلِ رفعةِ شأنِ الوطنِ وريادتِه عالمياً يرسلُ الأزهرُ مبعوثيه إلى شتَّى بقاعِ الأرضِ؛ لينشروا قيمَ هذا الدِّينِ الَّتى تضمنُ التَّعايشَ السِّلمىَّ بين النَّاسِ، وتلفظُ كلَّ ما يناقضُ رسالةَ السَّلامِ والرَّحمةِ الَّتى أرادها ربُّ العالمين.

لقد استطاعَ الأزهرُ بِحِسِّه الوطنىِّ أن يؤسِّسَ لمبدأ المواطنةِ بين النَّاسِ، فسعى لإزالةِ كلِّ تقليدٍ أعمى من شأنِه أن يفرِّقَ بينهم، وتمكَّنتْ مبادراتُه من نزعِ فتيلِ كثيرٍ من الأزماتِ وإخمادِ كثيرٍ من الفتنِ، وإحداثِ حالةٍ من الاستقرارِ يشهدُ لها الجميعُ، وقد قدَّمَ هذا الاستقرارُ مصرَ للعالمِ فى أبهى صورةٍ تجعلُ أبناءَ الوطنِ يعملون معاً لتحقيقِ رفعةِ وطنِهم ورقيِّه.

وعندما أدرك النَّاسُ أنَّ الأزهرَ الشَّريفَ ببنائِه العلمىِّ هو الملجأُ والملاذُ لم يجدوا أمامهم سوى أن يحصِّنوا أبناءَهم بمنهجِه، وينهلوا من علمِه، ويتحلَّوا بخلقِ علمائِه، وليس هذا من الشعاراتِ البرَّاقةِ، وإنَّما هو واقعٌ حقيقىٌّ تُظهرُه وفودُ طلَّابِ العلمِ من كلِّ بقاعِ الأرضِ، والَّذين يتجاوزُ عددُهم 35 ألفَ طالبٍ وافدٍ، عُنى الأزهرُ وشيوخُه الأفاضلُ برعايتِهم وتثقيفِهم ليحملوا رسالةَ الأزهر ووسطيَّتَه إلى بلادِهم، فينشروا النُّورَ بعلمِهم وينبذوا كلَّ فكرٍ ضالٍّ ومضلٍّ يتَّخذُ من الدِّين مطيَّةً لتحقيقِ أغراضٍ خبيثةٍ.

أستطيعُ أن أقولَ لكم إنَّ الأزهرَ الشَّريفَ مؤسَّسةٌ شاملةٌ بقطاعاتِها المتنوِّعةِ، بهيئةٍ كبارِ علماءِ الأزهرِ الَّتى تحملُ همَّ الدِّينِ وهمَّ الأوطانِ، وتعكفُ على ما يشغلُ النَّاسَ من مستجدَّاتٍ لتصلَ فيها إلى رأىٍ يرعى واقعَ النَّاس ويستجيبُ لحاجاتِهم، ومجمعٍ للبحوثِ الإسلاميَّةِ يعملُ على تجديدِ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ وتجريدِها من الفضولِ والشَّوائبِ وآثارِ التَّعصُّبِ المذهبىِّ، وتوسيعِ نطاقِ العلمِ بها لكلِّ مستوى وفى كلِّ بيئةٍ، وقطاعٍ للمعاهدِ يربِّى النَّشء على الفضيلةِ وحُسنِ الخلقِ قبلَ العلمِ، وجامعةٍ عريقةٍ أفادت المجتمعَ والعالمَ بخرِّيجين أصبحوا رموزاً وقدوةً لغيرِهم، ولجانٍ للفتوى فى كلِّ مراكزِ مصرَ ومدنِها تستقبلُ الجماهيرَ كلَّ يومٍ، فتبيِّنَ لهم ما اختلطَ عليهم من أمورِ دينِهم ودنياهم، ومركزٍ عالمىٍّ للفتوى الإلكترونيَّةِ أسهمَ فى تيسيرِ التَّواصلِ مع النَّاسِ بشكلٍ لحظىٍّ للرَّدِّ على أسئلتِهم والإجابةِ عن استفساراتِهم، وأكاديميةٍ لتدريبِ الأئمَّةِ من مختلفِ دولِ العالمِ وغير ذلك من وحداتٍ.

إنَّ هذه المؤسَّسةَ العظيمةَ، وما تطلقُه من مبادراتٍ إنسانيَّةٍ مستمرَّةٍ تؤكِّدُ أنَّها تحقِّقُ آمالَ المجتمعِ وأحلامَه فيما تغرسُه بين النَّاسِ من مبدأ التَّكافلِ، وإحساسِ بمشاعرِ الآخرين وإعانتِهم فى أزماتِهم، حتَّى يحيا الوطنُ آمناً بأبنائِه متماسكاً كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحمى.

وبرغمِ ما قدَّمَه الأزهرُ من جهودٍ فى خدمةِ وطنِنا الحبيبِ، فإنَّه لن يملَّ ولن تملَّ قطاعاتُه المختلفةُ من أداءِ واجبِها نحو وطنِها، ونحن نفتحُ البابَ أمامَ الجميعِ وأمامَ كلِّ تعاونٍ بنَّاءٍ يحقِّقُ لمصرَ ريادتَها ويرفعُ شأنَ أبنائِها.

إنَّ هذا الحدثَ المباركَ، يؤكِّدُ أيَّما تأكيدٍ استمرارَ الأزهرِ الشَّريفِ فى مسيرتِه الوطنيَّةِ، وحرصَه الدَّائمَ على تقديمِ خطابٍ دينىٍّ مستنيرٍ يحوى بين جنباتِه كلَّ علمٍ يخدمُ الوطنَ ويحقِّقُ صالحَ النَّاسِ؛ بل ويجعلُ من الخطابِ الشَّرعىِّ خطاباً شاملاً يأخذُ فى اعتبارِه ما يشهدُه العالمُ من تطوُّراتٍ وتنوُّعٍ فى الثَّقافاتِ والمعارفِ المختلفةِ، وقد أخذَ الأزهرُ الشَّريفُ على عاتقِه -منذُ أكثرَ من ألفِ عامٍ- مسئوليَّةَ الدَّعوةِ إلى الإسلامِ، والدِّفاعِ  عن سماحتِه ووسطيَّتِه واعتدالِه، ونشرِها فى مختلفِ دولِ العالمِ، من خلالِ آثارِه العلميَّةِ والخلقيَّةِ المباركةِ الَّتى يتركُها فى عشراتِ الدُّولِ الَّتى تدفعُ بفلذاتِ أكبادِها إلى معاهدِه وجامعتِه خاشعين فى محاريبِه، متعلِّمين من مناهجِه، مستفيدين من فعَّاليَّاتِه، ثمَّ بهذا الزَّادِ الرُّوحىِّ والخلقىِّ والعلمىِّ الَّذى يحملُه الأزاهرةُ المبتعثون، الَّذين يؤكِّدون أينما حلُّوا أنَّ الإسلامَ دينُ المحبَّةِ والتَّعاونِ والتَّآخى والتَّعايشِ السِّلمىِّ بين أبناءِ البشرِ، وأنَّه دينُ الرَّحمةِ والمودَّةِ والبُعدِ عن الغلوِّ والتَّطرُّفِ الَّذى ترفضُه أديانُ السَّماءِ، فضلاً عن نشرِ علومِ الشَّريعةِ الَّتى تصونُ الحياةَ، ولا ينكرُ عاقلٌ ولا مفكِّرٌ ولا صاحبُ رأىٍ سديدٍ دورَ الأزهرِ الشَّريفِ فى نشرِ قيمِ التَّسامحِ بين النَّاسِ جميعاً، ورعايتِه للفكرِ الإسلامىِّ المعتدلِ فى مصرَ والعالمِ كلِّه؛ ولذا استحقَّ الأزهرُ الشَّريفُ أن ينصَّ الدُّستورُ على أنَّه الهيئةُ العلميَّةُ الإسلاميَّةُ الكبرى الَّتى تقومُ على حفظِ التُّراثِ الإسلامىِّ، ودراستِه ونشرِه، وحملِ أمانةِ الرِّسالةِ الإسلاميَّةِ إلى كلِّ شعوبِ العالمِ، والعملِ على إظهارِ حقيقةِ الإسلامِ ودورِه البنَّاءِ فى حفظِ وتقدُّمِ البشريَّة ورقىِ الحضارةِ.

إنَّ الأزهرَ الشَّريفَ سيظلُّ له دورٌ فاعلٌ فى تعزيزِ وشائجِ الأخوَّةِ بين بنى الإنسانِ، وفى تقويةِ التَّعاونِ العلمىِّ والفكرىِّ والثَّقافىِّ بين المسلمين فى مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وفى نشرِ حقائقِ الدِّينِ والرَّدِّ على أباطيلِ دعاةِ التَّفرقةِ الَّذين يتاجرون باسمِ الدِّينِ، خصوصاً فى هذه المرحلةِ الَّتى ينشطُ فيها تجارُ المشروعاتِ الطَّائفيَّةِ المقيتةِ الَّتى تُضعِفُ فى الأمَّةِ مناعتَها وقدرتَها على المواجهةِ، وتمزِّقُ وحدتَها؛ ولذلك، فإنَّ من الواجباتِ على دولِ العالمِ الإسلامىِّ وقياداتِه وعلمائِه ومؤسَّساتِه الثَّقافيَّةِ والتَّربويَّةِ والإعلاميَّةِ، دعمَ جهودِ الأزهرِ الشَّريفِ ومساندةِ رسالتِه السَّمحةِ، ليبقى دائماً حصناً منيعاً من حصونِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، يصدُّ عن دينِها وهويَّتِها وسلامةِ كيانِها هجماتِ المبطلين ودسائسَ الكائدين، وينشرُ رسالةَ الإسلامِ السَّمحةَ فى الآفاقِ تهدى العقولَ والنُّفوسَ إلى الصِّراطِ المستقيمِ، وإلى ما فيه الخيرُ والصَّلاحُ: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37).

 

د. محمد الضوينى

 وكيل الأزهر الشريف

طباعة
كلمات دالة: رمضان 2025
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2025 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg