من المسائل المثارة ذات العلاقة بالجمعيات والهيئات التي تكفل الأيتام ومن في حكمهم من فاقدي الأسرة ومن لا مأوى لهم، مسألة وقف جزء من الأموال التي يتبرع بها أهل الخير لهذه الجمعيات دعمًا لأنشطتها ومساعدتها في تقديم الرعاية المرجوة من خلال إنشاء وقفيات ينفق من ريعها على المكفولين.

ولا شك أن استثمار الأصول والإنفاق من ريعها يحقق الاستمرارية في الكفالة والرعاية، ويؤمِّن مصدرًا مهمًّا من مصادر الإنفاق على سبيل الدوام، ولا سيما إذا تغيرت الظروف الاقتصادية تغيرًا يؤثر على تدفق التبرعات لتلك الجهات التي ألزمت نفسها بالإنفاق على رعاياها من خلال مساعدات شهرية، ونفقات غذاء وإقامة، ومصروفات دراسية.. إلخ، وهو ما يؤثر سلبًا على قدرة هذه الجمعيات والهيئات على الاستمرار في حمل هذه الأعباء، ومن ثمَّ يتضرر المكفولون ضررًا بالغًا قد يؤثر على مسيرة حياتهم، ومواصلة دراساتهم، وتدريبهم على حرف يتكسبون منها مستقبلًا، فضلًا عن تأثر شبكة الرعاية التي يفترض أن تمتد لآخرين. ولذا، يتساءل القائمون على تلك الجهات عن مدى مشروعية وقف جزء من فائض التبرعات ليستثمر لصالح المكفولين، بحيث يبقى أصل الوقف ويُنفق من ريعه.

وكعادة المتعجلين ممن يصدرون الفتاوى انطلاقًا من نظرة سطحية لظاهر النصوص، يقوم بعضهم بإصدار الفتاوى المانعة لاقتطاع أي جزء من الأموال المتبرع بها لجعلها وقفًا يُنفق من ريعه على المكفولين، وعلة هؤلاء أن الأموال المتبرع بها لتلك الجهات يستحقها المكفولون وقت التبرع بها، واستثمارها عن طريق الوقف من دون إذنهم هو من أكل المال المستحق لهم بغير حق، وهو منهي عنه بقول الله تعالى: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا»، وقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا»، وغير ذلك من النصوص التي تحرم أكل مال الغير بغير حق بصفة عامة، وأموال اليتامى بصفة خاصة.

وهذه النصوص موجهة إلى أولياء الأيتام في الأموال التي يملكونها كمن مات أبوه وهو صغير وترك له مالًا يحتاج إلى من يحفظه له وينميه حتى يبلغ رشده فيدفعه إليه، ويدخل في الخطاب أيضًا أولئك الذين يقومون على أموال اليتامى ومن في نحوهم التي يتبرع بها أهل الخير لجمعيات أو هيئات، على أساس أنها تقوم على أموال مخصصة لحاجة الأيتام.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأدلة خارجة عن محل النزاع؛ فالفتاوى الصادرة استدلالًا بهذه النصوص تستقيم إذا كان تبرع أهل الخير لمصلحة طائفة معيَّنة محصورة كعدد من الأيتام أو من في حكمهم في منطقة بعينها؛ حيث يتولى أمرهم أحد أهل الخير في هذه المنطقة، أو مجموعة أطفال في دار رعاية ما ينص المتبرع على أنه يتبرع لهم بأعيانهم، فتكون الأموال في هذه الحال مستحقة لهذه الفئة المحددة ولا يجوز اقتطاع جزء منها لوقفه. لكن الواقع العملي الغالب يُظهر أن أهل الخير حين يتبرعون للجهات المعنية بكفالة الأيتام ونحوهم دعمًا لقدراتها المالية واستمرارها في تقديم الرعاية لمن تشملهم الكفالة، إنما يقصدون المكفولين بصفة عامة وليس مكفولين محددين وقت التبرع، بدليل أن المتبرع لهيئة أو جهة خيرية ما لا يعرف ماهية المكفولين وأعدادهم وقت التبرع، وربما تسقط الكفالة عن بعضهم في هذا الوقت لافتقادهم شرطًا من شروطها كبلوغهم السن المحددة مثلًا، أو استغنائهم بأنفسهم بإرث قريب لهم أو حصولهم على فرصة عمل أو نحو ذلك، فضلًا عن أن صرف الأموال المتبرع بها للمكفولين كاملة مما يتعذر في التطبيق العملي؛ حيث إن التبرعات لا تكون في وقت واحد، وإنما يتبرع المحسنون في أوقات مختلفة، وتدخل الأموال المتبرع بها في حساب الجهة الكافلة أو في ميزانيتها في أوقات متفرقة، بالإضافة إلى أن الكفالة تشمل أيتامًا جددًا ينضمون لهذه الجهات في أوقات متتابعة.

والقول بأن الأموال المودعة تستحق للمكفولين وقت إيداعها يجعل هذه الأموال لا محالة مأكولة من قِبل مَن لا يستحقونها، وهم من دخلوا بعد إيداعها ولو بلحظة، ويجعلها كذلك مأكولة على من يستحقونها، وهم من خرجوا من الكفالة بعد الإيداع ولو بلحظة. كما أن القول بوجوب دفع الأموال المتبرع بها للأيتام ومن في حكمهم وقت التبرع، على فرض إمكانية ضبطه وتحقيقه، يجعل الأيتام ومن في حكمهم يأخذون ما يفيض عن حاجتهم في وقت توافر التبرعات، ولا يجدون ما يُنفق به عليهم في وقت ندرة التبرعات، ولا يُتصور أن هذا هو مقصود شرعنا الحنيف من الكفالة!.

والمخرج من هذه الإشكالية يكون بتفويض أهل الخير الجهات الكافلة للأيتام ونحوهم في استغلال الأموال المتبرع بها لمصلحة من يدخل في نطاق الكفالة على الإطلاق، فيحق لتلك الجهات عندئذ صرف ما يحتاجه الأيتام ومن في حكمهم واستثمار الفائض في وقف أو نحوه ليُنفق من ريعه مع بقاء أصله، فإن عيَّن بعض أهل الخير فئة بعينها أنفقت الجهة الكافلة من هذه الأموال المعينة على هذه الفئة المحددة عاجلًا، وأبقت غير المعينة لتضاف إلى المال المستثمر. وعليه، فلا ينبغي بحال من الأحوال أن تكون فتاوانا المنطلقة من ظاهر النصوص وسيلة لتعطيل عمل الجهات الخيرية التي ترعى المحتاجين وتقوم على شئونهم، فما كانت شريعتنا السمحة يومًا جالبة لأي عسر وإنما هي ميسرة ودافعة لكل عسر وداعمة لكل ما فيه خير ومصلحة، وما من نفع محقق إلا وفي شريعتنا سنده ودليله، وما من ضرر متيقن إلا وفي شرعنا ما يمنعه ويحذر الناس منه، وما علينا إلا التحري والتجرد لتحديد ما ينفع الناس وما يضرهم ليستبين حكم الشرع في الأمر محل البحث. فيا أيها المتفقهون الظاهريون المتعجلون، يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، يرحمكم الله!.