| 03 مايو 2024 م

أراء و أفكار

رجائى عطية يكتب من فيض الخاطر: الأنصار.. العطاء والإيثار"148"

  • | السبت, 29 أبريل, 2017
رجائى عطية يكتب من فيض الخاطر: الأنصار.. العطاء والإيثار"148"

نبأ السقيفة

وإن عمر وأبا عبيدة لفى تداولهما، إذ جاءهما النبأ بأن الأنصار قد اجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة يريدون أن تكون الإمارة لهم، وهو أمل لا غرابة فيه فى ظل أحكام الإسلام وأصوله التى لم تفرق بين المسلمين لعصبية أو غيرها، وفى ظل أنهم نصروا الإسلام وكانوا للدعوة عونًا وجاهدوا فى الله حق جهاده، وربما من واقع أن المدينة مدينتهم وبلدهم، وهم زعماء لها من قديم، ولكن الأمر كانت له اعتبارات أخرى فى نظر المهاجرين، ومعظمهم من القرشيين، ولذلك فإن عمر بن الخطاب أسرع، بعدما رد به عليه أبوعبيدة، فأرسل إلى أبى بكر فى بيت عائشة ليخرج إليه. فلما رد أبوبكر بأنه مشتغل فى تجهيز الرسول، عاد عمر فأرسل إليه أن هناك أمرًا جللًا لا بد له من حضوره.

خرج أبوبكر، فعلم بما يجرى فى السقيفة، فأسرع ومعه عمر وأبوعبيدة إلى هناك، حيث وجدوا الأمور متفاقمة بين الأنصار، يريد معظمهم أن يبايعوا سعد بن عبادة، ومنهم من يقول: "أما بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، لكنكم تريدون أن تخذلونا من أصلنا فتبعدونا عن الأمر".. وتطايرت العبارات بين المهاجرين والأنصار، واحتقنت النفوس حتى طلب أحد الحاضرين إجلاء المهاجرين عن المدينة أو يتولوا عنهم الأمر.. ثم وجه الحديث إلى المهاجرين الثلاثة: أبى بكر وعمر وأبى عبيدة، فقال: "أما والله إن شئتم لنعيدنها جَذَعَةً"، فصاح به عمر: "إذن يقتلَك الله"!، وردّ بعض الأنصار: «بل إياك يقتل»!

اشتعلت الثورة، وزاد اللغط، ولم يعد أحد يسمع أحدًا، هنالك تدخل أبوعبيدة بن الجراح، بحكمته وبهدوئه وحلمه ووداعته ورفقه، فوجه حديثه إلى أهل المدينة، فقال لهم فى رفق ومودة: "يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وغَيَّر"!.. ثم استرسل أبوعبيدة يذكر فضلهم ومآثرهم وما بذلوه فى نصرة الإسلام والمسلمين.

سكّنت هذه العبارات الرقيقة الحليمة، من ثورة النفوس، وعاد الناس يتجادلون بالحجة، وأراد عمر بن الخطاب أن يتكلم، فأمسك به أبوبكر مخافة شدته وقال له: على رسلك يا عمر! ثم وجه كلامه للأنصار، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، يا معشر الأنصار، فإنكم لا تذكرون منكم فضلًا إلّا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب دارًا ونسبًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم"، وأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبى عبيدة بن الجراح، ولكن عمر وأبا عبيدة أبيا هذا الترشيح، وأزمعا بغير اتفاق أن يردّا البيعة إلى أبى بكر الصديق.

سارع عمر فقال لأبى بكر: "ابسط يدك أبايعك" وكانت كلمات أبى بكر، وبعدها إشارة عمر إلى تأمير النبى له على الصلاة بالمسلمين، قد مست شغاف قلوب الجميع.. بدأ عمر وأبوعبيدة بن الجراح فبايعا أبا بكر بالخلافة، وبايع المهاجرون.

إيثار الأنصار، ومبادرتهم للبيعة

على أن اللافت الكاشف عن إيثار الأنصار ونكرانهم لذواتهم، وإخلاصهم بلا حدود للإسلام، أنهم بادروا ورغم غضب كبيرهم سعد بن عبادة، فبايعوا أبا بكر الصديق بالخلافة، وحفظوا الإسلام والمسلمين من فتنة لا يعلم مداها إلاًّ الله، بَيْدَ أن الأيام حفظت لهم، وحفظ لهم التاريخ، أنهم أخلصوا العون للخلفاء الراشدين وجاهدوا تحت إمرتهم، وسطروا مع المسلمين صفحات تجل عن الوصف فى العراق وفارس، وفى الشام، وظل عطاؤهم مستمرًّا بلا حدود فى إيثار عظيم وإنكار للذات يجل عن أى وصف!

عود على بدء

لم يكن تطلع الأنصار لولاية الأمر بعد النبى صلى الله عليه وسلم تطلعًا نابيًا، ولا كان طمعًا بلا سند.. فهم عدة وعمدة المدينة التى صارت بما قدموه من نصرة للإسلام ورسوله، صارت عاصمة الدولة الإسلامية، وفيهم كبار جدًّا من أجلة الصحابة الذين صاحبوا النبى عليه الصلاة والسلام وتلقوا عنه وعملوا بهديه وسنته وتحت رايته، واضطلعوا بأعباء جسام اختارهم لها اختيارًا رشيدًا لا مجاملة فيه، وكان ذلك لما وُهبوا من مقومات الرشد والقيادة، وعناصر الريادة فى أمور الدين وسياسة الدنيا، ولا يوجد مشهد من المشاهد الإسلامية، إلّا وكان للأنصار قصب السبق وعُراضة العطاء فيه.. بدءًا من بيعة العقبة الأولى والثانية، وفتحهم ديارهم ومعها قلوبهم، ونصرهم للمهاجرين الذين أجبرهم إيذاء طواغيت قريش على الهجرة، فتفتحت لهم وللإسلام قلوب الأنصار، ومرورًا بكل الأزمات والمشاهد التى أسهم فيها الأنصار بأوفى نصيب، حتى رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم ولحاقه بالرفيق الأعلى.

وقد مَرَّ بنا ما قيل يوم سقيفة بنى ساعدة، وبعضه -بل معظمه- يُغضب ويُمِضّ، ويثير الشجن والأسى، ويدفع إلى أَتون العصبية والانتصار للذات، بَيْدَ أن الأنصار سرعان ما هدءوا وسكنوا وقبلوا كلمات الصديق أبى بكر، برغم أن فيها ما يمكن أن يبرر النقاش والاختلاف، ولكنهم ارتفعوا وتعالوا إلى الغاية العليا لاستمرار دعوة الإسلام بلا شقاق، وتجاوز الأنصار موقف السقيفة فى إيثار رائع، وانخرطوا فى القافلة المباركة بقيادة أبى بكر ثم باقى الخلفاء الراشدين من بعده، جنودًا للإسلام بلا مآرب أو أغراض، ومضت الأعوام وتقلبت الدنيا بين أغراض السياسة، ولكن الأنصار بقوا على عطائهم الموصول للإسلام، فكانوا فى طليعة المجاهدين فى حروب الردة بالعراق وفارس، وأبلوا أعظم البلاء فى فتوح الشام، فكانوا عدة الإسلام فى زمن الراشدين، وفى الدولة الأموية، ثم العباسية، ولم ينقطع قط مددهم وإيثارهم اللذان استقبلا بهما الإسلام، وظلوا عليهما ما امتد بأى منهم حبل الحياة.

فأين هذا المثل السامق مما يفعله الإخوان بمصر والمصريين، يوم قال الشعب كلمته فى وجوب رحيل هذا الحكم الذى أخذ البلاد إلى هوّة سحيقة، فتوعدوا الشعب ونفذوا وعيدهم، من خلال خطابٍ وفعلٍ مؤداهما: "إما أن نحكمكم أو نقتلكم"!!.

قيمة عطاء الأنصار ليست فقط فيما قدموه من نصرة للإسلام، وإنما فى المثل الأعلى الذى ضربوه فى الإيثار وإنكار الذات. ما أحوج مَن انحرفوا من المسلمين عن الإسلام إلى هذه القدوة الرائعة التى ضربها الأنصار؛ لتكون مرشدًا لهم وهاديًا وسط الأعاصير التى هبّت بفعل الأغراض ومآرب ولاية الحكم، وكثيرًا ما جرّت -وتجرّ- هذه المآرب إلى ما يبتعد ابتعادًا مخيفًا عن الإسلام!!!

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg