| 04 مايو 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: تجديد الفكر الإسلامي وتجديد التراث في فكر ومنهاج وخطاب الأزهر الشريف وشيخه الجليل "1-3"

  • | الإثنين, 12 يونيو, 2017
رجائي عطية.. يكتب: تجديد الفكر الإسلامي وتجديد التراث في فكر ومنهاج وخطاب الأزهر الشريف وشيخه الجليل "1-3"

لمست عن قرب منذ انضمامى لمجمع البحوث الإسلامية منذ خمسة عشر عاماً، عناية الأزهر الشريف، وإمامه الأكبر السابق، والإمام الحالى، وكبار شيوخه وعلمائه، بالتجديد فى الفكر الإسلامى، وبقضية التراث والتجديد، فضلاً عن تجديد الخطاب الدينى. وقد عرفت الإمام الأكبر الحالى الدكتور/ أحمد الطيب، منذ البدايات، فقد كان من عيون مجمع البحوث الإسلامية حين انضممت إليه، وكان آنذاك مفتياً للديار المصرية، بعد رحلة علمية عريضة، حصل فيها على الدكتوراه من فرنسا وحاضر فيها، وهو يتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، إلى جوار تبحره فى العربية، وعمل أستاذاً للعقيدة والفلسفة الإسلامية فى جامعة الأزهر، وتولى عمادة كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وبالجامعة الإسلامية العالمية بباكستان، وهو عالم مجدد بطبيعته، جمع إلى جوار علمه الغزير، والرؤية البصيرة، دماثة الخلق، وزهداً وأدباً رفيعاً، وظل معنا فى عضوية المجمع حين تولى رئاسة جامعة الأزهر بعد دار الافتاء، ليتولى بعد ذلك مشيخة الأزهر فى مارس 2010 إثر رحيل الإمام الأكبر الدكتور/ محمد سيد طنطاوى الذى ربطنى به ود عميق، وتقدير عظيم، ومحبة متبادلة خالصة.

التجديد فى الفكر الإسلامى

فى 31 مايو إلى 3 يونيو 2001م / 8- 11 ربيع الأول 1422 هـ، عُقد مؤتمر حاشد بإشراف أستاذنا الجليل الدكتور/ محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف آنذاك، حول التجديد فى الفكر الإسلامى، ومازلت أحتفظ بالملف الضخم لهذا المؤتمر، وأحتفظ بين أوراقى بالمحاضرة الضافية التى ألقاها فيه الدكتور/ أحمد الطيب، الأستاذ بجامعة الأزهر آنذاك، حول «ضرورة التجديد»، ليشير فى محاضرته القيمة إلى أن الغريب أن مصطلح «التجديد» فى الإسلام، لا يزال رغم الجهود المستمرة، محفوفاً بقلة فهم البعض، وبتشكك البعض فى مقاصده ونواياه. وأنه لذلك آثر أن يقدم دراسة بمنهجية علمية تبحث «ضرورة التجديد» فى إطار عناصر محددة: التجديد وطبيعة الإسلام التجديد جوهر التراث من أزمات التجديد ضرورة التجديد المعاصر الذى ازدان سلفاً بأمثال الإمام محمد عبده، والشيخ أمين الخولى، ومحمد إقبال وغيرهم.

التجديد وطبيعة الإسلام

انفرد الإسلام عن بقية الرسالات، فيما أوردت دراسة الدكتور الطيب عام 2001، بأنه الرسالة الخاتمة، وبأن نبيها هو خاتم الأنبياء، فقال تعالى: «وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (الأحزاب 40)، وانفرد ثانياً بأنه رسالة للناس جميعاً تتخطى حدود الزمان والمكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.. » (سبأ 28).

وأن هذه الخاتمية وعموم الرسالة، قد اقتضيا استمرار رسالة الإسلام إلى آخر الزمان وإلاَّ انقطع عن الناس الهدى الإلهى، وهذا يستحيل أن يُنْسب إلى القرآن الكريم الذى جاء مطلقاً من الزمان والمكان، وفيه قال الحق جل شأنه: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (التوبة 33). ولهذه الخصائص لم يقتصر نجاح دعوة الإسلام على مكان دون آخر، فنجحت حيث نزلت فى مهدها الأول، ونجحت فى بيئاتٍ قصيّة رغم أنها تختلف لغةً وجنساً وعرقاً وعقيدة وتاريخاً وحضارة.

ويرشدنا التأمل إلى أن هذا النجاح نابع من صلاحية الرسالة لكل زمان ومكان، واتسامها بما يوافق طبيعة الإنسان الروحية والمادية، والتفرقة إزاءها بين «الثابت» على الزمان، ولا يشكل للناس عنتاً ولا حرجاً، وبين ما يتغير فى حياتهم مما لا يستطيعون له دفعاً.

والتجديد أو التجدد الذاتى هو التعبير الدقيق عن هذه الخاصية الصالحة لتلبية حاجة الإنسان فى كل زمان وكل مكان، ولو كان الإسلام نصوصاً جامدة لا تقبل التجديد، لما كان لعموم الرسالة وخاتميتها معنًى ومقصداً، بل ولفقدت كل مبررات نسخها لما قبلها وخاتميتها أو قدرتها على الاستمرار فى رعاية حياة الناس ومعاشهم، ولكان قصاراها أن تؤول إلى رسالة روحية حبيسة عن رعاية الحياة المتجددة، ومن هنا كانت صلاحية الخطاب للتجدد مع تجدد الأزمان والأحوال.

التجديد وجوهر التراث

(العقلى والنقلى)

قانون التجدد أو الصيرورة إنما هو فى الأصل «قانون قرآنى» أو مبدأ لفت القرآن أنظارنا إليه كسنة من سنن الكون التى لا تتبدل ولا تتحول، فأوضح القرآن هذه الحقيقة بقولـه تعـالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد 11)، وفى قوله عز وجل: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الأنفال 53).

وقد كان الظن أن فكرة صيرورة الوجود الطبيعى وتجدده لحظة بلحظة، من مقولات قدامى اليونان أو تأصيلات فلاسفة الغرب، فإذا بنا نرى فى التراث المستوحى من القرآن المجيد، قول الأشاعرة المتكلميـن فى مباحثهم الطبيعيـة، إن «العَرَضَ» لا يبقى زمانيـن متتاليين، وإن وجود الأعراض إنما يكون بانقضائها وتجددها لحظة بعد أخرى، وإذا بنا نرى من المعتزلة كالنظَّام والكعبى من يردد هذه المقولة، بل ويخطـوا إلى أبعد بتقـرير أن «الأجسام» بدورها غير باقية على حالها وإنما تتجدد حالاً فحالاً، لتتجمع الأدلة والنظر الثاقب العميق على أن الكون متجدد وصائر وفى كل لحظة، من حال إلى حال، وأن بنية الإسلام الحية تواكب هذه الصيرورة بما قد تستوجبه أو تحتاج إليه.

ولم يكن ما تبناه أصحاب «الصيرورة» والتجدد الدائم، بناقلين عن الخارج، أو مخالفين لطبيعة الإسلام، بل لفتوا الأنظار إلى الإشارات القرآنية التى تلقوا منها هذا النبع، حتى لنجد الشيرازى فيما يضيف الدكتور الطيب يستمد قوله بأن أعيان العالم متبدلة، ومتزايلة خلقاً بعد خلق، وطوراً بعد طور، وسائرة سائلة إلى طريق الآخرة، متوجهة إلى الله راجعة إليه مما سطع لديه من القرآن الحكيم الذى تضمن آيات عديدة استلهمها فى نظريته فى الكون المتجدد بالحركة الجوهرية، من مثل قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ» (النمل 88)، ومن مثل قوله عز وجل: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» (ق 15).

وآية أصالة التجديد فى الفكر الإسلامى، حديث النبى عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها «، على أن صياغة الحديث لا تعنى أن الزمن الواحد لا يكون فيه بالضرورة إلاَّ مجددٌ واحد، بل قد يتعددون فى الزمن الواحد بل وفى المكان الواحد، مما يقوم سنداً فيما أورد الدكتور الطيب لقيام المجامع العلمية المعاصرة التى تضطلع بحركة تجديد جماعى للفكر الإسلامى.

فإذا كان التجديد بهذه الأهمية، بل الضرورة، فلماذا الجمود إذن؟!

قيل من أسباب هذا الجمود: النظام السياسى المستبد الذى ابتدعته الدولة الأموية، وما أدى إليه من تكريس حالة «انفصام» حاد بين العلوم الإسلامية وواقع المسلمين، وتجمد الفقه بأنواعه، والتزام الأئمة الكبار بفروع الفقه، واقتصار علماء الحديث على رواية «السنن»، والاكتفاء بالأمر الواقع، والانصراف إلى شروح العبادات والمعاملات، فضلاً عن الأزمة الناجمة عن ضعف الدولة العباسية، وفوضى القضاء والافتاء، وجرأة غير المؤهلين علمياً على اقتحام المناطق الحساسة، الأمر الذى أسلس إلى «التقليد» ثم «الجمود» ثم «التعصب». وهو الثالوث الذى ضرب خصوبة الفكر الإسلامى فى الصميم!

من أزمات التجديد

أحصى الدكتور الطيب فى دراسته القيمة، عوامل ما صادفه التجديد من أزمات حالت بينه وبين القيام بدوره، منها عدم التفرقة عمليًّا بين الثوابت والمتغيرات، بينما الإسلام يشتمل على الثوابت الخالدة، وعلى متغيرات متحركة، واتخذ من كل منهما موقفاً نابعاً عما يقتضيه.

وثوابت الدين التى لا تقبل التغيير، ولا يرد عليها تجديد، هى العقيدة، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما ثبت بدليل قطعى من المحرمات، وأمهات الأخلاق، وما يثبت بطرق قطعية فى شئون الأسرة من زواج وطلاق وميراث، ومن الحدود والقصاص.

أما المتغيرات، «فهى كل ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية»، وأمثلتها عديدة لا تقع تحت حصر.

ولا شك فيما أورد أن هذه الثنائية بين الثوابت والمتغيرات فى رسالة الإسلام، تكشف عن جانب من أهم جوانب إعجاز هذه الرسالة.

وجدير بالذكر فيما أبدى أن المتغيرات تتسع بطبيعتها لتطبيقات عدة وصيغ مختلفة، كلها مشروع مادام يحقق مصلحة معتبرة فى موازين الإسلام، ولا يصادر مقصداً من مقاصده. ومادام الإطار شرعيًّا، فلا بأس من أن يتسع المضمون بصيغه لما يواكب هذه المقاصد الشرعية، ولا محل من ثم لافتعال التعلات للاقتصار على صيغ أو أشكال معينة، أو تجاوز فقه الأولويات، أو الاضطراب فى فهم مقصد الشارع فى هذه المسألة أو تلك.

وقد ترتب على آفة الخلط بين الثابت والمتغير، آفة الخلط بين ما يعد تشريعاً عاماً وما لا يعد كذلك، وقد فصل الفقهاء الثقات فى هذه المسألة، وميزوا بين الحكم المراد به الاستمرار، وبين الحكم الظرفى أو الوقتى تبعاً لظرف معين أو وقت معين، ومن هؤلاء فيما أشار الدكتور الطيب الشيخ محمد مصطفى شلبى فى كتابه الضافى «تعليل الأحكام»، والإمام الأكبر الشيخ/ محمود شلتوت فى كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة»، وفيما أبداه ونقله الأستاذ الدكتور/ عبدالحميد متولى فى كتابه «أزمة الفكر السياسى»، وأيضاً فى كتابه «مبادئ الحكم فى الإسلام»، ولعلى أضيف ما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور «محمد عبدالله دراز» فى أكثر من مؤلف من مؤلفاته، والبحث العميق الذى كتبه أستاذنا الشيخ/ عبدالوهاب خلاف بعنوان «مرونة مصادر التشريع الإسلامى» المنشور بمجلة القانون والاقتصاد التى تصدر عن كلية الحقوق جامعة القاهرة عدد أبريل/ مايو 1945، ويتصل بذلك ما كتبه فى الاجتهاد الشيخ/ عبدالمنعم النمر، وأستاذنا الجليل الدكتور/ محمد سيد طنطاوى الإمام الأكبر السابق.

ومن سوء الفهم، ومن أزمات التجديد، عدم التفرقة بين الشريعة وبين الفقه، فالشريعة هى الدين الذى أنزله الله تعالى، والفقه فهم بشرى واجتهادات بشرية، ولذلك فإنه لا يصح فى البداهة والأفهام إنزال الفهم البشرى منزلة الشريعة، واعتبار شروح وآراء العلماء هى هى الشريعة أو من الشريعة، وإضفاء عصمة لها كعصمة النص القرآنى أو النبوى، فذلك خلط وتخليط، لأن استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومحدثين ومتكلمين، هى «معارف بشرية» يؤخذ منها ويترك، ولا يعنى هذا فيما أبدى الدكتور الطيب أن ندير ظهورنا لتراثنا الفقهى، أو نقلل من أقدار علمائنا وفقهائنا، وإنما معناه أننا لا نخلط بين الدين وبين ما هو بشرى يختلف باختلاف العقول والأفهام التى تصدت له، فنقبل الصحيح الجدير بالقبول، ونرفض أو نعرض عما أخطأه التوفيق والسداد، وهذا الذى نُعْرض عنه من الفهم البشرى، ليس إعراضاً عن الشريعة والدين الذى أنزله الله تعالى.

وجدير بالذكر فيما أبدى فضيلة الدكتور الطيب أن الخلط بين الفقه والشريعة، قد أدى إلى الوقوع فى «التقليد» واتخاذه منهجاً ثابتاً فى البحث عن حلول لمشكلاتنا المعاصرة، والتقليد آفة تصادر إذا تجذَّرت على العقل وعلى الفكر وعلى أجيال من العلماء والفقهاء، ربما أتاح لهم الزمن ومعطيات الحضارة وتوافر المكتبات، وتصنيف وفَهْرَسة الكتب، ما كان متعذراً ليس فى متناول السابقين من العلماء فى الزمن الغابر أو الماضى.

ولا يعنى هذا هجر ما اجتهد فيه السابقون، فالإطلال عليه والتعرف على عناصره وأدلته واجب، ولكن وجوبه هو لتوسيع الرؤية. وتعدد منابع الفهم، لا للمصادرة على عقول العلماء وعلى التجديد فى الفكر والفهم وفى الدين إلى آخر الزمان.

كثيرا ما يؤدى التعمق وإعمال الفكر، إلى تجليات للنصوص لم تظهر للسابقين، أو إلى استيلاد معانٍ أو أحكام تلبى الحاجات المستجدة، وقد لا تكون هذه الحاجات هى هى الحاجات التى عرضت بذاتها فيما مضى، بل قد يطرأ عليها من تغيرات الظروف والأحوال والزمان والمكان، ما يجعل لذات الحاجة بعداً أو أبعاداً أخرى زيادة عما كانت عليه، وقد تتغير معالمها تغيراً جوهريّا فى عنصر من عناصرها أو جانب من جوانبها، الأمر الذى يستوجب تجديد النظر والفكر، ويؤدى القعود عنهما إلى محاصرة العقل ومحاصرة الفكر ومحاصرة التجديد الواجب مواكبته لمستجدات الحياة.

ومن المستغرب أن تركن الأمة إلى التقليد فى عصرنا الذى امتلأ بملايين المتغيرات، وبالعديد من الكشوف العلمية، وما ساق إليه ذلك من رؤًى فقهية بصيرة متجددة، لذلك كان الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى على صواب فيما أبدى الدكتور الطيب حين أبدى أن الاعتزاز بتراث الماضين طبيعى وغريزى، ومن الحمق التنكر له، بيد أنه من الحق أيضاً، بل فى الأساس، أن الجمود من سمات الموت، وأن الحركة هى أهم خصائص بل علامات الحياة، وليس ببعيد عن العارفين أن كثيرا من آيات القرآن الحكيم قد عابت على التقليد والمقلدين، ولعله لا يفوت أن كل ما احتج به المعاندون فى قبـول دعوة الإسـلام وهداية الله، أنهم كانـوا لا يحتجون إلاّّ بما وجدوا عليه آباءهم، فاحتج قوم إبراهيم إليه بقولهم: «بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» (الشعراء 74)، وقال قوم شعيب له:» أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا». (هود 87)، وقيل لموسى عليه السلام: «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا» (يونس 78)، وقالت ثمود لنبيها صالح: «أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا» (هود 62)، وبمثل ذلك قالت مدين لشعيب، وعاد لهود، وجاء مثل ذلك عمن تصدوا بالنكير للدعوة المحمدية، فجاء بالقرآن الحكيم: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (الأعراف 28)، «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» (الزخرف 22، 23). وقد قص الذكر الحكيم ما كان من ضيق وجمود منطق هؤلاء الأقوام مع نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى، وقد حاجاهم القرآن المجيد فى سورة البقرة بقوله عنهم: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون»؟! (البقرة 170)، وجاء فى سورة المائدة: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ»؟! (المائدة 104).

بداهةً فإننى لا أعنى بهذا الاستطراد أن أشبه الجامدين بما تجمد عليه الكفار والمشركون، وإنما أردت فقط أن أبين «علة الجمود» وأثره فى حرمان العقل من التفكير، وهو فى الإسلام فريضة جعلها الأستاذ العقاد عنواناً لأحد كتبه الضافية.

وقد استشهد الدكتور الطيب فى بيان آفة الجمود وشل حركة التجديد والإبداع، بأحاديث من السنة، وبمرويات عن الصحابة والتابعين، تتفق فى غايتها مع مطالب التجديد الذى يصادره الجمود والتقليد والانغلاق.

ضرورة التجديد المعاصر

يشير فضيلة الدكتور أحمد الطيب فى دراسته هذه عام 2001، إلى أنه لمعت فى سماء تاريخنا المعاصر، فرصة لتجديد حقيقى يضع أقدامنا على طريق نهضة إسلامية حقيقية، اضطلع بها رعيل من المجددين المحدثين والمعاصرين، ممن حملوا شعلة التجديد، منهم تمثيلاً لا حصراً جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده، وسار فى دربها مجددون فى مصر والهند وتركيا والعراق وإيران وسوريا وبلاد المغرب.

ورغم أن حركات التجديد هذه قد أحرزت بالفعل نجاحات عديدة، إلاَّ أنها لم تنجح فى تفعيل الفكر الإسلامى بحيث يواكب مستجدات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، بل آلت الحركة فى النهاية إلى حالة من الوهن والضعف انعكست آثارها مؤخراً على كل بلاد الشرق الإسلامى!

وقد ازدادت حدة الغزو الثقافى الغربى عما كانت عليه فى أوائل القرن الماضى، وحتى منتصفه، ولم يعد هذا الغزو يترك هامش أمان من ثقافة إسلامية تقليدية يحتمى بها المسلم من أشباح الضياع والاغتراب.

وربما كان هذا الغزو الثقافى الغربى محصوراً بين الوجهاء والبعثات التعليمية القليلة العدد، أو النخب المرفهة القادرة على تمضية الأجازات فى الغرب وعلى شواطئه، إلاَّ أنه بسبب الطفرة الهائلة فى تكنولوجيا الاتصال، تحطمت الحدود والحواجز، وسهل على الغرب أن يخترق بثقافته وسلوكياته المجتمع المسلم والأسرة المسلمة، وهو اختراق متجدد ومدروس بفلسفة استعمارية جديدة اتخذت «العولمة» عنواناً وشعاراً لها.

ولا يعترض الإسلام على الانتشار الثقافى، إلاَّ أن هذه المواجهة الجديدة قد أحدثت مفارقات فى النظام الاجتماعى الإسلامى لم يُحسب حسابها من قبل، لأن زخماً هائلاً من ثقافتنا لم يكن مؤسساً على قيم وأصول إسلامية محررة، تؤهلها للتعامل مع هذا الوافد المكتسح، بقدر ما كانت أمشاجاً وأخلاطاً من عادات وأفكار تقليدية جامدة، أو أنماط منفلتة من ناحية أخرى.

وللأسف كانت القيم الإسلامية الأصيلة هى الغائب المفتقد دائماً فى هذا الخليط غير المتجانس، وكما كانت صدمة الغرب فى القرن الماضى التى أشعلت لديهم فتيل التجديد، كانت العولمة، أو: «قانون المركز والأطراف» هى الصدمة الكهربائية التى وضعتنا فى مواجهة جديدة، بل محنة من نوع جديد، تستلزم منا العودة الواعية إلى التراث وإعادة قراءته فى ظل القيم والمفاهيم الجديدة والمتجددة، ذلك أن التراث مع التجديد لا مفر منه للنهضة المرجوة التى تبقى فيها الأمة الإسلامية على قيد الحياة.

خطان متوازيان

والتجديد المنتظر للخطاب الإسلامى المعاصر، ينطلق ابتداءً وأساساً من القرآن والسنة، ثم مما يتناسب مع خطاب العصر من واقع كنوز التراث وتجديده.

ولا يعنى هذا أن يكون الخطاب شموليًّا خالياً من تعدد الآراء ووجهات النظر، وإنما المطلوب خطابٌ جديد خالٍ من «الصراع» ونفى الآخر وادعاء احتكار الحقيقة فى رأى، ومصادرتها ونفيها عن رأى آخر مماثل.

إن الانفتاح على الآخرين، علمانيين أو غيرهم، يستهدف استكشاف «عناصر التقاء» يمكن توظيفها فى تشكيل إطار ثقافى عام يفيد منه الإسلاميون قبل غيرهم، وبعيداً عن التنوير الزائف، خاصةً فى التغلب على المرض المزمن الذى يستنزف طاقة أى تجديد واعد، ويواجه التقسيم التقليدى إزاء «التراث والحداثة»، لتكريس تيار إصلاحى يتلافى تحويل المواجهة إلى صراع داخلى يترك الساحة خالية لمن يريدون سحق الجميع!

إن الذين لم يجدوا حرجاً فى الاستهزاء بالتراث والسخرية منه، بدلاً من إعادة قراءته والتجديد فيه، أدارت الجماهير ظهورها لهم، ومن ثم زادوا الأمور إظلاماً على ظلام!

إن التيار الإصلاحى الوسطى، فيما يقول، هو التيار المؤهل لحمل الأمانة، والجدير بمهمة «التجديد» الذى تتطلع إليه الأمور، وهو القادر على تجديد الدين لا تشويهه أو إلغائه، مع وجوب الالتفات إلى تفادى صراع الاستنزاف من اليمين ومن اليسار.

وأخيراً

ليس من هَمّ هذه الدراسة أو الورقة كما يحلو لفضيلة الدكتور الطيب أن يسميها، أن تتفاعل مع الغرب أو تتناغم مع ألحانه، فما تزال تتمتع بكامل الصدق والواقعية، الحكمة القائلة بأن «الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا».

هَمّ هذه الدراسة، أو الورقة، هو أولاً وأخيراً «ضرورة التجديد»، بحثاً عن: مَنْ نحن؟ ومَنْ الآخر؟ وكيف نحاوره ولا نصارعه! فى رحاب انطلاقة موفقة فى مجال التجديد تجسر بها الفجوة بين الإسلام والعصر، وبين الفكر الإسلامى وحضارات العصر المختلفة.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg