| 03 مايو 2024 م

أراء و أفكار

وكيل الأزهر الشريف يكتب "رؤية فقهية": التجديد والإجماع

  • | الأحد, 18 يونيو, 2017
وكيل الأزهر الشريف يكتب "رؤية فقهية": التجديد والإجماع

يراد بالإجماع اتفاق فقهاء عصر من العصور التى تلت عصر النبوة على حكم مسألة ما، كاتفاق الصحابة على أحقية الصدِّيق بخلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اختلفوا اختلافاً شديداً حول هذا الأمر؛ حيث كان الأنصار يرون أنهم أحق بها لأنهم هم الذين نصروا الدعوة بعد أن كادت تختنق بمكة، وكان المهاجرون يرون أنهم أحق بها لسبقهم فى الإسلام وتحملهم مع الرسول صنوفاً من الأذى وتركهم ديارهم فراراً بدينهم، بالإضافة إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، وكثير منهم له قرابة معه. وقد وقع خلاف بين المهاجرين أنفسهم بعد أن سلم الأنصار بأحقية المهاجرين فى الخلافة، فكثير من المهاجرين يصلح لها، حتى استقر الأمر على الصدِّيق خليفة للمسلمين. ومن الإجماع أيضاً اتفاق الصحابة على قتال مانعى الزكاة إنكاراً وجحوداً بعد خلاف دار بين الصدِّيق وعمر - رضى الله عنهما - فعمر الشديد فى الجاهلية والإسلام يعارض قتالهم لأنهم ينطقون بالشهادتين ويصلُّون، ورسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - منع قتال من نطق بالشهادتين، حيث يقول: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، ومانعو الزكاة يشهدون أن لا إله إلا الله.

أما الصدِّيق المعروف بالرقة واللين فيرى قتالهم لأنهم أنكروا ركناً من أركان الإسلام، فلمَّا كانوا يقاتَلون إذا أنكروا الصلاة، فكذا إذا أنكروا الزكاة، ولذا قال: «والله لأقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال»، والإجماع منعقد على قتال من ينكرون ركناً من أركان الإسلام، مع مراعاة أن هناك فارقاً كبيراً بين المنكرين الجاحدين والتاركين تهاوناً أو تكاسلاً مع إقرارهم بالحكم الشرعى، فالتاركون تهاوناً عصاة لا يقاتَلون. ومن صور الإجماع كذلك إجماع الصحابة على جمع المصحف بعد أن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متفرق على خرق من القماش والجلد ونحوهما، وغير ذلك من الوقائع التى اتفق الصحابة على رأى واحد فيها مما لا نص فيه من القرآن أو السنة.

والإجماع الذى هو اجتهاد فقهاء عصر من عصور الإسلام وانتهاؤهم إلى رأى واحد فى حكم مسألة ما، هو المصدر الثالث من مصادر التشريع فى شريعتنا الإسلامية، وهذا الاتفاق الحاصل من المجتهدين يكون بعد التدقيق فى آيات وأحاديث الأحكام، وبعد مراجعة مقاصد الشريعة الإسلامية والسير على هدى نصوصها ونهجها فى دفع الضرر ودرء المفاسد وجلب المصالح. وهذا الإجماع حجة شرعية، والحكم المستفاد منه ملزم للمكلفين كأنه مأخوذ من القرآن أو السنة، لأن الإجماع فى حقيقته سير على نهج نصوصهما، ولذا فلا يجوز لمكلف ترك الحكم المجمع عليه من فقهاء عصر من العصور بدعوى أنه ليس فى كتاب الله أو سنة رسوله، لأن الفقهاء الذين توصلوا إليه إما أنهم وقفوا على مستنده المنصوص عليه من سنة لم تصلنا، أو أن المستفاد من نصوص التشريع فى مثيل الواقعة محل الاجتهاد يقضى بوضوح بهذا الحكم الذى أجمعوا عليه، وإلا لوقع بينهم الخلاف كما هو الحال والشأن فى غالب الفروع الفقهية.

ويعرف أهل الاختصاص والدارسون لأصول الفقه مباحث كثيرة تتعلق بالإجماع وحجيته وأنواعه وشروطه مما لا يتسع المقام لبيانه فى هذه المساحة، وما يعنينا هنا هو اختلاف العلماء فى انعقاد إجماع من أهل زمان يخالف إجماع فقهاء زمان سابق على زمانهم، بمعنى أنه إذا انعقد إجماع الصحابة مثلاً على حكم واقعة معينة وذكروا لها حكماً بالإباحة أو التحريم أو الندب أو الكراهة، فهل يجوز لفقهاء عصر التابعين مثلاً أو فقهاء عصر تالٍ لهم أن يجتهدوا فى نفس المسألة مرة أخرى؟ وفى رأيى، المسائل المجمع على أحكامها - وهى بعد التحقيق العلمى قليلة، حيث إن كثيراً مما ورد أنه من المجمع عليه يثبت بعد التحرى أنه ليس كذلك - هذه المسائل يصعب أن يتوصل المجتهدون فى زمان ما إلى حكم يغاير الذى اتفق عليه سابقوهم فيها، وذلك لما سبق ذكره من أن اتفاق مجتهدى عصر ما على حكم واحد فى المسألة دليل على تمكن الحكم منها، ومع ذلك فإن ما علمناه مما خلفه السابقون أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وأنه يتغير بتغير الحال والزمان والمكان، ومما تعلمناه من تراثهم - كما ذكر الإمام القرافي - أن «الجمود على المنقولات من الضلال فى الدين والجهل بمقاصد علماء المسلمين»، دون استثناء لحكم مسألة من مسائل الاجتهاد ولو كانت من المسائل المجمع على حكمها، وهذا يرجح جواز إعادة النظر والاجتهاد فى أحكام بعض المسائل المجمع على أحكامها، لا سيما المسائل التى ترتبط بعلل غير مستقرة، وتلك التى تتأثر بمستحدثات الأزمنة، فسهم المؤلفة قلوبهم - على سبيل المثال - هو أحد مصارف الزكاة كما جاء فى كتاب الله تعالى، وقد كان من المجمع عليه فى صدر خلافة الصدِّيق، حيث إن كل نص قطعى الدلالة فى كتاب الله أو سنة رسوله هو من مسائل الإجماع، فالإجماع لا يختص بالاتفاق على أحكام المسائل التى لم يرد نص فيها، وإن كانت أهميته تكمن فى المسائل التى لم يرد فيها نص، لأن الحجية فيما فيه نص إنما هى من النص نفسه وليس من الإجماع، ومن ثم فإن سهم المؤلفة قلوبهم مستحق لهم بكتاب الله وفعل النبى صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من ذلك، فقد اجتهد فيه سيدنا عمر فى زمن الصدِّيق - رضى الله عنهما - فرأى وقف صرف الزكاة لهم، لأن العلة التى هى تكثير عدد المسلمين قد زالت بكثرة المسلمين المؤمنين، فوافقه الصدِّيق وبقية الصحابة على ذلك، وامتد الحكم إلى يومنا هذا.

وعليه، فإن الاتفاق على حكم مسألة ما فى زمان معين غير مانع من إعادة النظر فيها، مع مراعاة أن ما سقناه فيما يتعلق بحكم سهم المؤلفة قلوبهم مجرد مثال تقريبى لا يبرهن على هذا الرأى، لأنه يختص بزمن واحد وهو زمن الصحابة، كما أن هناك خلافاً بين العلماء فى تسمية اتفاق أهل الزمان الواحد فى حكم مسألة ما بالإجماع قبل فناء فقهاء أهل ذلك الزمان، وما قصدته هنا أنه إذا كان وقوع الاجتهاد والنظر فى مسائل متفق على أحكامها إذا كان فى الزمان الواحد ومن المجتهدين أنفسهم، فوقوعه من أهل زمان آخر يتصور ظهور مستجدات تدعو لإعادة النظر فى الحكم أولى، ومن المسائل التى أجمع أهل زمان على حكمها لكنها تقبل إعادة الاجتهاد من أهل زماننا - على سبيل المثال لا الحصر - مسألة إجهاض الجنين بعد أربعة أشهر من حمله، حيث أجمع فقهاء المذاهب على عدم جوازه بحال من الأحوال، خلافاً للحمل الذى لم يبلغ هذه المدة، حيث اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً.

وعلل الفقهاء عدم جواز إجهاض الحمل بعد بلوغه هذا العمر بنفخ الروح فيه، وكونه أصبح آدميًّا حيًّا وإن بقى متصلاً بأمه لاكتمال مراحل نموه ليكون طفلاً قادراً على العيش خارج الرحم، فيكون إجهاضه عندئذ من القتل المحرم شرعاً.

وقد أيد ذلك الطب الحديث من جهة أخرى، وهى خطورة عملية الإجهاض على حياة الأم، لأن السبب الذى يجوِّز الإجهاض بعد بلوغ الجنين هذا العمر هو الخوف على حياة الأم لمرضها مرضاً يخشى معه على حياتها، وقد أثبت الطب أن الحالات المرضية التى لا ينبغى للأم أن تحمل معها تكون عملية الإجهاض فيها أخطر على حياتها من عملية الولادة ذاتها، ولكن إذا استطاع الطب أن يتوصل إلى إخراج الجنين من رحم الأم التى هناك خطورة شبه مؤكدة على حياتها بطريقة تضمن غالباً بقاء الأم حية، فيكون إعادة النظر والاجتهاد فى حكم المسألة من فقهاء العصر معقولاً ومقبولاً فى هذه الحال.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
5.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg