| 28 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: تجديد الفكر الإسلامي وتجديد التراث في فكر ومنهاج وخطاب الأزهر الشريف وشيخه الجليل "5 - 5"

  • | الأحد, 2 يوليه, 2017
رجائي عطية.. يكتب: تجديد الفكر الإسلامي وتجديد التراث في فكر ومنهاج وخطاب الأزهر الشريف وشيخه الجليل "5 - 5"
رجائى عطية

والتراث القديم وفقاً لما حدده مؤلف «التراث والتجديد»، هو فيما يقول روح الأمة ومصدر قوتها ومحرك جماهيرها بما يمدها من تصورات وقيم، وأنه من ثم جزء من الواقع لا تزال أصابعه «الخفيّة» فيما يقول تحرك الناس على مسرح الواقع المعاصر.

وليس لنا أن نتوقع لدى تلك النظرة، فيما أبدى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب، وجود تفرقة حاسمة بين التراث كمبادئ خلاّقة فى حياة الأمم، وبين الممارسات الخاطئة التى تحسب على الأفراد أتباع التراث لا على التراث نفسه.

وهذه التفرقة الواجبة اختفت تماماً من اهتمامات المشروع وهو يتحدث عن التراث وتأثيراته فى الحياة المعاصرة، لتحل محلها «علاقة عضوية» مصنوعة أو مصطنعة بين التراث كمضمون وقيَم ومبادئ موجهة للسلوك، وبين حالة التخلف التى تعيشها الأمة الإسلامية الآن.

وهذا التراث فى عرف صاحب نظرية «التراث والتجديد»، هو العلة الحقيقية لكل مشكلاتنا المعاصرة وعجزنا وانحطاطنا وتخلفنا، وفيما نعانيه الآن من لا مبالاة وسلبية وتواكل هو أثر الإيمان بالقضاء والقدر فى التراث، وما استقر فى مناهج تفكيرنا المعاصر من خلط بين العقل والوجدان، فنخطب ونظن أننا نفكر، ونفتعل ونظن أننا نفعل، والسبب أن العقل فى التراث القديم الموروث، كانت مهمته «تسويغ الدين»، وأن العقل لم يستقل على الإطلاق، ولم يوجه نحو الواقع إلاَّ فى علم أصول الفقه، والذى انتهى أيضاً فى نظره إلى الثبات وتحجير الأصول وتغليبها على الواقع بحيث لم يبق إلاَّ التقليد!

وقد أسرف صاحب هذا النظر على نفسه وعلى الحقيقة، فيما رصده من مظاهر سلبية عزاها جميعاً إلى التراث القديم الموروث، حتى اعتسف مثلاً! علاقة بين الإلهيّات والطبيعيات فى التراث، وبين ازدحام الناس فى سيارات النقل العامة، حاملاً فى شطط يفتقد إلى المقومات الصحيحة على كل تراثنا الفلسفى، وعلى علوم الفقه الإسلامى التى أورثت فى نظره عللاً عقلية، وعلى التصوف الذى يراه يقاوم الانحراف بانحراف آخر هو الرجوع إلى الوراء، مع هروب علومه وتحليلاته من عالم العقل، معتمداً وفى منهج غير علمى على تزييف الحقائق والتناول الهازئ الساخر، لينتهى فى اعتساف غريب لا يتفق مع التحليل العلمى إلى أن هموم فقهائنا وعلمائنا لم تكنْ فقه الثورة أو فقه العدالة الاجتماعية أو التحرر من الظلم، وإنما كانت همومهم منحصرة فى أمور تافهة!!

وأنت لا بد تحتاج إلى صبر طويل لاحتمال هذه المغالطات، وإنكار آلاف الكتب والمجلدات للفقهاء والعلماء المسلمين فى الإصلاح وفى العدالة الاجتماعية وفى التشريع وفى مقاومة الظلم، وأنت لا بد تحتاج إلى صبر أطول إزاء تشخيص حياتنا بأن الإنسان محاصر فيها وفقاً لتراثنا القديم بين الإلهيّات والطبيعيات فى الفلسفة، ومبتلع فى علم التوحيد، وفانٍ فى علوم التصوف، وممحوق فى علوم التشريع، وأننا على حد تعبيره «نعمل بالكندى، ونتنفس الفارابى فى كل لحظة، ونرى ابن سينا فى كل الطرقات»، ليخلص بعد تجاهل غريب لقائمة العلماء المسلمين المعطائين فى كل هذه المجالات إلى أن تراثنا القديم حىٌّ يُرزق، يوجه حياتنا اليومية المعاصرة!!!

مآخذ حقيقية على هذه النظرية

منهجاً وأسلوباً!!!

يذكر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب، بأن هذه النظرية قد هجرت ضوابط البحث العلمى فى أخطر قضية تمس حياة المسلمين، ولم تفرّق بين الأصول والثوابت، وبين المتغيرات،

ولم تستثن حتى! «أصول التراث» من تحمل مسئولية تخلف المسلمين، وأطلقت العنان للقول صراحة أو ضمناً بأن الإيمان بالقضاء والقدر، والثنائية الفاصلة بين الله والعالم، والإيمان بالبعث، هى العلل الأولى والجراثيم الحقيقية لما أسماه الأمراض المعاصرة فى المجتمع الإسلامى.

وشاءت هذه النظرية إزالة الحدود فى خطة التجديد بين الأصول كثوابت لا تقبل المساومة ولا التأويل، ولا الالتفاف عليها، وبين رؤى شائهة وتفسيرات مغشوشة لأمراض طفيلية لـ«ملصقات» تتعرض لها كل الأديان، لا هى من الإسلام، ولا هى من تراثه، ولا علاقة لهذه «الملصقات» بالمصدر الأصلى للفكر أو الفلسفة أو الدين. وانخلط بين «الملصقات» التى ليست من الدين والتى لم ينج منها دين، وبين الإسلام وتراثه الحقيقى، ناهيك بأصوله وثوابته، هو خلط غير مغفور، ولا يشفع له حتى! الإهمال غير المقصود أو غير المتفطن، لأن «التنحية» واجب بديهى وأولى قبل النظر فى التراث الحقيقى، أصولاً وفروعاً، ثوابت ومتغيرات واعتبار «الملصقات»  من الدين لتبرير إهالة التراب على الدين، لا يتفق مع المنهج العلمى، ولا مع أصول الاستدلال، ولا مع ما يجب من حسن النوايا والمقاصد!

وقد كان على صاحب هذه النظرية فيما أبدى الدكتور الطيب أن يتلافى هذا الخلط، بين مبادئ التراث وقيمه، وبين «الملصقات»  وبعض السلوكيات المنحرفة عن التراث، وأن يناقش المفاهيم ويحاكمها فى إطارها المعرفى والقيَمى كما هى مطروحة فى التراث نفسه، لا فيما يلتصق خطأً به أو ينبو فى السلوك عنه، وهو خلط يجاوز المنهج العلمى إلى ضلال النتائج التى يخلص إليها. كما أن صاحب هذه النظرية، لم يشأ أن يفرق بين ما هو أصيل وصحيح ومطلوب ومن ثم يجب المحافظة عليه، وبين ما هى طفيلى أو زائف أو خاطئ ومطلوب مواجهته والقضاء عليه فى تجديد التراث.

والسبب فيما أبدى الدكتور الطيب، أن سيادته لم ير فى التراث القديم إلاَّ سلوكيات معاصرة رديئة، ثم راح يحاكم بها التراث نفسه، فصادر بذلك على المطلوب، وليس استدلالاً عليه، أو على حد التعبير المعاصر وضع العربة أمام الحصان!!

ما كان هذا ليكون، اللهم إذا اعتبر «مشروع التجديد» أن المحتوى الداخلى للتراث كله، ليس إلاَّ السلبية والنفاق والخنوع!!

هذا، بلا مواربة أو تخفيف، هو رأس المسألة ومحل النزاع الذى نَبَّه إليه صراحةً فضيلة الإمام الأكبر الدكتور الطيب.

المغالطات... والمفاهيم الصحيحة

هناك فروق لا بد من التفطن إليها للفرز الواجب بين الصحيح والمغلوط.

التفرقة مثلا بين القضاء والقدر كأصل من أصول الإيمان فى الإسلام، وبين مفهوم العجز والكسل والتواكل..

التفرقة بين الإيمان بالبعث، وبين أمراض الازدواجية فى المجتمعات..

التفرقة بين نظام الشورى والخلافة فى الإسلام، وبين مداهنة البعض ونفاقهم للحكام..

وإذا كنا لسنا بحاجة للدفاع التحليلى عن كل علم من علومنا التى جرى الافتئات عليها فى مشروع «التراث والتجديد»، فإن المفاجأة أن صاحب المشروع قد أنصف التراث من نفسه فى موضع آخر، فيما يبدو نظرتين متناقضتين، وبرز ذلك حين تصدى لضرورة تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة عالميته، وبيان محليته مثل أى تراث آخر، فأبدى أن فترة تلقينا العلم عن الغرب زيادة على قرنين، قد طالت أكثر مما ينبغى بالمقارنة إلى الفترة التى تعلم فيها أسلافنا ومفكرونا من الثقافات المجاورة، مبدياً أنه ما إن أتى القرن الثالث (الهجرى) حتى ظهر الكندى أول الحكماء بادئاً علوم الحكمة ؛ ومضيفاً أن التراث الغربى مرتبط أشد الارتباط بالوعى الأوروبى، ولا يعبر إلاَّ عنه، آخِذاً على الغرب أنهم حين يعودون هناك إلى أصوله لا يرون إلاَّ ثلاثة لا رابع لها هى: الأصل اليونانى، والأصل اليهودى المسيحى، والبيئة الأوروبية نفسها.

ويبدو أن اختزال الوعى الأوروبى فى هذه الأصول الثلاثة، قد ساءه وأشعره بتنكر الأوروبيين للإسلام وأثره فى نهضتهم، وأثر حضارته فى حضارتهم، فطفق يتساءل فى مرارة:».. . وكأن الحضارة الإسلامية بعد ترجمتها إلى اللاتينية لم تكن أحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة والفلسفات العقلية، وكأن الرُّشَدية اللاتينية لم تسهم فى نشأة العلم الحديث فى الغرب»؟!.

فإذا صَحَّ جدلاً ما ألصقه سيادته بالتراث الإسلامى من المعايب التى سلف بيانها، وأنه لم ينتج سوى مجتمع عاجز سلبى منافق، مبتلع وممحوق ومحاصر على حد تعبيره، فكيف غَدَا عنصراً مكوناً من عناصر الحضارة الغربية، ورافداً من روافدها فى إبداع الفلسفة والعلم؟!

وترى صاحب نظرية «التراث والتجديد» يعود فى موضع آخر، بعد هجومه الحاد على علمائنا وفقهائنا، وإهالة التراب عليهم، يعود فيبدى دفاعاً جادًّا عن الفقهاء والمتكلمين بل والصوفية، وهو يرد على محاولة بعض المستشرقين تفريغ تراثنا من كل عناصر الإبداع والابتكار وحصرها فى النقل والتقليد، فيبدى أن كلاًّ منهم كان مسئولاً فكريًّا وحضاريًّا عن أعمال سابقيه، فطوَّرَها ناقداً ومغيراً ومكملاً، بل إن كل عالم من علماء أصول الدين أو أصول الفقه كان بنص عبارته يضع العلم ويعيد تأسيسه، ولم يكن موقف علماء الأصول من بعضهم البعض موقف الشرح والعرض، بل كان موقف الند للند: الحوار، والجدل، والنقاش، والنقد، والتفنيد، والهدم وإعادة البناء.. بل وكانت الشروح فى عصر الشروح والملخصات زيادة على القديم، وكان التصدى للأبنية القديمة «عملاً إيجابيا «، وأن مؤلفات أصول الفقه «أبنية عقلية خالصة، ومناهج تاريخية ولغوية وعقلية لا شأن لها بالقائلين بها، بل هى تعبير عن اتساق عقلية خالصة، وكأنها موضوعة لعقل كلّى شامل» .. ووصف فقهاءنا فى مواضع أخرى بأنهم «القيّمون على التراث، وحماته من الدخلاء، وحارسو الشرع، والمدافعون عن مصالح الأمة»، ويصفنا فى موضع آخر بأننا: «كنا صناع حضارة، ومعلمى البشرية، ومصدر العلم والعرفان.. إننا لسنا نَقَلَة علوم لكننا مبدعو علوم».

تغيير المحاور المركزية للتراث

وفقاً لمفهوم نظرية «التراث والتجديد»

يتقدم هذا الفصل من أبعاد ثلاثة لا يقع خلاف على عناوينها يتقدم إلى مضامين تثير قدراً هائلاً من التساؤلات بل والتحفظات!

الأبعاد الثلاثة للتغيير فى عرف النظرية: الأول التحرر من كل أشكال الاستعمار. والثانى التخلف، سواء على المستوى المادى المتمثل فى الجهل والفقر المرض والأبنية، أو على المستوى المعنوى المتمثل فى تسلط الأسطورة والخرافة، والانفعال والخوف، والاستكانة والقضاء والقدر، ومهمة التجديد إسقاط مفاهيم التخلف والتنمية على مقولات التراث القديم. والثالث التقدم ضد الركود، ويُقصد بالركود اجترار القديم، أو الاستيراد من فكر الغرب، والعلاج المحتوم فيما يرى صاحب النظرية هو «حل طلاسم الماضى مرة واحدة إلى الأبد».

وهذه العبارة تحتاج إلى وقفة طويلة، وتمعن بصير، فى مقصود ومراد أن يكون حل طلاسم الماضى «مرة واحدة» و«إلى الأبد»!!!

ظنى الشخصى أن هذه عبارة بالغة الخطورة فى صياغتها وفى مقصدها، ولن تحتاج إلى جهد كبير لاستخلاص غاية عبارتى: «مرة واحدة» و«إلى الأبد»!!! ألا وهو إسقاط ما يراد إسقاطه تماماً من التراث دفعة واحدة وإلى الأبد!!!

وقد تعلق بهذا العلاج الذى يتقدم به صاحب نظرية «التراث والتجديد»، بوصفات مساعدة لخصها لنا فضيلة الإمام الأكبر:

ـ «فك أسرار» الموروث  «حتى لا تعود إلى الظهور.. على السطح أو القاع».

ـ «أن الواقع لن يتغير ما لم يتم تغيير جذور التخلف كالخرافة، والأسطورة، والانفعال، والتأليه».

ـ «مهمة التراث والتجديد: هى التحرر من السلطة بكل أنواعها.. سلطة الماضى، وسلطة الموروث، وتحرير وجداننا المعاصر من طاعة السلطة: سواء كانت سلطة الموروث، أو سلطة المنقول».

ولا تخطئ العين هنا، فيما ينبه فضيلة الدكتور الطيب، الاستعمال المقصود لاصطلاحات مفتوحة، مثل: الموروث، الأسطورة، والتأليه، سلطة المنقول، طلاسم الماضى وأسراره.

والذى يغلب على الظن، ولفظ الظن هنا تأدباً، أنه توجد ها هنا عناية بالغة فى انتفاء هذه المصطلحات، وتوظيفها فى إسقاط ما يراد إسقاطه من تحطيم الحواجز وتداخل الحدود بين أصول التراث وتراث الأصول!!! وظنى أن المعنى واضح مفهوم!!!

وهنا يطرح المشروع نصًّا كاشفاً عن اتجاه خطير، فيقول: «ابتداءً من علم أصول الدين الذى يعطى الجماهير الأسس النظرية العامة التى تحدد تصوراتنا للكون، وابتداءً من إعادة بناء الأصول تتغير أشكال الفروع بطبيعتها: الانتقال مثلاً من العقل إلى الطبيعة، ومن الروح إلى المادة، ومن الله إلى العالم.. ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك!».

والنص بوضوحه وتعميمه، لا يحتاج إلى تعليق!

وإذاً فإن عملية التجديد فى مفهوم ذلك المشروع، تعتمد على ما يسميه «تغيير المحاور المركزية» التى يرتكز عليها التراث، بمعنى: أن التجديد يبدأ «بتعديل هذه المحاور (المركزية) وتغيير اتجاهاتها ومراكزها.. وقد يكون لنفس المحور أسماء عديدة، وقد تنتج عنه محاور أخرى متداخلة معه».

فمثلاً إذا كان التراث القديم يتمركز حول «الله»، فالذى يجب أن يحدث الآن هو التمركز حول «الإنسان»، وذلك عن طريق الطرف الآخر من الوحى، لأن الوحى هو خطاب الله للإنسان.

والأولوية فى التجديد للوحى، بمعنى مخاطبة الإنسان لا مخاطبة الله.. أو كما يقول صاحب المشروع: علم الإنسان Anthropolgy وليس علم الله Theology.

وبصراحة، بلا مواربة، فإن نظرية «التراث والتجديد» لا تكتفى «باستئصال» المصدر الإلهى من عملية الخطاب، بل تشطح عبر لا معقول آخر إلى تحويل مفهوم «الله» من معناه المعروف للقاصى والدانى، إلى معنى غريب، يقول فيه صاحب النظرية: «والله هو بُعْدُ الشمول والعموم فى الحياة الإنسانية الذى يمكن على أساسه التعامل مع الآخرين على قدم المساواة بضمان وجود معيار شامل للحكم، ومقياس عام للسلوك، وقد تم ذلك فى الغرب إبان عصر النهضة فى القرن السادس عشر».

إن عقلاً غربيًّا واحداً، لم يقع فى هذا الخلط «اللا معقول»، وإن العقل الغربى ظل رغم كل شىء واعياً بالفروق بين المفاهيم الدينية والمفاهيم الأخرى.

ويتساءل فضيلة الإمام الأكبر، ونتساءل معه: ما مقصود «الشمول والعموم فى الحياة الإنسانية» كمحور جديد متغير بدل محور «الله» فى التراث القديم؟!

وأمثلة أخرى يضربها صاحب «التراث والتجديد» كنموذج لتغيير المحاور (المركزية) فى التراث..

كالانتقال من الله إلى الطبيعة، أو من الله إلى الشعب، ومن الأخرويات إلى الدنيويات، ومن تاريخ الأنبياء والرسل فى الماضى إلى أعمال القادة والأبطال فى الحاضر، وإلى حد القول بأن هدف قصص الأنبياء فى «الرافد الدينى» (؟!!!) هو فقط إعطاء نموذج للبطولة للثقافة الوطنية، فضلا عن أن نماذج الماضى قد لا تكون هكذا! واقعاً بل خيالاً، وليست هدفاً فى ذاته.

ولست أرى حاجة إلى تفصيل ما تحدث فيه مشروع التراث والتجديد، عن الإيمان والإلحاد، أو نفى تأثير العقائد فى النفوس والسلوك وقصره على الحياة العملية والواقع فقط، أو قوله إنه «ليس للعقائد صدق داخلى فى ذاتها، بل صدقها هو مدى أثرها فى الحياة العملية وتغييرها للواقع!»، أو مفهوم الإلحاد فى فلسفة هذا المشروع، أو إقدامه على تفريغ الإلحاد من معناه العقدى ونسبته إلى مقياس عملى، وتقريره أنه «وإن كان إنكاراً لأصول الدين، إلاَّ أنه لا يعتبر إلحاداً إذا كان منبعثاً من عقلية مؤثرة فى الواقع!!!»، ولا ما طوى عليه المشروع من تقطيع أوصال التراث بمتناقضات حادة عن أقدس المقدسات فيه، بما يندرج فى الطعن فى الذات الإلهية بدعوى أنها غير متصورة فى المنطق، ولا يمكن التعبير عنها فى اللغة، فقد بلغ هذا اللغلط مداه، وتقطعت إزاءه كل أحبال الصبر!!!

رؤية الإمام الأكبر

وحسبى كفكفةً لنفسى، وما صدمت به من بناء مشروع «التراث والتجديد»، فى مبناها وفى صياغتها وفى مقاصدها، أن اختم بما ختم به فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، بعد أن قرع الأجراس، وأثار الانتباه إلى اتجاهٍ رأى بحق أنه يحتاج إلى مناقشة وردود. قال فضيلته:

«أولاً: ثمّة فرقٌ بين التجديد وبين التغيير ؛ الأول: حفاظ على الأصول وإضافة إليها، ونفضٌ لما يتراكم عليها من غبار يحجبها عن الأنظار. والثانى: هدمٌ وبدءٌ جديدٌ من فراغ يتم تحت أى مسمّى.. إلاَّ مسمّى التجديد، اللهم إلاَّ إذا كان القصد تغييب الوعى أو خداع الجماهير.

ثانياً: إن مفهوم مشروع التراث والتجديد ينتهى بنا فى التحليل الأخير إلى المتاهات الآتية:

المتاهة الأولى: اعتبار الإسلام معطى تاريخيًّا، وواقعةً حضاريةً حدثت فى التاريخ يهمنا منه ما نشأ بوصفه حضارة، وليس مصدره: من أين أتى؟ تهمنا حضارته بعد حدوثه بالفعل، وتجديد التراث ليس هو البحث عن النشأة بل عن التطور.

المتاهة الثانية: البداية العملية للتغيير تعنى البدء بالواقع واعتباره المصدر الأول والأخير لكل فكرة.

المتاهة الثالثة: تحريم عملية التغيير على الطبقة البورجوازية أو من ينتمى إليها، وإسناد المهمة بكاملها إلى الطليعة المنتسبة نفسيًّا ونضاليًّا إلى الطبقة العاملة.

ومن حقنا أن نقرر فيما يبدى الإمام الأكبر ـ: أن «التراث والتجديد» فى هذا الإطار نظرة خاصة وشخصية إلى أبعد حد ممكن، وأنه لا يعبر عن آلام وآمال الجماهير، بل جاء تعبيراً عن آمال فئة محدودة العدد جدًّا، وإلى الحد الذى يُسقطُها من حساب النسبة والتناسب، ومن حقنا أيضاً أن نقول: إن تجديد التراث الإسلامى لا يحسنه إلاَّ عالم ثابت القدمين فى دراسة المنقول والمعقول، فاهمٌ لطبيعة التراث ولطبيعة المناهج وأدوات التحليل الفكرى المستخدمة فى البحث والتقصى، وهل تتلاءم مع طبيعة تراث يعتمد على أصول ثابتة موجهة للواقع وحاكمة عليه، أو تتنافر معه منذ الخطوة الأولى من البحث.

والذى لا شك فيه أن مشروع «التراث والتجديد» هذا، بل أكثر مشاريع التجديد قد خلا من هذه الشروط الضرورية، ونظر إلى تراثنا فى أصوله الثابتة من منظار منهج تطورى أُولَى مُسلَّماته: أن لا ثابت ولا مقدَّس، ومن ثم فلا شك والأمر كذلك أن تجىء النتائج كلها مضطربةً متناقضةً، الأمر الذى يجعلنا نتساءل عن أهداف مثل هذه الدراسات، وهل هى حقيقةً تجديد لتراث الأمة الإسلامية، وبحثٌ عن هويتها، وتأكيدٌ لذاتيّتها، أو هو استئصال لما تبقى من عناصر قوتها وحيويتها، تأكيداً لاستمرار التبعية واستلاب الذات.

كما نسجل أيضاً والحديث للإمام الأكبر: أن مشروع «التراث والتجديد» قد أهدر كثيراً من دلالات النصوص اللغوية والتاريخية لحساب رؤية خاصة لم تحل الإشكال، بل زادته اضطراباً وغموضاً.

ثالثاً: لا ننكر أننا فى حاجة إلى التجديد، بل مشكلتنا الأم: هى غيبة التجديد، لكن شريطة الوضوح والفصل بين مجال الثوابت ومجال المتغيرات، والتفرقة الحاسمة بين أصول الدين وتراث أصول الدين.

ومن المؤسف حقًّا أن نقرر، والكلام لفضيلة الإمام الأكبر أن ارتباط جماهيرنا بالتراث مقصور على مجال العبادات، بينما يختفى هذا الارتباط أو يكاد فى مجال العمليات والاجتماعيات، وأنه لا يزال أمام دعاة المسلمين من أُولى الفهم والوعى الكثير مما هو مطلوب لربط المسلم بتراثه فى هذا المجال.

رابعا: لا أرى أن التراث هو المحرك لتصرفاتنا، والمسئول الأول والأخير عن أزماتنا المعاصرة، بل أستطيع أن أنطلق من نقيض هذه الدعوى وأزعم أننا لا نستلهم تراثنا الإسلامى فى كثير مما نفعل أو نترك.. وإلاَّ فأين فى أمتنا العربية والتى يعلقون تخلفها على مِشجَبِ التراث أين فيها هذا المجتمع الذى تنضبط قواعد حياته على أصول الحلال والحرام فى التراث؟

ولنضرب لذلك مثلا موقف مجتمعاتنا الإسلامية من المرأة.. إن بعض هذه المجتمعات ينظر إليها فى إطار العورة، ويصادر فى هذا الإطار كثيراً من حقوقها التى يقررها الإسلام والإنسانية فى وضوح لا لبس فيه، هل هذا الموقف مقولة تراثية إسلامية، أو هو مرضٌ مزمنٌ ورثناه من عصر ما قبل الإسلام؟

نموذج آخر: البعض الآخر من مجتمعاتنا ينظر إليها فى إطار غربى تختلط فيه الإيجابيات والسلبيات معاً. فهل هذه نظرة تراثية إسلامية، أو هو انسحاق فى تراث آخر غير تراث الإسلام؟ إن هذا أو ذاك تقليد وافد على تراثنا من خلف ومن أمام، ولا يستطيع منصف أن يلحق أيًّا منهما بتراث الإسلام. ونحن لا ننكر أن هذا فى تراثنا أقوالاً منغلقة وفهوماً قَبَليَّةً قدمت لنا أحكاماً خالية من روح النص ومقاصده، بل ومتعارضة مع روح النص ومقاصة، ولكن وبكل التأكيد ليس هذا هو التوجه السائد أو التوجه الأغلب فى هذا التراث المظلوم.

وإذاً.. فقدر كبير جدًّا من أنماط سلوكنا لا يعكس تراثنا الإسلامى بقدر ما يعكس إما تأثيرات مزمنة من مجتمعات قَبَليَّةٍ سابقة على ظهور الإسلام، أو تأثُرات مُستجلَبةً من بيئات غريبة، أو من خليط غير متجانس ولا متوازن بين هذين المصدرين المتضادين.

«فليس صحيحاً ما يؤكده مشروع «التراث والتجديد» من أن سبب خلط الأوراق فى أذهاننا هو أننا نعمل بالكندى، ونتنفس بالفارابى، ونرى ابن سينا فى كل الطرقات، بل المشكلة فيما أرى والكلام للإمام الأكبر، أننا نعيش عصرنا وإحدى قدمينا فى ميدان «داحسٍ والغبراءِ « والأخرى فى» البيكادلى والشانزليزيه  (Piccadilly & Champs - Elysees) وغياب التراث الحقيقى كان دائماً مصدر الخلل، وستظل مقولاته الثابتة هى الحلقة المفقودة لاستعادة توازن المسلمين فى عصرهم الحاضر».

_ _ _

وفى اعتقادى أن هذه الخاتمة التى نقلتها بنص عبارتها للإمام الأكبر، فيها خلاصة الواجب الذى علينا أن نتفطن إليه، لفرز الغث وإقصائه، والتقدم إلى التجديد برؤية عميقة صادقة ومخلصة، تلتزم أصول التراث وثوابته، وترنو إلى التجديد فيما يحتاج إلى تجديد فى الفروع والمتغيرات، فالإسلام بنية حيّة، والتجديد من مقوماته، والتصدى لذلك معقود على العلماء الدارسين المخلصين، أو على حد تعبير الإمام الأكبر: «إن تجديد التراث الإسلامى لا يحسنه إلاَّ عالم ثابت القدمين فى دراسته المنقول والمعقول، فاهم لطبيعة التراث ولطبيعة المناهج وأدوات التحصيل الفكرى المستخدمة فى البحث والتقصى».

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg