| 28 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: خطاب الدين وتصحيح المفاهيم

  • | السبت, 8 يوليه, 2017
رجائي عطية.. يكتب: خطاب الدين وتصحيح المفاهيم
رجائى عطية

عقد الأزهر الشريف، بين 11ـ12 صفر 1436 هـ /3ـ4 ديسمبر 2014 م، مؤتمراً عالميًّا لمواجهة التطرف والإرهاب، وامتلأت مشيخة الأزهر والقاهرة آنذاك بعلماء أجلاّء مسلمين: سنة وشيعة، ومسيحيين، أتوا من مشارق الأرض ومغاربها، ليشاركوا فى هذا المؤتمر العالمى، وليبحثوا ويتحاوروا، وليتقدموا بأبحاث تعرضت لظاهرة التطرف والإرهاب، وعنيت فيما عنيت به بتصحيح مفاهيم ارتأى الباحثون أن تصحيحها واجب ضرورى لمواجهة هذه الظاهرة الضالة التى أتت على الأخضر واليابس، وتهدد الإنسانية والسلام، وتهدد الإسلام ذاته بتحريفه وتقديمه للعالم فى صورة شائهة لا تتفق مع قيمه ومبادئه وأحكامه.

وقد بحث ممن بحثوا، وتكلم وحاضر ممن تكلموا وحاضروا، شيخ الأزهر، ولفيف من كبار العلماء، تناولوا فيما تناولوه قضية الخلافة والدولة الإسلامية، وخطورة التكفير، ومفهوم الحاكمية، وفقه الجهاد، ومعنى الجاهلية فى مفهوم القرآن والسنة والعصر الحديث، وفى التطرف والغلو لقاء الوسطية والاعتدال، وهى موضوعات مثارة من قديم فى الفكر والخطاب الدينى، ولكن الحاجة إلى تناولها ازدادت إزاء ما صرنا نواجهه فى العالم العربى والإسلامى من غلو وتطرف، ومن جماعات مسلحة، اتخذت من الغلو والتطرف والجنوح منهاجاً، ومن القتل والذبح والإهلاك وسيلة للإرهاب والجرى وراء خيال مريض أن ذلك سوف يعبر بها إلى الحكم وإحياء الخلافة على النحو المنحرف الذى فهموه أو اصطنعوه.

المحنة وجذورها وأسبابها

لا شك أن العالم العربى والإسلامى يمر من سنوات بمحنة شديدة، تعرضت فيها مجتمعاته والمجتمع العالمى لفتنة ضريرة ممزوجة بالدماء المسفوكة، ونشر الموت والدمار بقطْع الرؤوس، وتدمير الحضارة، والقضاء على العمران، وضرب قيم الأديان والأخلاق والأعراف الإنسانية.

وعلى ما فى ذلك من شرور تهدد بتقويض الإنسانية، وإزهاق الأرواح، وإهلاك الزرع والضرع والعمران، فإن من أخطر شرورها أنها تدثرت بالإسلام، مدعيةً بتحريف الكلِم عن مواضعه، وبالكذب والاختلاق، أن مرجعيتها إسلامية، وأنها تصدر فيما ترتكبه من جرائم نكراء عن منظور إسلامى، فشوهت الإسلام ومرغت وجهه الصبوح فى التراب، ودفعت بالعالم كله إلى اتخاذ موقف عدائى للإسلام والمسلمين، انعكس على الجاليات الإسلامية التى تقيم فى الغرب والشرق، والتى بلغت الملايين فى بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وما كان يعرف سلفاً بالاتحاد السوفيتى، فأحالوا حياتها إلى معاناة مستمرة، وحقوقها إلى الضياع، ودفعوا ببعض الدول إلى تهجير من تستطيع طرده وتهجيره من المسلمين، ورفض ارتياد المسلمين لبلادهم ولو للأعمال أو السياحة، وإحالة حياة الباقين لديهم إلى جحيم!

قد تستطيع أن تتذرع بمنطق المؤامرة، إلاَّ أن هذا التذرع معجون بالتهافت، لأن المؤامرة إن حيكت لا يقيض لها النجاح إلاَّ لدى أمة تبعثرت وتشوهت عقائدها ورؤيتها للدين وللقيم الإنسانية.

فافتراض المؤامرة لا يعفى الأمة الإسلامية والعربية من المسئولية، فضلاً عن أن اللياذ بهذا المنطق لا يمكن أن ينفى أن هناك أسباباً متصلة بجذور حَوْلاء نبتت وترسخت مع الزمن عبر عهود مختلفة، أخذت قافلة العالم الإسلامى الذى كان يباهى الأمم بحضارته التى أخذ عنها العالم فى العصر الوسيط إلى متاهات الضياع والتردى والانحطاط!!!

نحن إذن مسئولون، مسئولية أصيلة، أيًّا كانت التفسيرات أو المبررات أو التأويلات!

إن الغلاة كالدواعـش وغيرهم، يكفّرون العالم، ولا يكتفـون بذلك بل يكفّرون المسلمين، وينحرفون بمفهوم الجهاد فيحصرونه فى القتل والذبح وقطع الرقاب، ولا يفهمون عن الجهاد معنى من المعانى التى أوضحها الكتاب والسنة، وفى مقدمتها جهاد النفس، وجهاد الهوى والشيطان، والجهاد للدعوة إلى الله بالعلم والحكمة والموعظة الحسنة، والجهاد بإنفاق المال فى أوجه الإصلاح والبر والخير.

وصوروا الإسلام للدنيا على أنه عنف وقتل وذبح وإهلاك وتدمير، وجعلوا يبثون ضلالاتهم إلى أجيال من الشباب افتقدت الفهم وافتقدت التعليم الصحيح وحاصرها الفقر والجهل والإحباط!

خطورة وعواقب التكفير!

اتخذت هذه الكيانات الضالة من التكفير وسيلة وغاية، ومدَّتُه إلى المسلمين، فأحلت قتلهم وقتالهم، وترويعهم وإحالة حياتهم إلى خوف وتوجس وفزع، فإذا تجاوزتهم أحياناً إلى غيرهم، فلإحداث فتنة طائفية تكابد المجتمعات ويلاتها، ويكابدها المسلمون المجنى عليهم جنايتان، فهم أنفسهم مستهدفون بالتكفير والقتل والذبح، وهم فى نظر الغير مسئولون عن هذه الجرائم ما داموا مسلمين وما دام هؤلاء الضالّون يتشحون كذباً وبهتاناً!!! بالإسلام!

ولم يرعو أحدٌ من هؤلاء المكفرين، بما آلت إليه فى النهاية فتنة «الخوارج» الذين خرجوا قديماً عن مبادئ الإسلام وأحكامه، وأرهقوا المسلمين حرباً عليهم وقتلاً فيهم، ثم دار الزمن دورته بعد محن وحروب سالت فيها أنهار من الدماء، وانقرض الخوارج وانقرض الفكر الضال الذى خرجوا به عن جماعة المسلمين.

ومن الغريب أن آفة التكفير، أو فكر الخوارج، تصيب فى العصر الحديث من يُفترض أنهم ألمّوا بقدر من العلم، وأطلّوا على واقع الحياة وما صار يجرى فيها من تطور وتقدم لا يستقيم معه هذا الجنوح الضرير الذى لا منطق له ولا قاعدة ولا غاية يمكن أن يقبلها أو يهضمها العقلاء!

وقد قيض لى فى سبعينيات القرن الماضى أن أحتك بفرق من هؤلاء التكفيريين، فهالنى ما عليه فكرهم من خلط والتباس شديدين، ولم أقتنع بأن السجن هو وحده سبب هذا الانحراف الفكرى والعقائدى، فقد رأيت على مدار تاريخ البشرية أناساً صَحَّحَ السجن أفكارهم وتسبب فى تحليقهم لا فى تراجعهم وانغلاق عقولهم، ولعلّ المعاصرين من الشيوخ يذكرون كيف لم يفلح السجن فى تفتيت فهم أو إرادة المهاتما غاندى، ولا ويلسون ما نديلا، وأن نهرو كتب إلى ابنته أنديرا فى رسائله إليها من السجن أصفى ما حلق إليه عقله ورؤيته.

ويعرف قراء التاريخ أن كثيرين سجنوا كابن حنبل، ولسان الدين بن الخطيب، والسهروردى الفيلسوف الإشراقى المقتول، وابن تيمية، وغيرهم، فما ابتعد بهم السجن عن الفهم، بل وكان سبيلاً إلى مزيد من عمق رؤية بعضهم، حتى رأينا السهروردى يُقدم على صلبه وقتله وهو رابط الجأش مستقر النفس.

لا مراء فى أن هناك أسباباً أخرى للانحراف نحو التكفير واستسهال الرجم به واتخاذه وسيلة وهدفاً لمقاصد لعل فيها هذه المقاصد تفسير هذا الانحراف الذى اختلط بالأمل فى أوهام الحكم والخلافة، مثلما اختلطت الهجرة إلى الفردوس فى العمليات الاستشهادية التى يقبل عليها بعض التكفيريين وهم يتصورون أنه ما إن تتطاير أشلاؤهم ويستقبلوا الموت الذى صدروه إلى غيرهم بغير ذنب، إلاَّ ويجدوا أنفسهم فى الفردوس وجنات النعيم الخالد المقيم!

وجوب التصحيح

تستوجب هذه المفاهيم المغلوطة الملتبسة تصحيحاً فى العقول الضريرة التى اعتنقتها، وفى أدمغة الآخرين التى تهدد باختراقها وهذا التصحيح مهمة ضخمة، من الخطأ أن نتصور أنها محدودة بالدين وخطابه وموعظته، وإنما هى متصلة اتصال لزوم بالتربية والتعليم، وبالثقافة والإعلام، وبالآداب والفنون بجميع صورها وأنواعها وأشكالها، وبالاختناق الاقتصادى الذى يقضى على الأمل ويضيق الفرص ويشيع اليأس والإحباط.

ليس هذا هروباً من واجبات الخطاب الدينى، وفيه قد تحدث فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب حديثاً مستفيضاً مشفوعاً بآيات القرآن الحكيم وبالسنة النبوية، وبفكر وآراء المصلحين كالإمام أبى الحسن الأشعرى الذى ألّف الإمام الأكبر كتاباً ضافياً عنه وعن مذهبه الإصلاحى وهو مذهب الجمهور، وما تعرض فيه هذا الإمام الجليل من بيان لما يشتمل عليه السلام من مبادئ وقيم نبيلة، تجمع ولا تفرق، وتحمى الناس من الضلال والتضليل، مما أسهم بقوة فى حقن دماء المسلمين، وكالأستاذ الإمام محمد عبده، والراية التى يرفعها الأزهر الشريف، امتثالاً لقوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (البقرة 143).

مفهوم الحاكمية

الحاكمية أحد الأعمدة الرئيسية للتكفير، ومعلم أساسى من معالمه لدى فصيل سياسى / دينى بتنظير من أبى الأعلى المودودى وسيد قطب.

ويجتزئ هذا التنظير شعاراً له جزءاً أو عبارة من الآية (40) من سورة يوسف، والعبارة المجتزأة من الآية تقول «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ»، وهو اجتزاء يخرج بالعبارة عن سياقها فى الآية، والآية القرآنية تقول: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (يوسف 40).

فالحكم فى الآية الكريمة المجتزأ منها العبارة، حكم تشريعى يتعلق بالعقيدة القائمة على التوحيد الخالص الذى يأبى أن يعبدالناس آلهة مصطنعة اصطنعوها وأطلقوا عليها الأسماء ليعبدوها من دون الله، والعبارة المجتزأة من الآية الكريمة هى عبارة صادقة فى سياقها بالآية، بألا يكون الحكم إلاَّ لله تعالى فى شأن العقائد والعبادات والمعاملات، وفى صحتها وعدم صحتها، وبيان الحلال والحرام، والامتثال لأمره سبحانه وتعالى، على نحو ما ورد بالآية (40) من سورة يوسف، والآية الأولى من سورة المائدة، والآيتين (123، 124) من سورة طه.

ومن معانى الحاكمية لله تعالى، الحكم القدرى الكونى، ومعناه أن الله عز وجل هو الذى أجرى السنن والنواميس الكونية التى تحكم جميع الكائنات بإرادته سبحانه وتعالى وحده، ووفقاً لمشيئته، على نحو ما ورد بالآية (41) من سورة الرعد، والآية (26) من سورة الكهف.

والمعنى الثالث لحاكمية الله تعالى، هو الحكم الأخروى، بأن الله عز وجل هو الذى يحاسب الناس على أعمالهم يوم القيامة، سواء بالثواب أو بالعقاب، على نحو ما ورد بالآية (62) من سورة الأنعام، والآية (46) من سورة الزمر.

هذه حاكمية لله تعالى لا يمارى ولا يمكن أن يمارى فيها مخلوق عاقل، فهو سبحانه وتعالى الواحد الأحد، الخالق البارئ، الوارث الباقى، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.

هل من حاكمية للبشر؟!

أراد أصحاب التنظير، فيما اجتزأوه عنواناً للحاكمية، أن يصادروا على أى حكم أو إرادة بشرية فيما يمكن أن يقوم به بشر، فهل لا توجد حاكمية لبشر، وهل لا يجوز إطلاق لفظ الحاكمية على أحد من البشر.

إن آيات ذات القرآن الحكيم أفصحت عن لفظ الحاكمية للبشر، وفى مقدمتهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى مخاطباً نبيّه: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً» (النساء 105)، وتحدثت الآيات عن تحكيم الرجال فى هدى الحج، على نحو ما ورد بالآية (95) من سورة المائدة، وعن التحكيم البشرى فى الخلافات الزوجية على نحو ما ورد بالآية (35) من سورة النساء، وسمى القرآن القضاة حكاماً على نحو ما ورد بالآية (188) من سورة البقرة، وهى آيات تنبئ عن جواز إطلاق لفظ الحاكمية على البشر، بمعنى وإطار يختلف بداهة وعقلاً عن حاكمية الله تعالى.

غاية الانحراف بمعنى الحاكمية

أراد المنظرون للحاكمية، أن يصادروا على الحياة، وعلى إرادات وأعمال البشر، مع أن حساب الله تعالى لعباده قائم على أفعال الناس، يثيبهم على أعمالهم الحسنة، ويعاقبهم على أفعالهم السيئة، ولكن أصحاب التنظير للحاكمية بمعنى إلغاء وإنكار كل حاكمية غير حاكمية الله تعالى التى لا يمارى فيها أحد ولا يختلف عليها أحد، يصادرون على العقول وغرضهم من هذا رفض حكم البشر، والثورة عليه، بنظرية سياسية ومصطلح لم يعرف إلاَّ فى القرن الرابع عشر الهجرى، فحواه أنه «لا حكم إلاّ لله»، بغير المعنى الواضح فى سياق الآية المجتزأة منها، معززين هذا الاستدلال بالآية (44) من سورة المائدة التى نزلت فى اليهود، بمناسبة مخالفتهم لما أمر به الله تعالى فى شأن حد الزنا، لينتهوا من هذا التنظير إلى مفهوم مغلوط أخطر ما فيه وضع الإنسان مقابل الإله، وهى مقارنة زائفة فاسدة غير جائزة، فليس يجوز أصلاً عقد هذه المقابلة، ولكن مراد أصحاب هذا التنظير للحاكمية، هو المصادرة بهذا المفهوم على العقول وإغلاق باب الاجتهاد كليةً أمام الراسخين فى العلم!

إن الحاكمية وفق تنظير المودودى وسيد قطب ومن جرى مجراهما، إنما تستهدف استخدام الدين للوصول إلى السلطة والحكم، بتحويل المنافسة أو الصراع السياسى إلى إطار دينى للمحاجاة بالدين والمصادرة به، فى الوقت الذى يمارسون فيه السياسة بكل بل بأرخص أساليبها، ولكن الهدف هو المصادرة باسم الدين، ولذلك تبنّوا أن وجود السلطة فى يد البشر كفرٌ، مع أنهم يسعون إلى السلطة، فإذا بها إنْ وصلوا إليها ليست كفراً، بل هى المباح المرغوب!!!

إن المجتمع هو الذى يراقب الحاكم المسلم، ويقدر تصرفاته، واستقامته من حيوده إذا حاد، وهو من ثم الذى يُعَيّنُهُ وهو الذى يعزله، وهو ما كان محل إقرار صريح من الخليفة الأول ومن الخليفة الثانى، ومن قول الصديق فى خطبته فور مبايعته وتوليه: «إنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا أحسنت فأعينونى، وإن صدفت أى حدت أو أسأت فقوّمونى».

ولا يفوت أن الإقرار بالتشريع الإلهى، لا يَجُبُّ أن هناك من التشريعات ما لا بد من سَنّهِ لمواكبة تطورات الحياة، فالنصوص متناهية، والحالات غير متناهية، وهناك من الطوارئ المستجدة والظروف المستحدثة، كخلو الرجل مثلاً، أو الجرائم الاقتصادية، أو جرائم التموين والتسعيرة، أو المعاملات بالشيك كأداة وفاء تجرى مجرى النقود، الأمر الذى يقتضى أن تلاحق هذه المستجدات بالتشريعات اللازمة لها من أجل مصالح المجتمع.

وغنى عن البيان أن المعوّل عليه فى الإيمان هو التصديق بالقلب، ومن الخطأ البيّن والشطط الدخول فى النوايا أو تكفير الناس والحكم عليهم لمجرد الخطأ إن حدث بالمروق والكفر.

بيد أن التكفير هو الغاية، وهو الوسيلة للمصادرة والقفز إلى سدة الحكم، وهو قفز لم يكتف بالتكفير، وإنما اقترن بالعنف فضلاً عن القتل والاغتيال والإهلاك!!!

ما بين التطرف والغلو، والوسطية والاعتدال تجرى أفكار البشر وعقائدهم كما يجرى سلوكهم على قنوات وفى اتجاهات عدة، قد تتطرف إلى أقصى اليمين، وقد تنحدر ببعضهم إلى أقصى اليسار فى تيارات تختلف مسمياتها باختلاف تخومها ومعالمها.. يتوسطها الاعتدال نهجا يختطه ذوو البصر والبصيرة ويقبل عليه المهتدون والعقلاء.

والوسطية سجية من سجايا القرآن الحكيم، وفضيلة جعلها الحق سبحانه وتعالى ضابطا لفكر المؤمن وخلقه وشعوره وسلوكه، فالوسط أو التوسط، هو العمل والاعتدال، وهو القوام بين النقائض أو بين الإفراط والتفريط.. ومن هنا كانت الوسطية سنة محمودة وغاية مرجوة لم تذكر فى شرعة الإسلام إلا فى معرض التزجية والتنويه والثناء..

إن الأمة الإسلامية قد تبوأت مكان الصدارة بين الأمم بدينها الذى به اهتدت، وبنص القرآن الذى به شرفت: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ».. فإذا كانت هذه منزلتها، فإن آية الآيات على مقام الوسطية وفضلها فى شرعة القرآن أنها جاءت فى الذكر الحكيم عنصرا من عناصر صدارة الأمة الإسلامية، وسببا من أسباب امتيازها بين الأمم ؛ بل والشهادة عليهم.. يقول تبارك وتعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (البقرة 143).

* * *

والوسطية الإسلامية، فضلا عن كونها قيمة وشميلة، فإنها أحد العوامل الأساسية فى أمان المجتمع وحمايته من الجنوح والتطرف، وتجرى ضميمة مع شجرة «المساواة» التى يتساوى فى رحابها المسلم وغير المسلم، وتقى المجتمع من الاحتقان وفورات الإحساس بالظلم أو القهر أو الدونية، مكفولة باحترام الإنسان وقدسية روحه، باعتبارها أهم الركائز الأساسية التى تحفظ أمان المجتمع وتبث الطمأنينة والسلام بين احاده ومجاميعه!

والغلو والتطرف هو أخطر ما يهدد أمن المجتمعات، والتطرف إيغال فى البعد عن أواسط الأمور، وهذا من أسف صار واقع أحوال كثير من الناس!!

والتطرف خلل واضح فى اتزان الآدمى، وخلل هذا الاتزان لا يحس به صاحبه فى الأغلب الأعم، إنما يشعر به من حوله ومن يتعاملون معه، فيحتاطون منه ويتحاشونه ما أمكنهم، ويتفادون مبالغته فى التعصب والعداوة والبغضاء والغضب والتصلب وغرابة الحقد، مثلما يتحاشون ولعه بالشدة والعنف والانتقام، أو يكرهون ما يبديه من شدة البخل والشح والتقتير على أهله أو نفسه، أو من كثرة الإسراف والإفراط والإتلاف، أو ما يبالغ فى تأكيده والإصرار عليه من انتحال العظمة والأهمية، أو من ادعاء الجمال أو الكمال أو الغنى أو العلم أو الأصل أو الفصل!

خطـورة هـذا الخلل فى اتزان الآدمى تغدو أكثر أهميةً وخطراً إذا ما أصاب الحاكم والقائد والقاضى والمفكر وأصحاب المهن الحرة، لأن هؤلاء يقومون بخدمات عامة للمجتمع ومؤسساته وتوابعها، وهـم وإن كانـوا يحملـون تبعات ما يقومون به أو يقدمونه وتنعكس عليهم، إلاّ أن الأضرار المترتبة على خلل الاتزان كبيرة أو صغيرة تصب وتقع دائما على الناس كجماعات أو كأفراد!!

وأخطر هذه الأخطار أن يؤدى الغلو والتطرف إلى التكفير، واتخاذه تعلّة للقتل والذبح وقطع الرؤوس والإهلاك!!

الوسطية هى صمام الأمان الحقيقى من كل صور التطرف والغلو، هذه الوسطية سجية من سجايا القرآن الحكيم وفضيلة إسلامية، وقد عاش الإسلام وعاش المجتمع الإسلامى فى أمان لأن الإسلام دين الفطرة والوسطية بلا تطرف ولا غلو ولا مغالاة.. عالج واقع الحياة وواقع الإنسان معالجةً واعيةً متفطنة تستخرج من النفس الإنسانية خير ما فيها وتحاصر سلبياتها القائمة أو المحتملة، وتواجه الواقع بأفضل ما تصلح به الحياة والأحياء.. فى كل زمان ومكان.. والوسطية هى ضابط فكر المسلم وشعوره وسلوكه، فالوسط أو الوسطية هو الاعتدال والقوام بين النقائض أو بين الإفراط والتفريط.. ومن هنا كانت الوسطية سنة محمودة وغاية مرجوة لم تذكر فى شرعة الإسلام إلا فى معرض التزجية والتنويه والثناء.

إن الأمة الإسلامية قد تبوأت كما أسلفنا مكان الصدارة بين الأمم بدينها الذى اهتدت به وبنص القرآن الذى به شرفت: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» (آل عمران: 110).

هذه الوسطية ما كان لها أن تكون ركيزة للصدارة وسببا لمقام الشهادة على الأمم لولا أثرها كمقوم أساسى فى تكوين الشخصية الإسلامية بهداها وسوائها وبصيرتها وإنصافها.. وهى الصفات التى تؤهل الأمة لما أعدها القرآن المجيد له وكرمها به.. فقد دلنا القرآن الحكيم على أن التوسط هو قوام الفضائل كلها من عقائد وعبادات ومعاملات، وخصلة أصيلة من خصال المسلم، وإطار حميد فى مسائل العبادة والأخلاق والشعور والسلوك.

وفى القصد والاعتدال فى الشعور: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور» (الحديد: 23).

وفى صفة عباد الرحمن المتوسطين فى إنفاقهم بيـن السرف والتقتير: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلـِكَ قَوَاماً « (الفرقان: 67).

إن «الوسطية» كمنهاج زَكَّاه القرآن الحكيم وحث عليه المصطفى عليه الصلاة والسلام ليست حجراً على العقول ولا هى غلق للاجتهاد أو دعوة للجمود، وإنما هى معيار موضوعى.. منار المؤمن فيه القرآن والسنة، وهما فيما أوصيا به لم يغلقا باباً للرأى أو باباً للاجتهاد ما داما فى إطارهما الصحيح الذى تمثل الوسطية سمة أساسية من سماته..

وإذ كان الرأى والاجتهاد مندوباً إليهما، فإن الوسطية حصن المؤمن فيما يراه وفيما يسلكه.. يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «خـير الأمـور أوساطها»، ويقول الإمام على وكان نجيباً فى مدرسة النبوة: «اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هى الجادة عليها باقى الكتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة هلك من ادعى وخاب من افترى».

الوسطية ونبذ الغلو والتطرف، ملمح رئيسى وأساسى من ملامح الإسلام، وسر من أسرار قدرته على احتواء جميع التيارات والتقدم بالأمة الإسلامية إلى صراط الحق والنور والهداية.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg