| 02 مايو 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: على هامش المؤتمر العالمي للأزهر.. في مواجهة المفاهيم المغلوطة "2"

  • | الثلاثاء, 1 أغسطس, 2017
رجائي عطية.. يكتب: على هامش المؤتمر العالمي للأزهر.. في مواجهة المفاهيم المغلوطة "2"
رجائى عطية

صاحب هذا البحث الأستاذ الدكتور محمد عمارة، وهو غير غريب على المصريين والمسلمين بعامة، ولا عن علماء الأزهر وعلماء المسلمين بخاصة، وقد تقدم بهذا البحث الضافى لمؤتمر الأزهر العالمى (صفر 1436 هـ / ديسمبر 2014م) تحت عنوان: «الجزية شبهات وإجابات».

وأحب قبل أن أعرض لهذا البحث الثاقب الضافى، أن أتحدث عن الدكتور عمارة لأعطيه حقه المروم من البعض الافتئات عليه، بقالة إنه من الإخوان أو هواه معهم، ويضيف البعض إمعاناً فى التعريض والافتئات أنه كان يسارياً إبان تلمذته وفى مستهل شبابه، قبل أن ينضوى فى الحركة الإسلامية، أو فى جماعة الإخوان فى قول البعض.

ولست أحب أن أعرض لميول الدكتور عمارة السياسية، أو هواه فيها، فهذه حرية شخصية لا مجال لشجبها إلاَّ أن تقترن بعنف أو عدوان أو إخلال بالقانون وبأمن الدولة، وقد عرفت الدكتور عمارة عن قرب على مدى خمسة عشر عاماً، زاملته فيها بمجمع البحوث الإسلامية، فوجدته عالماً نادراً لا يشق له غبار فى موسوعية علمه، ولم أحص عليه رأياً فى الدين يظاهر القول بأنه إخوانى أو هواه مع الإخوان، أو يدخل السياسة فى الدين، بل كان جندياً حقاً من جنود الإسلام، منصرفاً لبيانه ودفع الشبهات عنه، وغاية ما يمكن ملاحظته عليه أن حماسه للإسلام قد جَرَّ عليه المتاعب مرتين، بشبهة ازدراء المسيحية، وأبرئت ساحته فيهما، كانت إحداهما عن بعض عبارات متفرقة وردت فى كتاب أصدره عن «فتنة التكفير»، قبل عن طيب خاطر حذفها من الطبعة الثانية تقديراً لما أثارته من مظنة لدى الأخوة المسيحيين، والثانية عن كتيب أصدره بياناً ورداً على منشور مطبوع صدر باسم كاتب مسيحى معروف، والغالب أن الاسم منتحل، وهاجم الإسلام بضراوة ظالمة، فكلفه مجمع البحوث الإسلامية بوضع كتيب يتصدى فيه لهذه الأكاذيب التى وردت بذلك المنشور ضد الإسلام، فاستجاب الرجل ووضع الكتيب الذى جَرَّ عليه المتاعب، وهو فى الواقع يدرأ عن الإسلام تهجماً ظالماً ؛ وبرغم تعدد البلاغات ضده بتهمة الازدراء، إلاَّ أن ذلك لم يفل من عزمه فى المنافحة عن الإسلام بكل قوة!

وقد كان من تزايد الهجوم عليه، رغبة لدى المتآمرين على الأزهر وشيخه الجليل، مترسمين فى خطتهم أن إدانة الرجل بالعضوية الإخوانية أو الميل الإخوانى، مأخذ يؤخذ على شيخ الأزهر لأنه لم يستبعده وينحيه!، متجاهلين قصداً أن الدكتور عمارة عضو بمجمع البحوث الإسلامية من سنين بعيدة، وقبل أن يتولى الدكتور الطيب مشيخة الأزهر، وقبل أن يترأس جامعته، وأن عضوية الدكتور عمارة لمجمع البحوث سابقة تاريخاً وبكثير على عضوية الإمام الأكبر للمجمع، ومتجاهلين أن إنتاجه الإسلامى العميق والغزير، والذى بلغ زهاء ثلاثمائة كتاب، مشهودة للقاصى والدانى من سنوات بعيدة، مع عطاء حاضر فى الإسلام ومجمع بحوثه لا يمكن أن يتجاهله أحد، أو يغمط حق صاحبه وعلمه الموسوعى، وكأن شيخ الأزهر مطالب بأن يقيم محاكم تفتيش يبحث بها فى ضمائر العلماء على هوى أصحاب الأهواء، وأن ينحى عالماً جليلاً خدم الإسلام والأزهر بإخلاص على مدار نحو ستين عاماً.

ومع أننى لست معنياً بنفى الانتماء للإخوان تنظيماً أو ميولاً فلا شأن لأحد بالمصادرة على حريات عباد الله، ناهيك بالعلماء، مادامت لم تقترن بمخالفة القانون والتعدى على محارمه، والإخلال بأمن الدولة إلاَّ أننى لا أجد بأساً من أن أضع أمام القارئ مقارنة واجبة بين الرأى الذى اعتنقه الدكتور عمارة فى بحثه هذا الضافى عن «الجزية»، وبين ما اعتنقه بشأنها ووجوبها للآن مرشد الإخوان الأسبق الأستاذ مصطفى مشهور، الذى أفصح عنه فى حديث صحفى جَرَّ عليه العديد من الجنح المباشرة التى رفعها ضده محامون مسيحيون غاضبون، وقد قبلت آنذاك الوكالة عنه سعياً للتصالح فى كل هذه الجنح المباشرة، والحفاظ من ثم على ما كان يمكن أن يثير فى أيامها فتنة طائفية وقانا الله شرها.

على أن العبرة التى تعنينى من هذه الواقعة، هى بيان وتأكيد أنه بغض النظر عما لا يعنينى من توجه الدكتور عمارة السياسى، فإن موقفه الذى سوف نراه فى دراسته للجزية، يتناقض تماماً وكل المناقضة للنظر الذى ارتآه المرشد العام للإخوان، فإذا كان ذلك ليس دليل نفى كامل للانتماء للإخوان، إلاَّ أنه فى أقل القليل دليل كامل على انقطاع الدكتور عمارة للإسلام انقطاعاً متجرداً من أى انتماءات سياسية، والدفاع عنه بما يقتنع على محجة الصواب بالعلم والمنطق والبرهان، وحسبه ذلك شهادة بأنه جدير كل الجدارة بما يتبوأه بفكره وعلمه وجهده وإخلاصه من مكانة مرموقة بين علماء الإسلام.

الجزية

ما معناها وتاريخها

الجزية بمعنى ضريبة الرأس: نظام قديم عرفته الإمبراطوريات السابقة على ظهور الإسلام، ففى مصر على سبيل المثال، التى كانت ملكاً خاصاً للإمبراطور الرومانى تحت حكم الرومان، كانت ضريبة الرأس مفروضة على كل شخص من سن الرابعة عشرة إلى سن الستين، وكانت قيمتها فى القرن الميلادى الأول ستة عشر درهماً، ارتفعت فى القرن الثانى إلى عشرين درهماً.

ولم يكن الرومان يعفون من الجزية إلاَّ الرومان المقيمين فى مصر، وأبناء الجند الإغريق الذين جلبهم البطالسة، وعدد من القساوسة فى كل معبد.

والثابت فى رسالة عمرو بن العاص إلى الفاروق عمر، أنه عند فتح الإسكندرية، كان بها أربعون ألف يهودى يدفعون الجزية للرومان، كما كان كل مصرى يدفع للرومان أربع عشرة ضريبة الجزية واحدة منها.

أما فى الإمبراطورية الفارسية، فكانت ضريبة الرأس الجزية تفرض على كل رجل بلغ العشرين إلى الخمسين، وكانت قيمتها تتراوح بين أربعة، وستة، وثمانية، واثنى عشر درهما، ولا يعفى منها سوى أبناء العائلات السبع الممتازة، والعظماء، والمقاتلة، والهرابذة وهم الذين يديرون المراسم الدينية فى المعابد، والكتاب، ومن كان فى خدمة كسرى.

فلما ظهر الإسلام وقامت الدولة الإسلامية، حدث تغير جذرى فى نظام الجزية، فلم يعد مبناها المغايرة العرقية أو الطبقية أو الدينية، وإنما صارت بديلاً للجندية، ولعل الشيوخ يذكرون أنه قبل عام 1953 كانت «البدلية» يدفعها القادرون فى مصر للإعفاء من أداء الخدمة العسكرية.

المهم أن الجزية صارت «بدلاً» من الجندية، يدفعها الرجال الأحرار العقلاء القادرون مالياً ممن باستطاعتهم حمل السلاح وأداء واجب الجندية التى لا يقومون بأعبائها، ومن ثم كان يعفى من هذه الضريبة الجزية الفقراء والمساكين والمقعدون والعميان والمرضى والنساء والصغار والرهبان وأهل البيع والصوامع.

وعلى ذلك فإن النظام المالى الإسلامى اختزل الضرائب فى ضريبتين:

(1) خراج الأرض الزراعية، بصرف النظر عن ديانة مالكها أو زارعها.

(2) ضريبة الرأس، أى ضريبة الفرد، أى الجزية ولا تفرض إلاَّ على القادرين على أداء الجندية، إذا لم يريدوا الانخراط فيها، أو حالت الظروف دون تكليفهم بها.

شبهات وإجابات

وبرغم هذه الحقائق الثابتة، أُلقى فى فكر أمة الإسلام وتراثها، بفعل الممارسات السياسية والإدارية التى لم تكن دائماً ممارسات إسلامية أن أهل الشرائع الأخرى من أهل الذمة وأصحاب الكتاب، هم رعايا من الدرجة الثانية، وليسوا على قدم المساواة مع المسلمين، وأن الجزية بالذات التى يؤدونها صاغرين، تقيم جداراً من التفرقة باسم الدين.

ويتساند هذا النظر إلى ما ذكرته الآية (29) من سورة التوبة، وهى الوحيدة التى تحدثت عن الجزية، وإلى أن حكاماً مسلمين لا يرقى الشك إلى التزامهم تعاليم الإسلام كعمر بن الخطاب قد حصلوا الجزية من أهل الكتاب، وأن الجزية وردت فى الصلح الذى عقده الرسول عليه الصلاة والسلام مع نصارى نجران ومجوس البحرين.

إلاَّ أن هناك روايات ومأثورات كثيرة فى موضوع الجزية، تحتاج إلى تمحيص ودرس، تثبت أن التطبيقات لم تكن لها دائماً علاقة بالإسلام أو مرجعية مستمدة منه.

فقد تصور البعض، ومنهم علماء المالكية، أن الجزية ضريبة يدفعها أهل الذمة والكتاب غير المسلمين، الذى يعيشون فى ديار الإسلام، مستخلصين أن أساس الجزية اختلاف الدين.

بيد أن هذا الشائع ليس هو الصحيح.

فلو كان مجرد اختلاف الدين هو سبب الجزية، لوجبت على كل المختلفين فى الدين، بينما الثابت أنها لا تجب إلاَّ على القادرين على الجندية من الرجال ولا تجب من ثم على الشيوخ والأطفال والنساء والعجزة والمرضى من أهل الكتاب، برغم كونهم ذميين من أهل الكتاب.

كما وأن الجزية لا تجب على الرهبان، وهم مختلفون فى الدين!

وهذا يؤكد أن محض الاختلاف فى الدين ليس هو مناط أو علة الجزية، وإنما هى «ضريبة الجندية « أو «بدل» الخدمة العسكرية بلغة عصرنا، والتى كانت تدفع فى مصر حتى عهد قريب من جميع الصادفين عن أداء الخدمة العسكرية أياً كانت ديانتهم، بما فى ذلك المسلمين.

ويشهد على ذلك ما قاله غير المالكية من أن الجزية وجبت بدلاً عن الجهاد.

ويشهد على ذلك أن أبا عبيدة بن الجراح قد أمر برد الجزية فى الشام حينما لاح زوال علتها كضريبة جندية فى مقابل حماية دافعها من الأعداء، وأنه من ثم لا بد من رد هذه الضريبة إلى دافعيها حين بدا انسحاب الأعداء وعدم الحاجة من ثم إلى مدافعتهم بالقتال.

ويشهد على ذلك ما جرى فى بلاد كثيرة فتحها المسلمون، ولم تقتض الظروف فيها قصر الجندية على المسلمين، بل انخرط فى الجيش القادرون على حمل السلاح من أبناء هذه البلاد، ولذلك لم يدفعوا جزية، ولم تجب عليهم الجزية، لأنها مقابل الجندية التى ينهضون بها.

حدث ذلك فى «جُرجان»، ونصت عليه صراحة معاهدة القائد سُوَيْد بن مقّرن مع أهلها فأسقطت الجزية عمن تعاون مع الجيش من أهل البلاد.

وحدث ذلك مع أهل «أذربيجان»، ونصت عليه معاهدة القائد عقبة بن نافع، فأسقطت الجزية عمن استدعى للقتال أو تطوع له من أهل البلاد.

وحدث أيضاً مع أهل «أرمينية»، ونصت عليه معاهدة القائد سراقة بن عمرو (30هـ/ 650م) عامل عمر بن الخطاب مع أهلها، فنصت المعاهدة على أن جمع الجزية وإسقاطها مرهونان بعدم الاشتراك فى الجيش أو الاشتراك فيه.

وحدث ذلك أيضاً مع «الجراجمة» سكان «الجرجومة» فى شمال سوريا بالقرب من أنطاكية، فأسقطت الجزية عمن حاربوا وهم على ديانتهم مع المسلمين.

وحدث ذلك مع النصارى من أهل حمص الذين حاربوا فى صفوف جيش أبى عبيدة بن الجراح فى موقعة اليرموك، ضد الروم والبيزنطيين.

وزادت هذه الحقيقة وضوحاً وحسماً فى مفاوضات «شَهْربَرَاز» ملك الباب مع القائد المسلم عبدالرحمن بن ربيعة (32 هـ/ 652 م)، عند عقد الصلح بينهما، وأجيب مطلب «شَهْربَرَاز» بإسقاط الجزية عن الذين انخرطوا فى الجندية، وذكر الطبرى فى تاريخه (4/156) أن ذلك صار سنّة فيمن كان يحارب العدو مع المسلمين.

وعلى ذلك فلم تكن الجزية إذن ضريبة دينية علتها المخالفة فى الدين، بل كانت بدلاً من الجندية، تسقط عمن يقبلها وينهض بواجباتها.

وقد كان الرسول عليه السلام، يوصى قادته بألا يلبسوا شيئاً ثياب الدين، أو ينسبوه إلى ذمة الله وحكمه، أو ذمة النبى وعهده، وإنما ينسبون ما يتعاهدون عليه إلى أنفسهم.

فهى إذن سياسة وحرب وجندية واقتصاد، وليست ديناً ولا شريعة دينية.

ويدعم منظور الطبيعة المدنية والسياسية لضريبة الجزية، ويبتعد بها عن ثوابت الدين والشريعة، أن عمر بن الخطاب قد ألغاها وأسقطها عن بنى تغلب وهم نصارى عندما قيل له إنهم يأنفون منها.

وأسقطها قادة عمر وعماله عن قوم ملك الباب «شَهْربَرَاز» الفارسى، وهم من الأرمن، مقابل انخراطهم فى الجندية.

وللانصاف فيما أضاف الدكتور عمارة فإن هناك من ساهموا بالخلط فى موضوع الجزية، من الأسلاف والمعاصرين، وطفق يتناول بالرد ما تضمنته أقوالهم أو كتاباتهم.

وعن رسائل النبى عليه السلام إلى الملوك والأكأسرة، سنة 6 هـ أو سنة 7 هـ، فما كانت لتتحدث عن الجزية لأنها لم تشرع بالآية (29) من سورة التوبة، التى نزلت فى السنة التاسعة للهجرة فيما تقاطرت عليه الروايات.

كما لا يستقيم القول بأن الرسول عليه السلام كان يوصى قادته وعماله بطلب الجزية فذلك أمر فيه نظر، لأن غزة تبوك التى تزامن معها فرض الجزية سنة (9 هـ) كانت آخر الغزوات، ومن ثم فإن ما سبقها لم تكن الجزية قد فرضت فيه.

ويؤيد نزول آية الجزية الآية (29) من سورة التوبة سنة (9 هـ)، ما ذهب إليه المفسرون وعلماء أسباب النزول، من أن هذه الآية نزلت بعد الآية (28) من سورة التوبة التى نزلت بعد موسم الحج سنة (9 هـ)، ومن المعروف أن الحج فى ذى الحجة آخر شهور السنة الهجرية، وإذ نصت الآية على النهى عن اقتراب المشركين من البيت الحرام أو الحج إليه، وخاف مسلمو مكة مما سوف يلحقهم من خسارة بفقدان مواردهم، فإن ما ورد بالآية التالية كان من باب التعويض للخائفين من أهل الفاقة والعَيلة.

ويشهد على ذلك أن المصادر التاريخية اتفقت فيما أورد الدكتور عمارة على أن أول جزية اتفق عليها المسلمون وصالحوا عليها وجبوها كانت تلك التى صالح عليها الرسول وفد نجران، وهذا الصلح تم عندما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة سنة (10 هـ).

ولا يترك الدكتور عمارة روايةً شاعت وساهمت فى الفهم الخاطئ للجزية، ما تضمنته بعض التفاسير منسوباً عن مجاهد من تفسير قوله تعالى: «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (العنكبوت 46) بأن المقصود أو المراد بـ«الذين ظلموا»: مَنْ قاتل ولم يعط الجزية.

ويخلص الدكتور عمارة، بعد البحث والتمحيص والتأمل فى المأثورات، فى موضوع الجزية، إلى استخلاصات مهمة يجملها فى أربعة نقاط:

الأولى: أن الجزية ضريبة فرضتها الدولة أحياناً على القادرين على القتال من أهل الكتاب، إذا ما قامت دواع تحول دونهم ودون الانخراط فى الجيوش المقاتلة، وأنها كانت تسقط عمن يقوم بواجب الجندية، وأنها سقطت وانتهت دائماً لدى قيام جميع الرعية بواجب الجندية، رغم اختلاف الشرائع الدينية.

الثانية: أن عمر بن الخطاب قد أسقطها عن نصارى تغلب، رعايةً لأنفتهم منها، بل وعن الفرس والأرمن الذين قاموا بواجب الجندية فى قتال العدو.

الثالثة: أن مشروعيتها وتشريعها قد جاء فى السنة العاشرة من الهجرة، ومن ثم فغير صحيح، بل هو مستحيل، أن يكون الرسول قد خَيَّر محاربيه بين الإسلام والجزية، ذلك أن آية الجزية (الآية (29) من سورة التوبة) نزلت فى غزوة تبوك، وهى آخر الغزوات ولم يحدث فيها قتال، ومن ثم لا يستقيم القول بهذا التخيير بين الإسلام والجزية، لا قبل تبوك لأنها لم تكن قد شرعت، ولا فى تبوك لأنه لم يجر فيها قتال أصلاً.

الرابعة: أن التأمل فى الآية (29) من سورة التوبة، التى شرعت فيها الجزية، يفصح عن أن حديثها لا ينصرف إلى فئة خاصة بعينها، وإنما إلى من جمعوا مجموعة من الصفات معاً أى اجتمع فيهم أنهم: «لا يؤمنون بالله»، ولا يؤمنون «باليوم الآخر»، «ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله»، و«لا يدينون دين الحق» أى دين التوحيد. فهم ليسوا أهل الكتاب بإطلاق، وإنما هم طائفة منهم اجتمعت فيهم الصفات الأربع التى نصت عليها الآية الكريمة.

■ ■ ■

ولعلى أستأذن بعد هذا البحث الضافى، فى أن أشير إلى أن «الزكاة» هى فريضة تعبدية لا تجب على غير المسلم، ولذلك فإن من أكذب الحديث أن يقال إن البعض قد دخل الإسلام لمحض التخلص من الجزية، وقيل ذلك بإلحاح عن المصريين إبان الفتح الإسلامى، وهو قول بعيد عن الصواب، ففريضة الزكاة التعبدية المفروضة على المسلم لا غيره، كان يقابلها فى مصر ما يسمى «بضريبة العشر»، وهى ضريبة فرضت فى مصر على المسلم لأنها هى فريضة الزكاة، ولا تُفرض على غير المسلم، وعلى ذلك فإن الذين ادعوا أو توهموا أن أناساً من أبناء مصر دخلوا الإسلام فراراً من ضريبة الجزية، قد أبعدوا فى مفارقة الفهم الصحيح، ذلك أن من يترك المسيحية إلى الإسلام سوف يلتزم تبعاً لإسلامه بضريبة لم تكن مفروضة عليه هى «ضريبة العشر» التى هى فريضة الزكاة التى كان معفياً منها، وعلى ذلك فإن هذه المجادلة لا تستقيم، لأن الإسلام لا يعفى من أسلم من ضريبة العشر أى الزكاة، فلا تتحقق له فائدة، كما لا يعفيه من خراج الأرض بحسب ما يلزم لإصلاحها وريها، فضلاً عن أنه سيؤدى التجنيد وينتظم فى صفوف المقاتلين، وهو ما لم يكن مفروضاً عليه، ومن ثم فإنه لا يستقيم بحساب المكسب والخسارة، لمن يعتسفون هذا النظر المتهافت، أن يترك المصرى المسيحى ديانته لتحقيق فائدة هى التخلص من ضريبة الجزية، لأن المقابل الذى سوف يفرض عليه من «جندية» و«قتال» و«ضريبة العشر» (الزكاة)، و«ضريبة الخراج» أكبر وأثقل فى حساب المكسب والخسارة لمن يؤثرون هذا النظر المغلوط!

■ ■ ■

بقى أن أقول لكم إن ذلك كله صفحة مطوية تماماً من صفحات التاريخ، فالمواطنة فى كافة الدول الإسلامية وغير الإسلامية، تفرض التجنيد الإلزامى على جميع رعايا الوطن دون نظر إلى ديانة كل منهم، وهم جميعاً فى الضرائب متساوون، لا تفرقة البتة بين مواطن وآخر.

ومع ذلك يحلو للبعض أن يستخرج «الجزية» كما يستخرج «الردة» من الصفحات المطوية التى لم يعد لها وجود، ولم يعد للجدال حولها أى لزوم ولا غاية، إلاَّ هدف الضرب فى الإسلام، وهو هدفٌ ضريرٌ، لأن الله تعالى حافظٌ لدينه إلى قيام الساعة!

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg