| 03 مايو 2024 م

أراء و أفكار

وكيل الأزهر الشريف يكتب: التجديد والمضاربة

  • | الخميس, 3 أغسطس, 2017
وكيل الأزهر الشريف يكتب: التجديد والمضاربة
د. عباس شومان .. وكيل الأزهر الشريف

إذا سمع الناس كلمة (المضاربة) خطر ببال أكثرهم مضاربات البورصة والأسواق المالية، لكن المضاربة التى هى محل تناولنا فى هذه المقالة هى نوع من الشركات الإسلامية الكثيرة التى جاءت بها شريعتنا الغراء لمصلحة الناس وتحقيق متطلباتهم فى الحياة، فهى شركة بين غنى لديه مال لا يحسن تنميته بالتجارة لعدم خبرته أو ضيق وقته أو عدم تمكنه من مباشرة الأنشطة التجارية لأن مهام منصبه تمنعه أو نحو ذلك، وآخر يحسن التجارة ولديه الوقت والقدرة على مباشرتها إلا أنه لا يجد من المال ما يتاجر فيه؛ حيث يتاجر هذا العامل (المضارب) مستخدماً رأس مال الغنى، ثم يقتسمان الربح فى نهاية أعمال المضاربة.

والأصل فى مشروعية المضاربة ما روى أن سيدنا عمر - رضى الله عنه - أرسل جيشاً إلى بلاد الشام تلبية لطلب من أبى موسى الأشعرى للمشاركة والدعم فى عمل عسكرى، وكان من بين أفراد الجيش ابنا أمير المؤمنين عبدالله وعبيد الله، وعند حلول وقت عودتهما بعد أن أنهى الجيش مهمته، قال أبوموسى لهما: وددت لو فعلت لكما شيئاً إلا أننى لا أجد. ثم استدرك قائلاً: بل أجد، لديَّ مال أود إرساله إلى أمير المؤمنين ليوضع فى بيت مال المسلمين، فخذاه واشتريا به بضاعة من الشام، فإن بعتما ما اشتريتما فى الحجاز فخذا ربحه وادفعا برأس المال إلى أمير المؤمنين. ففعلا ذلك، فعلم سيدنا عمر بما كان من أبى موسى فقال: أكل الجيش أسلف أبوموسى أم أنه اختص ابنى أمير المؤمنين؟ قالا: بل اختص ابنى أمير المؤمنين. فقال عمر: إذاً آخذُ المال وربحه جميعاً. فسكت عبدالله، وقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين، ماذا لو خسرنا ونقص المال؟ قال: كنت آخذ المال الذى سلمكما أبوموسى. قال عبيد الله: فينبغى أن يكون الربح لنا وليس لبيت المال. فتحير عمر! فقال أحد الصحابة: يا أمير المؤمنين، ماذا لو جعلته قَراضاً (مضاربة)؟ قال: قد جعلته. فجعل بيت المال بمنزلة رب المال فى التجارة، وأخذ له نصيبه من الربح مع رأس المال.

وهذه الشراكة يغفل عنها كثير من الناس مع أنها شراكة مرنة تراعى تفاوت الخبرات والقدرات، وتحل مشكلة طرفيها بتمكين رب المال من استثمار أمواله، وتمكين العامل من التجارة لغيره مما يرجى معه الربح. وعلى الرغم من أن الشريعة لم تتدخل فى تحديد نسبة الربح التى يستحقها كل طرف من أطراف المضاربة، بل ما تراضيا عليه عند الاتفاق هو أساس القسمة بينهما؛ فقد وضعت الشريعة ضابطاً مهماً يضمن الرقابة الذاتية والاجتهاد لتحصيل أكبر قدر من الربح؛ حيث جعلت المستحَق لكل طرف نسبة مئوية (50 أو 40 أو 30%) أو غيرها من النسب أو المقادير المتفق عليها كالنصف أو الربع أو الثلث أو نحو ذلك، ولم تجز اشتراط مبلغ ثابت مقطوع كألف جنيه أو أكثر أو أقل. وإنما اشترطت الشريعة عدم ثبات نسبة الربح؛ لأن ثباتها قد يظلم أحد الطرفين، فإذا ربحت المضاربة كثيراً أخذ المشروط له مبلغ ثابت مقطوع جزءاً ضئيلاً من الربح، بينما يأخذ الطرف الآخر أضعافه عدة مرات، أما إذا لم تربح المضاربة إلا الألف الذى سيأخذه العامل فلن يأخذ شريكه شيئاً، وهذا بخلاف النسبة المئوية؛ فلو ربحت المضاربة جنيهاً واحداً مثلاً أخذ كل واحد منهما نصيبه بنسبته المتفق عليها. وهناك علة أخرى من عدم اشتراط مبلغ مقطوع؛ حيث إن ذلك قد يؤثر على الهمة التجارية للعامل فى المضاربة، فلو شُرط له ألف جنيه من الربح مثلاً لاجتهد فى تجارته حتى يضمن حصول الربح المشروط له، ولتقاعس وتكاسل بعد ذلك لعلمه أن ما يتحقق من ربح ليس له وإنما لصاحب المال، وهذا بخلاف اشتراط نسبة من الربح؛ فالعامل كلما اجتهد لتحصيل ربح أكبر فى المضاربة ارتفع ما يستحقه بنسبته المشروطة، وفى الوقت نفسه يرتفع المستحَق لشريكه صاحب المال، فلو فرضنا مضاربة شُرط للعامل فيها الثلث ولرب المال الباقى، فتحقق ربح مقداره ثلاثة آلاف جنيه مثلاً؛ يكون للعامل ألف ولرب المال ألفان، فإذا تحقق ربح مقداره تسعة آلاف؛ يكون للعامل ثلاثة ولرب المال ستة، وهكذا يزيد المستحق لكل طرف. ولذا فهى تحقق الرقابة الذاتية ولا تحتاج إلى رقابة رب المال؛ لأن للعامل مصلحة فى زيادة الربح كما لرب المال. أما إذا لم تحقق المضاربة أى ربح فلا شىء للمضارب؛ لأن رأس المال مملوك لصاحبه وليس للعامل فيه شىء، فإذا خسرت المضاربة فنقص رأس مالها؛ تحمل رب المال الخسارة من ماله، ولا يتحمل المضارب شيئاً من الخسارة ما لم يكن مفرطاً فى حفظ المال الذى هو أمانة فى يده، فإن كانت الخسارة بسبب إهماله وتفريطه كما لو ترك البضاعة فى عرض الطريق فسرقها الناس، أو كانت الخسارة بسبب تعديه هو نفسه على المال؛ فإنه يتحمل الخسارة كاملة من ماله.

وتتيح المضاربة لرب المال وضع ضمانات استثمار أمواله عند التعاقد، فله تحديد نوع النشاط التجارى الذى يمارسه العامل، كأن يشترط عليه الاستثمار فى مجال الأغذية أو الملابس أو الإلكترونيات أو غيرها من الأنشطة التجارية المشروعة، وليس من حق العامل أن يتاجر بمال المضاربة فى نشاط تجارى غير الذى حدده رب المال، ولرب المال أن يشترط على العامل ممارسة النشاط التجارى فى منطقة معينة دون سواها، وله أن يشترط عليه التعامل الفورى ومنعه من التقسيط، وله منعه من السفر لجلب سلع من الخارج، أو نحو ذلك من الشروط التى يراها محققة لمصلحته ومحافظة على رأس المال، ومن حق المضارب أن يقبل هذه الشروط أو يرفضها، أما إذا لم يشترط رب المال شروطاً معينة عند التعاقد انعقدت المضاربة مطلقة بحيث يجوز للعامل أن يتاجر فى مال المضاربة كما يفعل التجار فى أموالهم بما يراه محققاً لربح أكبر للمضاربة دون أن يعرضها لمخاطر غير معتادة فى مجال التجارة، كما أنه إذا انطلقت أعمال المضاربة دون أن يحدد الطرفان نسبة الربح المستحقة لكل طرف، فالأصل قسمة الربح مناصفة. ومتى انعقدت المضاربة أصبح العامل هو المسئول عن النشاط التجارى على جهة الاستقلال دون تدخل من صاحب المال إلا للتأكد من التزام المضارب بالمتفق عليه من شروط عند انعقاد المضاربة.

والشراكة بنظام المضاربة يرجى معها إذا ما روعيت فيها الضوابط الشرعية تحقيق أرباح تفوق بكثير أرباح البنوك التى يختلف الناس حول كثير من معاملاتها، بل إن المضاربة يمكن أن تحل كثيراً من مشكلات المعاملات المالية فى مجال البيع والشراء، ولذا فقد بدأت بعض البنوك فى استخدام هذه الشراكة مع العملاء؛ حيث يكون البنك مضارباً فى أموال مودعيه، فيكون لكل مودع نصيبه من الربح المحدد بالنسبة المئوية وللبنك الباقي؛ حيث يجوز شرعاً أن يضارب العامل الواحد فى أموال أكثر من شخص فى وقت واحد، ويقسم الربح بين الأطراف بالنسب المشروطة، مع مراعاة باقى الضوابط الشرعية.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
5.0

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg