| 14 مايو 2024 م

أراء و أفكار

الدكتور محمد طه عصر.. يكتب: الدكتور عادل سرور.. دمعة لا ترقأ وحزن لا يهدأ

  • | الخميس, 5 أكتوبر, 2017
الدكتور محمد طه عصر.. يكتب: الدكتور عادل سرور.. دمعة لا ترقأ وحزن لا يهدأ
الدكتور/عادل سرور

حزنت لموته قبل موته، وقد رأيت المرض يلح عليه، فلم يترك منه إلا مغيضاً بقيعة، وأشفقت من رثائه بعد موته، لا لأنى لا أجد ما أقوله فيه، ولكن لأنى أعرف كل شىء عنه ولا أدرى كيف أختصره؟؟.

كان رمزاً على ثروة لغوية ودعوية، تجاوزت الثلث قرن، كان خلالها طويل النجاد يجاهد أعداء العربية، ويعزف عن الشهرة، ويحاور أدعياء الدين، ويعف عن المغنم. وكان يتمتع بذكاء فطرى، يوجهك وكأنه يستشيرك، ويقودك وكأنه يتبعك، ويتعامل بحِس مُرهَف لا يكون إلا لشاعر، وذوق راق لا يكون إلا لفنان فاللغويون يختصمون فيما بينهم، ويصطلحون عنده، والدينيون يحكمونه فيما شجر بينهم، ويسلمون بحكمه، لهذا كانت توطئته فى القلوب عن قناعة العقل والروح، لا عن جهارة الصوت وعلو السوط.

وكان يمتلك صوتاً منشاوياً يؤهله للإذاعة، وحنجرة نقشبندية ترشحه للتواشيح، وبصرا بالقراءات يرضى الشيخين المعصراوى ورزق خليل حبة، ومهارة خطابية تسرى إلى الأرواح، كالنسمة الرخية، فتعطر الأنفاس، وتلطف الطباع، وتهدئ الأعصاب، وتقرب ما بين السماء والأرض. فترفع الناس إلى الملائكة بالنور وتنزل الملائكة عليهم بالرحمة.

إذا دخل المسجد خشعت الأصوات، حتى تكاد تسمع السكينة وهى تغشى، وترى الملائكة وهى تحف، وتظل الأبصار خاشعة، لا تنبس ولا تطرف، والأعناق ممتدة كالأغصان التى تطول للزهرة التى تنفح، فإذا انتهى المجلس تلبدوا على يديه بالقبل، يتنسمون منها عبير البركة، ويتخففون عليها من هواجس اللمم فاذا انقلبوا إلى أهليهم تعاملوا بأخلاق أهل الجنة، صفاء غير مشوب، ووداً غير مكذوب.

كان يتخذ من التصوف سلوكاً يقوم على الدعوة بالقدوة، ويعطى الروحانية من قلبه أضعاف ما تنحت المادية من نفسه، فتصالح مع أذنه ألا يفتحها لما ينغض الرؤوس، ويوغر الصدور، وتعاهد مع نفسه ألا يلمس الحياة بأعصاب عارية، وأن تظل كالورد ينفح بالعطر حتى إنوف قاطفيه، وتعاهد مع قلبه أن يكون عفيفاً فلا يملأ عينيه من شىء غيره.

تراه فى بُهرة المجلس يِسمت سمت الأولياء، إذا قال وعظ، وإذا فعل أرشد، وإذا لم يقل ولم يفعل كان كمنارة الشاطئ، تدل بالإشارة، أو تهدى بالشعاع.

كانت رسالته الدينية تنقية الإسلام من العقائد الواغلة، ووقاية الناشئة من المذاهب الوالغة، فإذا ظلموا أنفسهم جاءوه فاستغفروا الله، ثم شدوا الشكيمة واستقاموا على الطريقة، وإذا أغطش ليلهم فالقيام قليلاً، والتهجد طويلا، وإذا طلع الفجر الصادق، فالصلاة جماعة وقراءة الورد فذا.

وكان مثقوب الجيب واليد، ينطوى على عرق حاتمى، يبسط يديه لذوى العيْلة الذين أصابهم إعصار الغلاء، ولهم ذرية ضعفاء، فإذا وسوس إليه الشيطان أن يجعل يده مغلولة إلى عنقه تعوذ وقال بابتسامة الواثق: رزق الله موفور مادام القطر يقطر والأرض تأرِض، المال مال الله ونحن وكلاؤه وهؤلاء عياله. كنا مثلهم نفترش الحصا، ونلتحف الفضاء، ونحتسى الدموع. ونأكل من خشاش الأرض.

ولدنا فى «شُبرا» ولم نكن نملك شِبرا، وأقمنا فى «بيجام» وكانت كالآجام، لا نرى سامرا على مصطبة، ولا نابحا على تل، وبدعائهم طفنا أم القرى وما حولها وعدنا بالدولار واليورو، وركبنا المرسيدس وسكنا ذات العماد، ولبسنا الدِيباج، واتكأنا على الآرائك وتنبلَّنا بالموبايل والواتس والإنترنت والفيس بوك. وبهذا الخطاب العاطفى استطاع مع شيخه طيب الذكر د.صبحى عبدالحميد ترقيق الأكباد الغليظة لبناء مسجد أو معهد، وفتح القلوب الغُلُف لتأسيس مدرسة أو مستوصف، فكان إذا نزل بساحتهم لجوا بالدعاء له لحاجة الحجيج بالتلبية، وكان حريصاً على دعائهم حرص ألعابد المتحنث على تمام نسكه.

كان فى علوم اللغة حجة، وفى علوم الشريعة عمدة، وكان لغزارة مادته واكتمال عدته، له فى كل متن حاشية. وعلى كل حاشية تعليق، وكان يتجاوز النحو المعيشى إلى النحو الوظيفى، فيحدثك عن أدبية الإعراب، وعن النحو التوكيدى والنحو التحويلى، وعن نحو النص. ونحو الجملة، دون أن يتقصر على الألفية والأجرومية، والتحفة والجذرية، ويظل آصال يومه وأبكاره يهذب «بدائع البدائة»، ويراجع «الأشباه والنظائر» ويستدرك على «ما اتفق لفظه واختلف معناه» وهذه حالة نحوية فريدة لا تتأتى إلا لمتطبعى الصنعة الذين عرَّوْا أفراس الصبا ورواحله، يأخذون من كل فن بطرف، فإذا طارحته شيئاً ألفيته على لسانه كأنما فرغ لساعته من قراءته.

كان خطيباً ومحاضراً أكثر منه كاتباً ومؤلفاً، ولم يكن فى تأليفه وراقا يتسلل من الرفوف إلى السقوف، ثم يتدلى إلى المماشى، ويتسوق فى الحواشى، ولكنه كان غواصاً ماهراً، فى عقله خارطته، وفى قلبه بوصلته لا يقف على السطح ولا يستقر عند القاع بل يضرب بيديه فى الأعماق ليستخرج «الدرر السنية» كتابه المشترك مع توأم روحه المحرصاوى رئيس الجامعة ليشكلا معا سيمفونية متناغمة الإيقاع ولكل طريقته فى العزف ووتره فى الرنين.

كثيراً ما كنت أصادفه ضحوه يوم أو غدوته على مدخل الكلية بين رفقائه الثلاثة، د.أحمد مهدى، د.غانم السعيد، د.أحمد ربيع، يتهادى فى مشيته لا معصرا خده، ولا ثانيا عطفه ثم يدلف إلى محاضرته بعد أن يلقى التحية ويتلقاها بأحسن منها.

هكذا عاش وهكذا رحل فإذا جزعت القلوب لفقده فلأنه كان رسول مودة فى زمن عزت فيه المودة. كان يجوب الآفاق حاملاً القرآن فى يمينه والسنة فى يساره حتى حصره المرض فى غرفة بالمشفى كما تنحصر دنيا الطائر فى قفص من ذهب فانقلب نشاطه لونا من التأمل وهو يرى روحه المتهجة تقطعت أقباساً كأنفاس الشموع، لا تظهر فى حلك الليل ولا تقوى على نسم الريح، وعز عليه أن يرى جسده وقد صار كأعواد القمح إذا استحصد، وتهالك بعضه فوق بعض ولم يعد يقو على حمل سنبله.

وماذا تفعل الزهرة الندية إذا قذفت بها الريح بين سفى الرمال وعصف السمائم؟ لم يستطع أن يحبس الدمعه فى عينيه، أو يكظم اللوعة فى ضلوعه لولا أن ربطت يد السماء على قلبه فمنحته البصيرة التى تضىء حلكة القلب، والإيمان الذى يخفف وطأة الكرب، ويكشف الغطاء عن بصره ليرى مقعده فى الجنة، عندئذ تبسم ضاحكاً، وأيقن أن منحته فى محنته وأنه قد آن للساهد أن يغفو، وللناصب أن يستريح، فودع السوڤا لدى والإنترفيرون وألقى للطب معاذيره.

أما أسرته فقد تألمت حتى أشفق الألم، وراحت تنظر إلى السماء نظر الأمل اليائس فى القلب الضارع وهى ترى عائلها الوحيد قد شحب محياه وتخدد خداه وترك الأنس وحشة، والملاء خلاء، ثم ذهبت به كبوة الداء كما تذهب شمس الشتاء بأنداء الفجر، ولا ينبيك عن خُلُقِ الليالى... عن فقد الأحبة والصحابا.

كان البدر فى المخاض، وبنات القطا على فرع غصنها المياد تنعمن فى طيب المنام لم يزعجهن إلا صوت النعى يتردد صداه فى آذانهن كاللحن الجنائزى فى أفواه النوادب ليفجع المكروبين والغارمين وذوى العيلة الذين ألفوا انتظار يده الحانية، انتظار الأرض الهامدة طلعة الربيع.

أما مريدوه وأهل بلدته فقد حزنوا عليه حزن اليتامى على من يعز الصبر عليه وجزعوا جزع الثكالى على من يصعب العوض عنه، وأما توأم روحه د.المحرصاوى فقد بكاه بكاء الموجوع وهلع لموته هلع الملسوع ولم يكن حزنه فقط بالعبْرة التى تُطفئ بل أيضاً بالحسرة التى تَحرق.

وفى جنازة لم يحظ بها محافظ أو وزير كان المشيعون من كل حدب ينسلون وعن أيمانهم وشمائلهم نواكس الصخور على شواهد القبور كأنها أيفاع الحور، والنخل باسقات على طريق المقبرة كأنها أيد ضارعة تقول فى صمتها الناطق: اللهم قد جاءك يسعى بصدقة جارية، وعلم نافع، وولد صالح فاجعل روحه للخلد كما جعلت ذكره للخلود.

ونحن إذ نذكره اليوم فإنما نذكر بالشرف والفضيلة والعالمِية، غصنا ذوى ونجما هوى، وقطبا ثوى، وروحا غفا فى ظلال الخلد ولكنه لم يمت.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg