| 10 مايو 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: خطاب الدين والجهاد من أجل السلام

  • | الخميس, 12 أكتوبر, 2017
رجائي عطية.. يكتب: خطاب الدين والجهاد من أجل السلام
رجائي عطية

يختزل البعض معنى الجهاد، وهو مكرمة إسلامية، فى معنى الحرب والقتال فى سبيل الله، ولا يكاد معظمهم يفهم للجهاد معنىً غير هذا المعنى!

بيد أن أمثال هؤلاء المختزلين للمعنى بحسن نية، خطبهم أيسر كثيراً ممن أخذوا «الجهاد» على معنى غريب، أدخلوا فيه العنف والقتل والذبح وقطع الرؤوس، والإهلاك والتدمير، بمقالة إن ذلك فى سبيل الله، وإنهم به يتصدون لملاحقة الكفر والكفار، وأطلقوا لأنفسهم الحبل على الغارب للتكفير، والحكم على الناس بالكفر، ولم يقصروا أحكامهم الضالة على المخالفين لعقيدتهم، وإنما مدوه أيضاً إلى المسلمين، فابتلوا الناس جميعاً بشرورهم، وضربوا الإنسانية بكل قيمها النبيلة، وقوضوا سلام العالم وكافة مجتمعاته!!

مفهوم الجهاد فى القرآن الكريم، والسنة النبوية

لم ترد كلمة «حرب» بمعنى القتال فى القرآن الكريم سوى أربع مرات فقط، بينما وردت فيه كلمة «الجهاد» اثنتين وثلاثين مرة.

والواضح فى السياق القرآنى، أن كلمة «جهاد»، لا تأتى فيه دائماً بمعنى القتال فى سبيل الله، وإنما وردت بمعانٍ أخرى غير هذا المعنى، وبعيدة كل البعد عنه، فالجهاد يُطلق على معنى «جهاد النفس»، وهو جهاد للنفس الأمّارة بالسوء، وجهاد للهوى والشيطان، وجهاد لترويض النفس على الطاعات، وإلزامها بأوامر الله تعالى وبناهيه.

وقد يكون هذا الجهاد فى القرآن بإنفاق المال فى البِر والطاعات، وفى استخدام العلم والحجة والبرهان فى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد يكون هذا الجهاد بالقرآن الكريم ذاته، أى بآياته وحكمه ودلائله الحسية والعقلية، والجهاد بالقرآن ورد بصريح هذا اللفظ فى الآية (52) من سورة الفرقان، ولفظ «به» الوارد بهذه الآية، عائد على «القرآن» المذكور فى الآية الأسبق، وهى الآية (50) من ذات سورة الفرقان.

وأفضل الجهاد فى حكم الإسلام، هو جهاد النفس، فمجاهدتها تأتى على رأس الفضائل، وأسبق من أى جهاد آخر، بما فى ذلك جهاد العدو فى ميدان القتال، ولا غرابة فى ذلك، لأن من لا يستطيع جهاد نفسه وإلزامها بالطاعات والصراط المستقيم، لن يستطيع جهاداً لعدوه فى القتال وفى غير القتال.

روى بإسناده عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: «المجاهِدُ مَنْ جاهد نفسه فى طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب».

وفى حديث آخر للنبى عليه الصلاة والسلام: «أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك فى ذات الله عز وجل».

الإسلام دين الحق والسلام

اقتضت عالمية الإسلام، ودعوته للناس كافة، ليكون هداية للعالمين، ممتدة بغير حد فى المكان وفى الزمان، وغير مقصورة على قوم أو أقوام بعينهم، ولا على جنس دون أجناس اقتضت أن ينظر إلى الإنسانية باعتبارها أسرة واحدة، عمادها الإنسان الذى كرمه الله تعالى من حيث هو إنسان، بقوله عز وجل «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء 70).

الإنسانية فى الإسلام أسرة واحدة، تنتمى إلى جذور واحدة، وإلى أصل واحد، وتدين لرب واحد هو رب العالمين، لا تفاضل بين آحادها إلاّ بالتقوى والعمل الصالح. يقول الخالق البارئ جل شأنه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات 13). وخطاب الآية الكريمة كما هو ملحوظ بصريح لفظها موجهة إلى الناس كافة لا إلى المسلمين خاصة.. فتبدأ بقولها: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ»، موجهةً خطابها إلى جميع الناس.

الناس أمام رب العالمين هم مخلوقاته التى خلقها سبحانه من نفس واحدة، وقال فى قرآنه المجيد: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» (النساء 1).. وفى الحديث: «ألا إن ربكم واحد.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم».

النبوة المحمدية نبوة للعالمين.. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» (سبأ 28).. «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (الأعراف 158).. والإسلام لا ينغلق على بنيه ويدير ظهره للآخرين، وإنما هو قد اتسع للرسالات كافة، ونبه إلى وحدة هذه الرسالات الإلهية وإلى اكتمالها بالإسلام «الدعوة الخاتمة»، وَوَقَّرَ الرسل والأنبياء فهم جميعاً فروع شجرة واحدة وبناة بيت واحد اكتمل بنيانه بالإسلام.

رسالة الإسلام هى رسالة للعالمين، وعن هذا الفهم العميق الذى يؤهله للقيام بهذا الواجب الكبير فى تعطير الحياة وصناعة العمران الخلقى والأدبى والمادى.. يعانق العلم، وينتصر للحرية، ويرسى العدل، والمساواة، والتسامح، وهو لا يستطيـع أن ينجز هذه الملحمة المعهود بها إليه ما لم تمتد الجسور قوية دافئة بينه وبين الدنيا بأسرها.. يقاربهم بروحه السمحة، وبمنظومته العقلية والعلمية والحضارية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التى تعانقت فى تناغم متدفق لتجعل لحياة الآدمى غاية ومعنى، وتقربه بالعمل الصالح إلى الدوحة الربانية التى أرادها الواحد الماجد سبحانه عز شأنه، للعالمين.

دين المحبة والسلام

أيادى الإسلام ممدودة إلى الدنيا بالمحبة والسلام.. لأن الإسلام دين الحق والسلام.. لا ينفصل الحق فيه عن السلام، فلا سلام بغير حق.. الحق هو الحامى الحقيقى للسلام.. لا يقدر على السلام ولا يناله إلاّ من كان ملتزماً بالحق ساعياً إليه حريصاً عليه.. والتزام الحق مجاهدة وجهاد، يبذلهما الإسلام ويتعين أن يبذلهما فى حرصه الدائم على السلام مهجة وروح ورسالة الإسلام..

لفظ «السلام» هو تحية الإسلام، ولفظ الإسلام ذاته: عنوان الدين، منحوت من مادة «السلام» لأن السلام والإسلام يلتقيان فى توفير الأمن والطمأنينة والسكينة.. وكان نبى الإسلام بذاته «رحمة مهداة».. وفى القرآن الحكيم أنه عليه الصلوات هو هدية الرحمة من السماء إلى العالمين.. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء107).. وفى الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله جعل السلام تحية لأمتنا، وأماناً لأهل أمتنا». ويقول: «السلام قبل الكلام».. «لا تؤمنوا حتى تحابوا.. ألا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم».. «إن من عباد الله أُناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانتهم من الله تعالى: قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور.. لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس».. «لا يدخل الجنة إلاّ رحيم.. من لا يَرحم لا يُرحم».. «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء».. ولم يقتصر بذل الرحمة فى الإسلام على بنى آدم، وإنما يمتد بذلها إلى الطير والحيوان.. «من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلاناً قتلنى عبثاً ولم يقتلنى منفعة».. وفى الحديث أيضاً: «عذبت امرأة فى هرة حبستها حتى ماتت.. لا هى أطعمتها وسقتها.. ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض».. وقد أثر عن أبى الدرداء أحد نجباء مدرسة النبوة، أنه كان يتبع الصبيان فيشترى منهم العصافير فيرسلها وهو يقول: «اذهب فعش» !

حجة الإسلام إلى الدنيا هى الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، لا يبغّض ولا يشاحن ولا يكره.. «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» (النحل 125).. «أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (يونس 99).. «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ» (البقرة 256).. «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ» (العنكبوت 46).. «وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ» (آل عمران 20).. «السلام» اسم من أسماء الله الحسنى، معبر عن بعض صفاته.. يدرك المسلم السوى بنهجه ووجدانه أنه مدعو لاكتساب ما يستطيع ببشريته أن يكتسبه من هذه الصفة.. يفهم منها أن «السلام» هو من تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر.. يدرك أن سبيله إلى هذه الغاية أن تسلم نفسه وقلبه عن الغش والحقد والحسد.. عن إرادة الشر.. أن يأتى الله بقلب سليم.. أن يتقرب إليه سبحانه بالسلام الذى اتخذه جل جلاله اسماً من أسمائه.. أن يسلم الناس من يده ولسانه، وأن يكون جسراً لإفشاء السلام بين الناس..

البينة والهداية عماد الإسلام وحجته، والمحبة والسلام روحه وعطره.. المسلم مأمور بالأخذ بروح الإسلام ومهجته وتسامحه.. «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف 199).. «ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت 34).. «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِى السِّلْمِ كَآفَّةً» (البقرة 208)..

السلام مهجة وروح الإسلام.. تحية الله للمؤمنين تحية سلام: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (الأحزاب 44) ومستقر الصالحين دار أمن وسلام: «وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ» (يونس25).. «لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ» (الأنعام 127)، وأهل الجنة لا يسمعون لغوا من القول، ولا يتحدثون بغير لغة السلام: «لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً» (الواقعة 25، 26).

يد الإسلام ممدودة إلى الدنيا بالسلام

بهذا السلام، مد الإسلام يده إلى الدنيا.. دعا الناس إلى عبادة الواحد الماجد البارئ المصور رب العالمين.. بدأ الرسول عليه السلام بأهل بيته فدعاهم إلى دين الله، منهم من أسلم، ومنهم من صده صداً عنيفا وآذاه فاحتمل الأذى صابراً محتسباً.. وثنى الرسول عليه السلام بقريش، آمن منهم من آمن، وأظهر له الباقون الشنف والصد والعدوان.. لاحقوه بالأذى، وتطاول عليه السفهاء، وابتدعوا صنوفا فى إعناته وإيذائه هو والمسلمين، فاحتمل واحتملوا صابرين محتسبين.. لم يردوا على العدوان بعدوان، ولم يجاوبوا الأذى بأذى مثله أو بأقل أو بأكثر منه.. استعوضوا ما يحدث لهم عند الله، يدعون إلى ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة..

لذلك فغريب عجيب اتهام الإسلام بأنه دين سيف وقتال، فذلك هو الباطل بعينه، تنبه إلى سخفه الكاتب المفكر الغربى الكبير توماس كارليل صاحب كتاب «الأبطال وعبادة البطولة».. هو إذ اتخذ من رسول القرآن مثلاً لبطولة النبوة، قال ما معناه فيما نقله عنه عباس العقاد فى كتابه: «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»:

«إن اتهام محمد بالتعويل على السيف فى حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم. إذ ليس مما يجوز فى الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس أو يستجيبوا لدعوته، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم فقد آمنوا به طائعين مصدقين وتعرضوا للحرب من أعدائهم قبل أن يقدروا عليها».

هذه حقيقة لا يختلف عليها منصف.. تنطق بها مراجع وكتب السيرة كافة.. روت جميعها حجم ونوع الإعنات والتنكيل والقسر والعدوان والإيذاء الهائل الذى تعرضت له الدعوة الإسلامية تعرضاً لم ينج منه الرسول ذاته.. حتى وصف ذلك فقال: «لقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت فى الله وما يخاف أحد، وقد أتت علىّ ثلاثون ما بين يوم وليلة وما عندى ما يأكله ذو كبد إلاّ ما يوارى إبط بلال»!!!

لعل صخور ورمال بطحاء مكة، لا تزال تروى ملاحم التعذيب التى تعرض لها المسلمون حتى مات بعضهم صبراً على أيدى طواغيت كفار قريش.. لم تحم محمداً ذاته منزلته وسط البطن الهاشمى القرشى.. لم تحمه من أن تشج رأسه، وتلقى عليه الأقذار، ويترصده القرشيون وعلى رأسهم عمه أبولهب وامرأته حمالة الحطب وأبوجهل وغيرهم بالإيذاء والتكذيب والسخرية والتنكيل.. تطاول عليه الكبار والصغار والسفهاء.. عنفوا به أشد العنف وشجوا رأسه فى الطائف وقذفوه بالأحجار والأقذار حتى أعضل به وسقط إعياءً إلى سور جدار يبكى إلى الله ويشكو ظلم وجبروت وطغيان وعدوان الإنسان.. يدعو ربه فى كلماته الباكية فيقول.. «إليك أشكو قلة حيلتى وضعف قوتى وهوانى على الناس.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى.. إلى من تكلنى.. إلى بعيد يتجهمنى أم قريب ملكته أمرى، إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى، بيد أن عافيتك أوسع لى».

أقام رسول الإسلام فى قومه يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى دين الله، يصـبر على تكذيبهم وسخريتهم وأذاهم، ولا يقابل نكيرهم بنكير، ولا يلين لإغراءاتهم ولا يقبل منهم إلاّ الإيمان.. وهم لا يريدون إيماناً، ولا يسيغون ما يدعو إليه محمد من عدل ومساواة وهجر للأصنام والأوثان، وإنصاف للعبيد والمستضعفين.. فذلك يقوض دولة الطواغيت وهم لا يقبلون لدولتهم تلك وهناً ولا ضعفاً ولا تقويضاً!!..

لم يتوقف جبروت قريش وإيذاؤها على محمد والمسلمين معه، وإنما امتد إلى كل بنى هاشم، ضيقوا عليهم، وغالبوهم وتظاهروا عليهم، وحصروهم فى شعاب مكة.. حظروا على قريش أن يكون بينهم وبين بنى هاشم معاملة أو بيع أو شراء أو صهر أو اتصال ما.. وبذلوا فى التنكيل بهم كل سبيل.. حصروهم حتى اشتد عليهم الجهد وعظم عليهم البلاء.. حتى جاع صبيتهم فما ينامون الليل.. ولكنهم صبروا كراماً.. نظر المسلمون المغلوبون على أمرهم فلم يجدوا أمامهم إلاّ الهجرة الأولى ثم الثانية إلى الحبشة.. هجروا وطنهم، وديارهم، وأهليهم.. وتغربوا.. شدوا الرحال مهاجرين من الظلم ليأمنوا بعض الأمان على أنفسهـم فى الوطن الغريب لدى شعب غريب.. لم تنفعهم مسالمة، ولم تجدهم هجرتاهم إلى الحبشة، وإنما لاحقوهم ولاحقوا أسرهم ونبيهم بالإعنات والإيذاء فى كل سبيل، حتى لم يجدوا بداً من الالتجاء إلى يثرب وترك أعز بقاع الأرض عليهم.. مكة المكرمة والبيت العتيق.

استكثروا على المسلمين الهجرة إلى الحبشة، فأرسلوا وفودهم فى أعقابهم إلى النجاشى لتحريضه عليهم.. ودفعه لردهم إلى مكة ليواصلوا إعناتهم وإيذاءهم.. بل ولم يدعوا محمداً رسول الإسلام يهاجر إلى يثرب فى سلام.. اجتمع طواغيت قريش فى «دار الندوة» للتآمر عليه واجتمعت كلمتهم على التربص به حول داره وقتله متضافرين ليتفرق دمه بين القبائل!!

مع ذلك كله، وبرغمه، لم يبادئ المسلمون أحداً بعداء، لا حتى ردوا عدواناً بعدوان.. صبروا واحتسبوا.. ولم يعمدوا بعد ذلك بدهر إلى القوة إلاّ فى موقف دفاع أو درء فتنة أو لمواجهة قوة باغية متجبرة متعدية تصدهم عن الإقناع والدعوة إلى الله.. هم سالموا الحبشة، بل وهاجروا إليها، وحين اتجه نبى الإسلام بدعوته إلى الفرس والروم، اتجه بالحسنى صدوراً عن قاعدة إسلامية عليا.. «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».. فماذا كان رد كسرى؟!.. أرسل إلى رسوله فى اليمن يأمر بتأديب النبى أو ضرب عنقه وإرسال رأسه إليه(؟!)، أما الروم فقد بادروا بإرسال طلائعهم إلى تبوك.. ومع ذلك انصرف المسلمون دون قتال حين وضح أن الروم لا يتأهبون لزحف.. أما فى الجزيرة العربية، فلم تقع حرب بين المسلمين وقبائلها إلاّ أن تكون دفاعاً أو مبادرة لاتقاء هجوم وشيك أو مبيت!.

يهود المدينة لم يضمروا للمسلمين إلاّ شراً.. «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ» (المائدة 64).. بنو قينقاع نقضوا عهدهم بعد غزوة بدر الكبرى وهتكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار.. بنو النضير نقضوا بدورهم العهد مع المسلمين ودبروا لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام بإلقاء حجر عليه غيلة وهو بين ظهرانيهم.. بنو قريظة نقضوا هم الآخرون العهد، وتآمروا مع الأحزاب على المسلمين.. ولم تقف القبائل العربية المجاملة لقريش أو المتنافسة معها موقف المتفرج.. أغاروا، وقطعوا الطريق، وتآمروا، وبادروا المسلمين بالعداوة، وأصابوا المسلمين فى أنفسهم وأموالهم.. وتعرضوا للحارث بن عمير الأزدى رسول النبى عليه السلام إلى أمير بصرى فقتلوه.. ولم يتخلف يهود خيبر عن الكيد والإيذاء والنكال، وحاولوا قتل النبى غدراً فى المدينة!

هذه المطاردة والإعنات والإيذاء، والمحاصرة والتضييق والتنكيل كل ذلك لم يكن أمراً عارضاً ولا موقوتاً.. بل هى حرب محمومة موصولة أخذت تشتد وتستعر يوماً بعد يوم.. تزداد شراسة وتزداد عنفاً.. كانت بالنسبة لطواغيت قريش وطواغيت اليهود والقوى المحيطة بشبه الجزيرة العربية معركة مصير!!.. نظروا للإسلام فضاقوا به كل الضيق.. ضاقوا بالتوحيد وعبادة الواحد الأحد رب العالمين التى تقوض مكانة الأصنام والأوثان التى إليها الحج بالبيت العتيق.. وضاقوا بالعدل والمساواة وكل ما ينادى به الإسلام من انصاف للعبيد والمستضعفين.. هذه دعوة تقوض ملكهم وتهز منازلهم ولا محل لقبولها ولا لمهادنتها.. فشنوا هذه الحرب الضروس من جميع الجبهات.. لا يدعون شراً ولا نكراً دون أن يتآمروا به على المسلمين، إعناتاً وإيذاءً وتقتيلاً.. مضيقين عليهم كل سبيل.. فماذا يفعل المسلمون؟!!

هنا.. حين يحدق الموت والدمار والعسف من كل جانب يكون الجهاد مرادفاً لحق الحياة والوجود.. القعود عنه تفريط.. وإيجابه هنا هو إيجاب المضطر الذى لا مخرج له سوى الدفاع بالجهاد.. الجهاد هنا هو من أجل الحياة.. والسلام.. لا ينال السلام إلاّ من كان قادراً على الجهاد.. كان الجهاد الإسلامى لحماية الحق والسلام لا للبغى والعدوان.. من يحب السلام ويعتنقه يجب أن يكون مستعداً قادراً على حمايته.. يروى تاريخ بنى الإنسان أن البغاة لا يدعون «المسالم» فى سلامه ما لم يكن قادراً بالحق على حمايته والدفاع عنه.. لن يكفى «المسالم» مسالمته ما دام فى الدنيا شر وبغى.. ولم يتوقف الشـر ولا البغى منذ خلق الله آدم وحواء حتى الآن.. لم يفارق الإسلام سلامه حين قبل الجهاد لضرورة دفع قوى الشر والعدوان عن الإسلام والمسلمين.. الجهاد لم يقرر للعدوان، وليس حرباً للاعتداء والبغـى.. الجهاد وسيلة مقدورة حين لا يكون هناك مندوحة عنه لمواجهـة ورد الشر المصمم على البغى والظلم والعدوان.. لذلك فهو محكوم بالضرورة الداعية إليه، وبأحكامه وحدوده وضوابطه.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg