| 29 مارس 2024 م

أراء و أفكار

الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف.. يكتب: عشوائية الفتاوى

  • | الجمعة, 20 أكتوبر, 2017
الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف.. يكتب: عشوائية الفتاوى
د. عباس شومان .. وكيل الأزهر الشريف

الفتوى فى أبسط معانيها هى بيان الحكم الشرعى فى مسألة ما، ويلجأ المكلفون إلى طلب الفتوى لحل مشكلات تصادفهم فى حياتهم اليومية فيما يتعلق بأمور العبادات أو المعاملات، وللفتوى قواعد وضوابط تنظم إصدارها نظراً لخطورتها على الفرد والمجتمع، فهى تتعلق بالحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز فى شريعة الإسلام، ومن ثم ينبغى على المفتى الإلمام بمصادر التشريع المختلفة بداية من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التى يرجع إليها المفتى قبل إصدار الفتوى فى المسألة محل السؤال، فإن لم يكن، فاجتهاد مَن سبقوه من السادة الفقهاء، فإن لم يجد، فتطبيق القواعد الكلية الكبرى والقواعد الفرعية التى استخلصها علماء الفقه والأصول المبنية على النصوص الشرعية أو الاستقراء للفروع الفقهية، ومن هذه القواعد: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، والعادة محكمة، والأصل فى الأشياء الإباحة، وإذا تعارضت مفسدتان روعى أيسرهما، وارتكاب الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد... إلخ، فإن لم يجد المفتى من ذلك كله ما يناسب المسألة محل الفتوى، وهذا نادر جداً؛ فعليه أن يفتى بما يلائم الاتجاه العام للتشريع الإسلامى الحنيف، وهو إباحة النافع وتحريم الضار.

وهناك شروط أخرى واجبة فى المفتى الذى يتصدر للفتوى منها أن يكون من أهل الاختصاص المتبحرين فى دراسة العلوم العربية والشرعية، وفى مقدمتها علوم القرآن الكريم والسنة النبوية والأصول والفقه، ويلزمه مع ذلك رجحان العقل، والاتزان النفسى، ومعرفة واقع الناس وأعرافهم بصفة عامة وحالة السائل طالب الفتوى بصفة خاصة لكى يفتيه بما يناسبه مما يجوز فى المسألة محل الفتوى؛ فقد يسأل أكثر من شخص سؤالاً واحداً فيفتى المفتى المؤهل للفتوى الممتلك لأدواتها كل سائل بفتوى مختلفة عن الآخر وفقاً لحالته، فمثلاً إذا كان هناك زوج شاب طلق زوجته ثلاثاً بلفظ واحد وهو يسأل عن حكم رجعتها واستئناف الزوجية بينهما، وعند سؤال المفتى للشاب ومطلقته عن حالهما معاً وطبيعة حياتهما تبين له أنهما تزوجا حديثاً، وأن كلاً منهما يبغض الآخر، وأنهما أُكرها على الزواج من قِبل الأهل، وأنهما يبحثان عن فتوى تجيز لهما البقاء زوجين واستمرار الزوجية إرضاء للأهل من الطرفين؛ فعندئذ يفتيهما المفتى بعدم جواز استئناف الزوجية بينهما، وهذا هو المناسب لحالهما بناءً على ما سمعه منهما، تخليصاً لهما مما فرضه الأهل عليهما ونفياً للحرج عنهما أمام أسرتيهما، فضلاً عن أن واقع حالهما وما يكنه كل واحد منهما للآخر من بغض وتربص وتصيد أخطاء يوضح أن الزوجية لن تدوم بينهما.

أما إذا كان هناك زوج آخر فعل مثل ما فعل الزوج الأول؛ أى طلق زوجته ثلاثاً بلفظ واحد، ويسأل عن حكم رجعتها واستئناف الزوجية بينهما، لكن تبين للمفتى أن لدى هذا الزوج أبناء من مطلقته يحتاجون إلى رعاية واهتمام، وأنه يحب مطلقته لكن ظروفاً معينة جعلته يتعجل بالطلاق، وفى الوقت ذاته ترغب زوجته فى استمرار الزوجية بينهما، وأن كل واحد منهما نادم على ما آلت إليه الأمور؛ فعندئذ يفتيهما المفتى نفسه بأن الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد يقع فى حالتهما طلقة واحدة وليس ثلاثاً، ومن ثم يجوز لهما الرجعة واستئناف الزوجية خلافاً للفتوى الأولى للسائل الأول، واعتبار ما نطق به السائل الأول ثلاث طلقات، وما نطق به السائل الثانى طلقة واحدة على الرغم من أن النطق واحد، كلاهما وارد عن الفقهاء فى المسألة؛ وذلك لاختلاف حال السائل الأول عن السائل الثانى.

وليس خافياً على أحد ما تشهده الفترة الأخيرة من تخبط وتجرؤ على الإفتاء من غير المؤهلين، بل من غير المتخصصين أصلاً، بدعوى أن من حق كل إنسان أن يعمل عقله ويقول بما يستريح له، ولو كان الدين بالرأى لكان المسح أسفل الخف أولى من أعلاه. ومن المؤسف فى هذا السياق أن بعض أهل العلم والاختصاص لا ينتبهون إلى وقع ما يفتون به على الفرد والمجتمع من حيث ملاءمته للعصر وواقع الناس؛ حيث يكتفون بورود ما يفتون به فى بطون بعض الكتب دون مراعاة تغير الزمان وتجاوزه لبعض ما هو مذكور فى بطون الكتب، فضلاً عن عدم ملاءمته لواقع الناس وأحوالهم وثقافتهم وأعرافهم، وقد يستدرجون لتناول مثل هذه الموضوعات والنطق بمثل هذه الفتاوى بسوء نية من المستدرِج بهدف إحداث بلبلة ودخول المجتمع بخواصه وعوامه إلى معارك كلامية لا طائل من ورائها إلا محاولة بث الفرقة والشقاق وتحقيق مآرب شخصية أو أيديولوجية لأصحابها، ومن ذلك مسألة ما يسمى بنكاح الوداع ووطء البهائم، تلك المسألتان اللتان ملأتا الدنيا ضجيجاً فى الأيام الأخيرة على الرغم من أن ما قيل فيهما وما أثير حولهما لا يتعلق بموضوع الفتوى على الإطلاق، فأصل المسألتين: هل وطء الميتة أو البهيمة يعد من الزنا الذى هو كبيرة من الكبائر أو لا؟ وليس معنى القول إنه ليس من الزنا وفقاً لبعض الآراء الفقهية أنه حلال جائز كما فهم بعض المتربصين والجهلاء، فوطء الميتة انتهاك لحرمة الموت، ولا تقبله النفس السوية، فضلاً عن عدم مناسبته لحال الحزن الذى يكون عليه الزوج بسبب رحيل شريكة حياته، بالإضافة إلى أن موت أحد الزوجين ينهى الزوجية، بدليل أن التوارث الذى هو من آثار الموت يحصل بمجرد خروج الروح، والوطء من أحكام الحياة، ومن ثم فهما لا يجتمعان.

ولذا، فإنه ينبغى على غير المؤهلين الابتعاد عن ساحة الإفتاء صيانةً للمجتمع من التشرذم، وتوفيراً للجهد والوقت الضائع فيما لا جدوى منه واستثماره فيما يحقق للناس الخير، ووقايةً لأنفسهم من النار، فأجرأ الناس على الفتوى أجرؤهم على النار، وليتدبروا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن يقضى بين الناس: «قاضٍ فى الجنة وقاضيان فى النار، أما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به بين الناس، وأما اللذان فى النار فرجل عرف الحق فقضى بغيره فهو فى النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو فى النار»، وهذا ينطبق على المتصدى للإفتاء؛ لأن الفتوى نوع من الحكم وإن كانت غير ملزمة، وينبغى على أهل الاختصاص عدم الاستناد إلى الآراء الشاذة، ومراعاة واقع الناس وثقافتهم وأعرافهم، وانتقاء ما يناسب زمانهم ومكانهم، وعليهم الانتباه إلى المتربصين والمغرضين الذين يحرصون على استدراجهم.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg